د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 25231
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مقدمة
حضي المفكر الإيطالي نيقولو ميكافيلي(Niccolo Machiavelli) اهتماماً كبيراً يستحقه (بتقديرنا) قلما حضي به مفكر آخر (من مفكري العصور الوسطى) في كافة أرجاء العالم وفي ثقافات معظم الأمم.
وكنا قد درسنا أعمال هذا المفكر في مراحل دراسية في إطار مباحث الفكر السياسي الحديث، ولكن فهمنا لهذا المفكر يتطور، مع إدراكنا المغزى الحقيقي للأفكار التي أراد ميكافيلي أن يعبر عنها، الدولة أولاً والدولة ثانيا وثالثاً، وفي سبيل الحفاظ على الدولة وهي برأيه قيمة مادية كبيرة جداً، أباح ميكافيلي للسياسي، للأمير(الحاكم) أو حاشيته من رجال السياسة والإدارة، إدارة مصالح الدولة بالوسائل العقلية، وترك المؤثرات العاطفية جانباً، التي نادراً ما لها وزنها المؤثر في تقرير سمت الأحداث والتطورات، لا سيما تلك الخطيرة منها المؤثرة على مصير الدولة، ويسجل له أنه كان من أوائل المفكرين الذين طالبوا بوضوح، إبعاد المؤسسة الدينية عن الحكم، وكانت مثل هذه الأفكار في تلك القرون، لها عواقبها الوخيمة، وليست نادراً ما أفضت إلى أن يدفع المفكر حياته ثمناً لها.
في البدء كان نظام الحكم هو عبارة عن اتحاد تام بين السلطتين: الروحية، الكنيسة (المعبد) والزمنية، القيصر (الملك) الذي يحكم إما وفق نظرية الحق الإلهي (Devine Right) أو شبه إلهي(َQuasi Divune)، بل ربما هناك من الحكام من يزعم أنه مخول من الله، أو قد حل به روح الله (Inkarnation). ويستند بذلك على ما شاء له من معطيات عقلية، بعضها حيكت بدرجة عالية من المهارة، تمكنت من عقل فئات كثيرة من المجتمعات. بيد أن مرحلة سطوة المعبد(الكنيسة) أنقضت في مسيرة استغرقت قروناً، مقابل تصاعد وبروز السلطة الزمنية المتمثلة بالملوك والقياصرة والأمراء.
وطيلة قرون هيمن على الدولة تحالف بين المعبد والحكم، في سياسة أطلق عليها اتحاد أو تحالف سلطة السيفين(Glasnias): سيف الكنيسة وسيف الملك. ولم تكن الدولة سوى مطية تؤمن مصالح هاتين المؤسستين، فلا أهمية لمؤسسات الدولة ذات الصلة الوثيقة بمصالح الشعب على المدى القريب والبعيد. وكانت المؤسسة الدينية إن تعرضت للضعف، لأي سبب من الأسباب، فذلك يعني طغيان الملك، أو بالعكس إذا كان بدت سلطة الملك واهنة، تبرز وتطغي سلطة المؤسسة الدينية. وكان هناك عبر التاريخ ولأسباب عديدة، ملوك ضعفاء، مقابل مؤسسة دينية تتفاوت قوتها بين مرجعية وأخرى. ودون ريب فإن الأمر لم يكن يجري باتساق متكامل نهائي، بل كانت التيارات التي تهب في هاتين المؤسستين، هي التي تقرر سياسة الدولة في نهاية المطاف، وهي على الأرجح لا علاقة لها بمصالح الدولة.
وفي سبيل لأبعاد هيمنة المؤسسة الدينية، ناضل العلماء على خطين متوازيين:
الأول: هو رفع مستوى وعي الناس وإشاعة أفكار التحرر والأدب والفن، وقبل كل شيئ، نشر المنجزات العلمية والفلكية والجغرافية، فلا شيئ يدحر الظلام سوى الضياء.
الثاني: هو النضال من أجل تقليص الهيمنة السياسية في الحكم، من خلال إضعاف أواصر الثلاثي المهيمن: المؤسسة الدينية ـ الملوك ـ الإقطاع. وعندما تحقق لهم ذلك، تمكنوا من وضع دساتير وجعل الملكيات مقيدة بالدستور.
وقد جازف فلاسفة ومفكرون، بأرواحهم أحياناً، أن يأخذوا على عاتقهم مهمة طرح الأفكار وإنضاجها، فكانوا رموزاً لعصر النهضة (Renaissance) لتفضي أولاً إلى تقليص، دور المؤسسة الدينية، ومن ثم أضعافها وإبعادها في عصور التنوير لاحقاً، والنضال من أجل حكومات دستورية، توجت بالثورة الفرنسية التي أنهت عصر الملكيات، أو الملكيات المطلقة وجعلتها دستورية مقيدة.
وأفكار ميكافيلي، وهنا لا بد أن نؤشر لميكافيلي رهافة وشدة إحساسه وإدراكه لعمق مغزى الدولة، تلك الأفكار كانت بمثابة حزمة ضوء في تلك القرون، ضوء أنطلق ولا سبيل إلى حبسه بل سيتواصل على يد غيره، وصولاً إلى كروشيوس، توماس مور، قادت إلى عصر التنوير (Enlightenmet)، وعلى يد مفكرين أمثال: سبينوزا، جون لوك، مونتسيكيو، فولتير، كانت، ديدرو، روسو.
وهكذا يمكننا أدراك الدور الكبير الذي قام به ميكافيلي، في تطور الفكر السياسي، بل في تطور مفهوم الدولة، وإذا كان قد قرر التصدي لسلطة المؤسسة الدينية، وكان قد أيقن أن لا تقدم جوهري مع هيمنة الكنيسة، فكان لابد له من أن يتعكز في مهمته على السلطة الزمنية، وسيكون من قلة التبصر لو أنه تصدى للمؤسستين في آن واحد. ولإن خشي ميكافيلي على نفسه من السجن والتصفية، (وهو لم يسلم من ذلك في النهاية)، فالنفس البشرية محتوم لها أن يدب الخوف في قلب بعض الأشخاص، ربما في بعض اشد المعارك ضراوة، أو عند إحساسه بأن السيف قد وصل عنقه، فيكون رد فعله الطبيعي، أن يداري خوفه بمدح هذا الحاكم أو ذاك، وهو ما فعله ميكافيلي وأعاب عليه المؤرخون ذلك.
ليس دفاعاً عن ميكافيلي، فعندما هادن هذا المفكر الكبير الأسر القوية الحاكمة في فلورنسا، كان لابد له أن يلجأ إلى قوة الدولة في التصدي لقوة الكنيسة، ثم أنه كان يأمل أن تتم وحدة بلاده إيطاليا على أيديهم، من جهة، وأعتقد أنه بعمله في دبلوماسية الحكومة، عله سيكون في عمله (وهي رؤية لا تخلو من الصواب) ذي فائدة أكثر من ابتعاده في قرية نائية، لن يكون فيها مؤثراً ولو بقدر بوصة على الأحداث، لا عمل له سوى الكتابة، على أمل أن ينصفه التاريخ يوماً، وهي جملة شهيرة أطلقها تروتسكي قبل أن يلفظ أنفاسه (1940) اغتيالاً في المكسيك: سوف ينصفنا التاريخ.
بالطبع هو لم يقل ذلك، ولكني تعمقت في دراسة أعمال ميكافيلي وما كتب عنه، ومطالعاتي الكثيرة عنه، حملتني أن أعدل بعض أرائي عنه، أو قل لعلنا ذقنا لسعة نيران التجربة، فقد أدركت أن ميكافيلي شعر بأهمية الدولة وهو ليس بالفقيه القانوني، ولكنه أدرك أن الدولة جهاز قانوني، ولهذا الجهاز وظيفة هي حماية مصالح الشعب على المدى القريب والبعيد، وهناك وسيلة محترمة للتعبير عن سياسة الدولة وهي: الدبلوماسية، والدبلوماسية ينبغي أن يكون لها جهازها وموظفيها الأكفاء القادرين حقاً على تحقيق مصالح الدولة بالأساليب السياسية، ولا مناص من الاعتراف أن هذا فهم متطور ليس في مقاييس ذلك العصر، بل تصلح حتى لعصرنا الراهن، فغالباً ما يدور الأمر هكذا، أن يربط بعض الحكام ملوك وأمراء، رؤساء، ديكتاتوريين وطغاة، أنظمة لا تقيم وزناً كبيراً لقيمة المواطن وحقوق المواطنة، فمثل هذه الأفكار لن تنال رضا الحكام، أو ليست مفضلة لديهم.
هل نجح ميكافيلي في مساعيه ..؟
نكاد نجزم فنقول أن مساعيه الفكرية كانت باهرة، وليس أدل على ذلك من أن كتبه وآثاره، وبصفة خاصة كتابة (الأمير) يدرس في جامعات العالم كافة، وليس من سياسي محترف(دبلوماسي أو رجل دولة) لم يقرأ هذا الكتاب، بل أن بعضهم يحفظه عن ظهر قلب، وإن انكروا ذلك ..! نعم ناجحة بحيث أن الملوك، والرؤساء لم يعدوا سوى موظفين في الدولة لا يستطيعون مغادرة الفقرة الدستورية التي تمنحهم السلطة قيد أنملة واحدة، والسلطة كل السلطة لممثلي الشعب، ومؤسسات الدولة وفي مقدمتها القضاء.
ولكن من المؤسف حقاً، أن بعض من يقرأ ميكافيلي، لا يذهب أكثر من الحروف المطبوعة أمامه، أي لا يذهب إلى لب الأمر وجوهره، أو يتمسك بالمثاليات، فيتهم حرص ميكافيلي على الدولة بالانتهازية، وخشيته على مصيرها بالنفاق. متجاهلين أن المبدأ الرئيسي عند ميكافيلي (معمقاً لفكر أرسطو في: الدولة أولاً) هو الحفاظ على الدولة، والأمير هو رأس الدولة، أعلنها جهاراً نهاراً دون خشية من الكنيسة، وعلى الرغم من أنه كان متديناً، لكن ليس للكنيسة مكان في فكر ميكافيلي، لذلك حاز على سخطها وغضبها.
وأخيراً، عندما أدرك الأمراء أن ولاء ميكافيلي هو للدولة، وللدولة فقط، أستحق النفي والسجن والإبعاد.
نعم هو كان على استعداد أن يعمل تحت من هم أقل منه ذكاء وكفاءة، ولكنه لم يكن ليقبل أن يصبح مهرجاً في البلاط، لذلك تعرض للنفي أولاً، ثم العزل، فمضى إلى المصير الذي كان يحاول أن يتجنبه: النفي إلى قرية نائية ليفرغ للكتابة وليموت بهدوء وهو في سن 51 سنة.
ضرغام الدباغ
مدخل
نيكولو ميكافيلي (Niccolo 1469 - 1527 Machiavelli) إيطالي، رجل دولة ومؤرخ، إيطالي، ولد في فلورنسا وعاش ما بين عامي – 1469- 1527 لأب كان محامياً متوسط الحال، أشتهر بكتابه الأمير الذي وضعه عام 1532، حصل على وظيفة صغيرة في حكومة فلورنسا، ثم تقدم وتقلب في الوظائف الدبلوماسية ثم أصبح المستشار الثاني للجمهورية.
له خصوم ومعجبين كثيرين، ولكن كتابه (الأمير The Prince) خالد على مر العصور والأزمان، ولم يكن ليدر بخلد نيقولا ميكافيلي، أن كتابه الأمير الذي انتهي من كتابته قبيل وفاته بأربعة عشر سنة في 1532 ميلادية سيصبح أثراً خالداً ومرجعا فكرياً وسياسيا مهما لكل حكومات الدنيا عقب الثورة الصناعية العالمية، وكذلك للحكام وللدبلوماسيين والطلبة والباحثين.
وضع كتاب آخر ولكنه أقل شهرة وأهمية (المطارحات). ميكافيلي وبحسب علماء سياسة كثيرون، أنه أول من وضع الحدود بين علم السياسة وعلم الأخلاق، ولكن جمهرة من المؤرخين يعتبرون أن ميكافيلي انتهازي وأساء للدبلوماسية والسياسة إذ أعتبرها أداة أباح لها استخدام كل شيئ حتى الكذب والدجل من أجل تحقيق مصالح الدولة، واعتبروا، أن شارل مونتسيكيو الفرنسي(1689 ـ 1755 Chales Montesquieu) يتفوق عليه وإليه يعود الفضل في وضع أسس علم السياسة الحديث والدولة في أثره الهام (روح القوانين).
(الصورة: نيكولو ميكافيلي على غلاف كتابة الشهير: الأمير)
وقد عاش هذا المفكر الكبير حياة لا تعرف الاستقرار، فعندما استولت أسرة مديتشي على الحكم سجن لأنه كان معارضاً لهم، وكان ينظر إليه بريبة، كما أنه عاش فقيراً في أواخر حياته نتيجة غضبة الحكام عليه، ثم نفي، وأخيراً سمح له بأن يحيا حياة التقاعد في الريف قرب فلورنسا وتفرغ للكتابة والتأليف. وهكذا فقد عانى ميكافيلي الكثير من المتاعب رغم أنه كان ينحدر من أسرة دبلوماسية وله قدرات فكرية متميزة، وكان بالإضافة لذلك، وديعا رقيق المشاعر دافق الأحاسيس متوقد الذهن. أما خصومه فيذكرون أن فكر ميكافيلي يبرر لكل فعل من أجل تحقيق النجاح النهائي ..! فقالوا، أن هدفه كان استرضاء العائلة الحاكمة(الميديتشيين) لكنه لم ينجح.
المعجبون به ينكرون إعجابهم في الغالب، بل ينكرون حتى أنهم قرؤوا كتابه ذائع الصيت (الأمير)، ولكنهم يطبقوه حرفياً، وبعضهم لا يتردد القول برصانة أراء ميكافيلي فيثمنها عالياً، ويعتبره رجل دولة حكيم وصارم وضع مصالح الدولة قبل أي اعتبار آخر، وفضلها على مصالح الأمراء والحكام، وأعتبر أن الدفاع عن الدولة هو ما ينبغي أن يشغل بال الأمير ومساعدوه من الحاشية. وهو في الواقع، كان يدعو إلى قيام حكومة إيطالية قوية دون اعتبار لقيم عابرة زائلة، وخصومه يدعون أنه انتهازي، يبحث عن مصالحه الخاصة، يفتقر إلى الأخلاق، إذ يدعو جهاراً إلى تجاهلها.
والحقيقة انه كان يريد أن يرى بلاده التي يحب، موحدة غير مقسمة إلى خمس دول، (ملكيتان، وجمهوريتان، ودولة البابا) يتنازعون من أجل إماراتهم، ويبذلون دماء شعبهم من أجل غاياتهم تلك التي أعتبرها دنيئة، وسواها هو جهد وفكر يصب لصالح البلاد.
كان نموذجا قوميا يحتذي به والدولة القومية التي يطمح إليها ميكافيلي هي نفسها التي اعتبرها هيغل غاية ونهاية للتطور التاريخي وقال عنها (ليس لشعب من الشعوب أن يتحرك إلا داخل نطاقها وليس له أن يحاول تحقيق مصالحه إلا عن طريقها).
كان يعز على ميكافيلي أن يشاهد أن يري بلاده وريثة الأمجاد الرومانية العريقة علي هذا النحو من التفكك والانهيار لا لشيء سوي لإرضاء نزوات الأمراء المتصارعين والدماء هي دائماً إيطالية، تلك المشاعر كانت الملهمة له أن يكتب نصائحه وأفكاره مستشفا فهمه لحركة التاريخ (وفق قاموس عصره) وضمنها في أعماله ولا سيما أثره الهام (الأمير) وهو في الحقيقة كان يخاطب أحلامه التي في أن يجد الأمير (النظام) القادر على توحيد إيطاليا.
وعلى عكس الأفكار الشائعة عن ميكافيلي، فقد كان لا يحترم الأمراء الذين يسعون لمجد إماراتهم التي هي دون الوطن عروش زائلة، وتلك هي الأخلاق الحميدة، تلك التي تصب لخير ومصلحة الوطن.
وبتقديرنا أن ميكافيلي قد شهد من الأحداث الدامية وتشتت إيطاليا إلى إمارات ودوقيات، وهذا ما دفعه القول: أن لا بد من الحفاظ على الدولة، بصرف النظر عن الأساليب، وعبر عن ذلك بجملة بليغة: ليست المحافظة على الدول بالكلام ...!
اشهر مؤلفاته:
1. كتاب الأمير (1532):
2. كتاب المطارحات: وهو اكبر من كتاب الأمير.
3. كتاب فن الحرب.
4. كتاب في تاريخ فلورنسا.
عصر النهضة مقدمة التنوير:
في عمل بحثي مهم، قام بتأليفه الباحث تيودور. راب (Theodor, Rab) المختص بعصر النهضة الأوروبية. نجح الباحث بتقديم عمل ممتاز عن تلك المرحلة الهامة ليس في تاريخ أوربا فحسب، بل والحضارة العالمية على حد السواء.(1)
من الضروري إدراك، وقد حاولنا الإشارة لذلك في باقتضاب في المقدمة، إن عصر النهضة يعني قبل كل شيئ نهاية مسيرة طويلة قطعها الفكر الأوربي في محاولات لم تتوقف في التجسير بين الفلسفة المزدهرة في أوربا قبل أن تفد المسيحية إليها بما لا يقل عن 600 عام، محاولة تكييف الفلسفة لصالح الدين أو بالعكس (Adaptation) ومن بين هذه المحاولات واشهرها السكولاستية (Schoolstic)، تلك التي صادفت بعض من الاهتمام على يد القس توما الأكويني 1225ـ 1274 (Tommasso d, Aquino).
(الصورة: توما الاكويني)
هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان التقدم الاقتصادي الذي قاد بتراكماته إلى تشكيلات جديدة سياسية / اجتماعية. لا سيما أن السكولاستية كانت انتهت رغم أن الأكويني منحها الكثير، انتهت حيث لم تستطع الحركة أن تواكب أو أن تستوعب حجم الآمال الناهضة المتطلعة إلى الأمام، وبعدها كانت رصاصة الرحمة على ما عرف بسياسة تأييد سلطة البابا(Ultramontis) وعهد الهيمنة الكنسية من خلال الحركة التي قام بها القس الألماني مارتن لوثر، والقس الروسي كوسوي.
وكان هناك من بين مفكري عصر النهضة من يحمل على عصور هيمنة الكنيسة المسيحية لأنها قضت على الفلسفة الإغريقية، ولم تقدم البديل عنها، فمرت أوربا بعصور بربرية، ظلامية. وأن هؤلاء المفكرين كانوا يشعرون بأنهم يولدون من جديد بعد أن خرجوا من ظلاميات الكهنة المسيحيين واكتشفوا آداب الإغريق والرومان وفلسفتهم. وهي آداب كانت القرون الوسطى قد طمستها كلياً تقريباً بحجة أنها وثنية، مادية إلحادية.
أزمة لم تجد طريقها للحل: هي إيجاد سبل التوافق بين الدين والفلسفة. صراع لم يهدأ مطلقاً ولم تنجح محاولات الكنسيين المتنورين من ردم الهوة وحل الإشكالية التي ما برحت تطرح نفسها هكذا:
يتعارض اللاهوت مع البحث العلمي في:
* يقر العلم أن لاشيء يخلق من لا شيء، فيما يقبل الدين بوجود الخالق سبحانه، من لا شيء.
* يقر العلم أن مناقشة كل شيء وأية موضوعة ممكنة، فيما لا يقبل اللاهوت مناقشة وجود الخالق.
* السياسة كعلم تتعامل مع الحياة الواقعية ونتائجها الملموسة، بينما المؤسسة الدينية تهدف لحث الناس على الفوز بالجنة.
ومن الواضح أن ميكافيلي قد أحاز للعلم والفلسفة في موقفه حيال الكنيسة.
وعندئذ ظهر مصطلح الدراسات الإنسانية معارضة لها بالدراسات اللاهوتية. والدينية المسيحية. وكان المقصود بها الدراسات المتركزة على كبار أدباء وشعراء وفلاسفة العصور القديمة السابقة على المسيحية: كهوميروس، وأفلاطون، وأرسطو، وفرجيل، وشيشرون وعشرات غيرهم.
تلك أفكار وأعمال كانت معروفة منذ القدم في أوربا ولكنها كانت مهملة في العصور الوسطى لأنهم وثنيون، تجرأ مفكرو عصر النهضة واهتموا بهم وجعلوا من اكتشافهم ودراستهم اكبر وتحديث معارفهم والتأسيس فوقها، رسالة لهم في الحياة. ولذلك كان فلاسفة عصر النهضة يشعرون بحق أنهم يطلقون مرحلة جديدة في التاريخ.
ويكتب تيودور راب قائلاً: بعض المؤرخين احتجوا مؤخراً على هذه النظرة التبسيطية للأمور. وقالوا بما معناه: لا يمكن الزعم بان العصور الوسطى كانت ظلامية كلها. فالواقع انه وجد آنذاك بعض المفكرين الكبار المستنيرين بضوء العقل. واكبر دليل على ذلك فلاسفة العرب من أمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن الطفيل، وبن رشد، وابن باجة، وابن عربي، والعربي، وأبي بكر الرازي، الخ.. وكلهم عاشوا في العصور الوسطى بحسب التقسيم الأوروبي لتاريخ الفكر.
ومعلوم أن هذا التقسيم يتحدث عن ثلاثة عصور أساسية: العصور القديمة اليونانية الرومانية (القرن الخامس قبل الميلاد وحتى القرن الخامس بعد الميلاد). العصور الوسطى من عام 500 ميلادية إلى عام 1500 تقريباً. العصور الحديثة من عام 1500 وحتى اليوم.
وبما أن كل فلاسفة العرب المذكورين عاشوا قبل عام 1500 بل وحتى قبل عام 1200 فإن هذا يعني أنهم كلهم ينتمون إلى مرحلة العصور الوسطى. فهل يمكن القول بأنهم كانوا ظلاميين متخلفين أو متعصبين كما توحي به هذه الصورة التبسيطية ؟ بالطبع كلا.
فهم لم يهملوا دراسة الفلسفة اليونانية، على العكس، ولم يهملوا العلم والعقل، على العكس تماماً. وقس على ذلك بعض الفلاسفة المسيحيين الذين ظهروا في أوروبا بعد أن ترجموا أعمالهم وبنوا عليها، فمن المعروف على نطاق واسع، أن أبن رشد هو من عرف الأوربيين على أرسطو، في شرح أعماله، بل وتأسست جامعة في إيطاليا (جامعة بادوفا Badova) للفكر الأرسطوي.
إذن لا يمكن وصف العصور الوسطى بالظلامية بصفة مطلقة، وإنما كانت فيها بعض المنارات، وبقع الضوء. ولكنها بشكل عام لم تكن مستنيرة. فاستنارة بعض العباقرة لا يعني استنارة عموم الشعب. ولكن عودة مفكري عصر النهضة إلى الماضي البعيد، وإلى فلاسفة اليونان والرومان وأدبائهم لا تعني مجرد العودة إلى الوراء ونسيان، الحاضر والمستقبل. فالواقع أنها كانت عودة من أجل التأسيس على ما وضعه الفلاسفة الأولون، فهي بهذا المعنى عودة لتغيير الحاضر أو لتجديد الحياة الحاضرة بكل جوانبها، وفي مقدمة ذلك إعادة ترتيب التحالفات والأصطفافات الاجتماعية / السياسية، وليس فقط فض العلاقة بين المؤسسة الدينية عن مؤسسة الحكم، بل وإنهاء أي دور سياسي مفترض للكنيسة، وهو سيكون مفتاح للتطورات اللاحقة في أوربا، وهنا يكمن جوهر عصر النهضة وحداثته.
والواقع إن التحولات الفكرية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في أوروبا كانت قد سبقتها ثلاث حركات مهدت لعصر النهضة:
الأولى: حركة السولاستية التي اعترفت بأهمية التنوير، ولكنها لم يكن بوسعها أن تستوعب تيارات المستقبل.
الثانية: حركة الإصلاح الديني الذي حصل في النصف الأول من القرن السادس عشر على يد مارتن لوثر، وأقل منها حركة كوسوي في روسيا.
الثالثة: حركة إنسانية نهضوية، تمثلت بانتعاش الآداب القديمة، والفنون، وميل جارف نحو الثقافة والمنجزات العلمية، ومن تلك: الاكتشافات العلمية كوبرنيكوس وغاليلو (1564 ـ 1642) الذي شكل الأسس الراسخة للعلم الحديث، الفيزياء والفلك والرياضيات وغيرهما، وكانت أولى المؤشرات على ظهور عهد جديد للفكر والسلوك انبثقت في ايطاليا منذ نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر. ويمكن أن نضيف إليها الاكتشافات الجغرافية وتحسن الأوضاع الاقتصادية.
وبحق يعتبر نقولا ميكافيلي (1469 ـ 1527) من شهراء عصر النهضة ومن أبرز علاماتها، والذي اشتهر بكتاب: الأمير وهو (برأي الكثيرين من المؤرخين)الذي أسس علم السياسة بالمعنى الحديث للكلمة(أو كانت مساهمته حاسمة). إذ أسس الواقعية السياسية التي خلع اسمه عليها فأصبحت تدعى بالميكافيلية، ولكن الكلمة اتخذت معنى سلبيا في الاستخدام الشائع لأنك عندما تقول عن شخص بأنه ميكافيلي فكأنك تقول بأنه وصولي، انتهازي. ولكن هذا يفتقر في الواقع إلى الدقة، أو بالأحرى ليس كاملاً لأن نظرية ميكافيلي عن السياسة أوسع من ذلك وأكثر تعقيداً، وبرأينا أن مساهمة ميكافيلي في تطور علم السياسة هي مساهمة حاسمة، وهي أبعد من قبول أو السخط على أفكاره، ليس بسبب فصله لعلم السياسة عن علم الأخلاق، وإنما لأنه كرس مصالح الدولة في المقام الأول، والحفاظ على مصالحها، تلكم هي النظرية الحقيقية في أفكار ميكافيلي.
ومن كبار فلاسفة عصر النهضة أيضاً، الذي مهددا للحداثة يمكن أن نذكر جيوردانو برونو (1548 ـ 1600) الذي انتهى نهاية مأساوية. فقد أدانته محاكم التفتيش بالهرطقة وحكمت عليه بالموت حرقاً، لأنه شكك ببعض العقائد المسيحية ولأنه تبنى النظرة العلمية للعالم والكون، وكان أكبر فيلسوف إيطالي في عصره. كان هذا المفكر يقول بأن معرفة الكون هي هدف الحياة الفلسفية. وكان يقول أيضا بأن هذه المعرفة غير ممكنة إلا عن طريق العقل والتجربة العملية المحسوسة. لهذا السبب اعتبره هيغل احد مؤسسي الفلسفة الحديثة ثم انتقلت النهضة الفلسفية إلى خارج ايطاليا: أي إلى البلدان الأوروبية الأخرى.
عصر ميكافيلي:
برز مفكر مهم لصالح السلطة الزمنية هو جون باريس (John Paris 1255-1306) الذي كتب " إن الكنيسة تتطلب انتشارا عالمياً لا تتطلبه السلطة السياسية، وأن المجتمع المدني ينشأ بوحي من غريزة طبيعية، مع اختلاف الناس في الميول والمصالح، وأن التقسيم السياسي الطبيعي، هو تقسيم العالم إلى أقاليم وممالك ". كما قال "إن السلطة الروحية تملك فقط حق الحرمان من رحمة الكنيسة الأمر الذي لا يترتب عليه أية نتائج مادية، أما سلطة القمع فمن حق الدولة(السلطة الزمنية)" .
أما حول حصانة البابا، فقد قال جون باريس " صحيح ليس هناك قانون يعاقب البابا، ولكنه إذا أثار الفتنة ولم يكف عن ذلك، فأنه يجب تحريض الكنيسة أن تتخذ الإجراءات ضد البابا، وعلى الأمير أن يدرأ عدوان سيف البابا بسيفه هو، في حدود القانون، وهو إذ يفعل ذلك إنما يدفع عدوان ذلك الذي أصبح عدواً له وللمجتمع".(2)
كانت هذه بدايات أن يفقد المرجع الأعظم قدسيته وهيبته، عندما يعلن مفكرين أن المرجع الأعظم بشراً وأنه يمكن أن يخطأ، وبعض الخطأ ينبغي محاسبته وربما معاقبته. وكان ذلك مساراً تاريخياً ينذر بانقشاع عهد الظلمات. ولا شك أن كتابات جون باريس التي نشرها عام1303 وغيره على هذا النحو الصريح من الإدانة لهيمنة البابوية والكنيسة على المجتمع والدولة بانحيازه التام للدولة بقوله:" أن السلطة الزمنية هي أقدم في التاريخ من الكهنوتية وليست اشتقاقا منها". كانت أفكار كهذه قد فعلت أثرها العميق ليس في أوساط المثقفين والمفكرين، بل بصفة عامة لدى الشعب. ومنذ القرن الرابع عشر كانت السكولاستية قد بدأت تفلس وتتلاشى كتيار وتفقد بريقها وسرعان ما ستخبو. وكانت مكانة الكنيسة في تراجع لا محال، ولكن ذلك كان يدور بوتائر متفاوتة في الأقطار الأوربية. وبينما كانت الكنيسة ما تزال تتمتع بالنفوذ القوي في إيطاليا، كانت تتعرض للضعف في ألمانيا وبريطانيا وحتى فرنسا.
في هذه الظروف وجد رجل سياسي سيكتب على يده تطور مهم في الفكر السياسي، أما قيمة أعماله وأفكاره فستكون موضع جدل حتى يومنا هذا، وهو نيقولا ميكافيلي 1469 ـ 1527 وكان لإسهاماته الفكرية (وضع كتابين: الأول/ الأمير، الثاني/ المطارحات) أثر مهم في تطور الفكر السياسي من جهة، والدولة الوضعية من جهة أخرى.
قلنا في جميع مباحثنا أن المفكر السياسي هو أبن عصره، لذلك فإن كتابات ميكافيلي تنطوي على شحنة عداء للكنيسة، فالأمور ترتبط ببعضها جدلياً، هناك أتفاق ظاهر أو كامن بين الكنيسة والملك، يتقاسمان السلطة بموجبها وبالطبع الأمتيازات وهناك نظرية سادت في تلك القرون، تقضي بتحالف السلطتين، الروحية والزمنية، أطلق عليها اتحاد السيفين (Glasnias)، لذلك كان من مصالحة الكنيسة أن لا يتحالف الأمراء، وبالأحرى أن لا يتحدوا، لأن في اتحادهم قوة وإضعاف لسلطة المؤسسة الدينية وبالتالي لمزاياها ومكاسبها. وهو ما جعل ميكافيلي يدرك أن الكنيسة تقف ضد الوحدة القومية الإيطالية، وأن تمزق إيطاليا إلى كيانات سياسية عديدة سيجعلها ألعوبة في أيدي الدول القوية المجاورة(فرنسا ـ ألمانيا) بالإضافة إلى المنازعات والمشاحنات التي لا نهاية لها بين الأمراء الإيطاليين أنفسهم.
وفي العصور المتأخرة عندما بدأت سلطة الإمبراطورية تذوي في إيطاليا، أخذت البابوية تتسع في سلطاتها الزمنية، كانت إيطاليا مجزأة إلى عدد كبير من الدول، وهبت مدن كثيرة نثور على نبلائها الذين كانوا يستمدون سلطتهم من الإمبراطور، وأخذت الكنيسة تشجع هذه المدن الثائرة (الاتجاهات التقسيمية) رغبة منها توسيع سلطاتها الزمنية، وهكذا حتى سقطت إيطاليا في أيدي الكنيسة.(3)
وقد سبب موقف ميكافيلي هذا السخط عليه من قبل الكنيسة، وعن ذلك يكتب جان جاك روسو هامشاً في كتابه المهم للغاية (العقد الاجتماعي) عن ميكافيلي وكتاب الأمير " إنه كتاب الجمهوريين، لقد حرمت الكنيسة البابوية تداول هذا الكتاب تحريماً قاطعاً، ولست أعجب من ذلك، فأنة أوضح تصوير لفسادها (الكنيسة) كان تصوره هو".(4)
ولا يمكن اختصار أفكار ميكافيلي بسهولة، فلن يغني شيئاً عن دراسة مؤلفاته وبدقة، إلا أنه ينطوي على مبادئ حكم تتركز في البحث عن الدولة وعن أهميتها، وإن كان ميكافيلي لا يقيم أهمية كبيرة لمؤسسات الدولة، فهو لا يأتي إلا مرة واحدة على ذكر البرلمان عندما يمتدح النظام الفرنسي ومؤسسات الحكم فيه.(5)
ويركز ميكافيلي اهتمامه بالأمير(الحكام)، بل يكاد لا يهتم بشيء سواه، لأنه كان يرى في الكنيسة العائق الأكبر أمام حرية الفكر، فيقدم إليه النصائح في إدارة الدولة وفي علاقاته بالشعب أو بالدول الأخرى. ولكن بعض من نصائحه لا تخلو من الطرافة: فهو يعتقد أن على الأمير أن يشغل وقته بالصيد..! وهي نصيحة لم تكن حصافة ورزانة العالم العربي الماوردي لتطرحها، كما لا تخلو أيضاً بعض من نصائح ميكافيلي من التناقضات، فتارة يصفه الشعب بالرعاع (لا شك أنه كان يعني الغوغاء منهم، ولربما كانت تلك سمة عامة) وإن لا أهمية لهم (لاحظ صفحات: 147 / 144 الأمير) ثم يعود ويعتقد إن على الأمير أن يحوز على محبة شعبه.(6)
بيد أن هناك ملاحظة مهمة، بني عليها كثير من المؤرخين وعلماء السياسة أرائهم وأحكامهم، بأن ميكافيلي هو مؤسس علم السياسة الحديث. وبوصفه عزل الأخلاق عن علم السياسة عزلاً واضحاً، وقد كان حقاً في آراؤه تلك يمثل خروجاً غريباً عن المألوف في عصره، فقد أباح كافة الوسائل من أجل الوصول إلى غايات الأمير بما في ذلك ارتكاب ما يراه الآخرون رذائل، وأن لا يكترث حتى للتشهير إذا كانت تؤدي إلى زيادة ما يشعر الإنسان من طمأنينة ومصلحة الدولة.(7)
وما يهمنا هنا عرضه، أن أراء ميكافيلي لا سيما تلك التي كانت موجهة ضد الكنيسة وتسببها في تجزئة إيطاليا، كانت تنطوي على جرأة وعلى إشارة وإن بدت غير واضحة تماماً إلى بزوغ فجر الدولة القومية.
ويختصر موسولوني(حاكم وديكتاتور إيطاليا منذ العشرينات حتى 1945) في مقدمة رائعة رأيه في ميكافيلي " تشاؤم ميكافيلي العنيف فيما يختص بالطبيعة البشرية، أنه يحتقر البشر" وقوله " التعارض في فكر ميكافيلي بين الحاكم والشعب، بين الدولة والفرد تعارض محتوم. وهذا ما أطلقت عليه تسمية النفعية البراغماتية، وعند ميكافيلي الأمير هو الدولة".(8)
وكانت أعمال ميكافيلي ومن هو على شاكلته ممن وجهوا النقد إلى الكنيسة أو سلطتها ضمناً أو جهاراً، كانت إشارة إلى تراجع مكانة الكنيسة ودورها. ولكن ما يسمى حق الكنيسة بالتدخل في الشؤون الروحية دون أن تكون هناك حدود واضحة بين القضايا الدينية والدنيوية، حولت الأمر مع تقدم الزمن إلى صدام دائم أو مشروع دائم بين الكنيسة والسلطة الزمنية، وحتى بين الكنيسة والناس. فالقضايا الفكرية ذات الطابع التحرري ابتدأت تطرح في الأوساط الثقافية والاجتماعية بجرأة أكثر من القرن العاشر أو الحادي عشر أو حتى الثالث عشر. ولكن بعد القرن الرابع عشر غدت معرفة حدود وسلطات وصلاحيات السلطة الروحية مطلباً عاماً، كما أن الشعوب كانت تريد معرفة حدود السلطات الزمنية.
وعلى هذا الطريق كانت ثلاث محطات مهمة:
* النزاع الذي قام بين البابوية ومملكة فرنسا والذي أستمر من عام 1297 إلى سنة 1303 بلغت فيها نظرية الإمبراطورية البابوية أوجها (لاحظ أن مركز البابا لما يزل قوياً بعد).
* النزاع بين البابا جون الثاني والعشرين، مع الأمير لويس البافاري بعد النزاع الأول بخمسة وعشرين عاماً 1328، تبلورت فيها المعارضة ضد سيطرة البابا ولعب فيها المفكر الديني البريطاني وليم أكام William Ockham 1285 ـ 1347دوراً قيادياً، ولكن نتائج هذا النزاع لم يكن هذه المرة لصالح البابا، بل حدت من سلطة الكنيسة، ولكن مؤسسة الكنيسة نفسها ظلت سليمة.
* النزاع الثالث حدث داخل الكنيسة نفسها، نجم عنه انشقاق مهم بسبب قضايا نظرية بالدرجة الأولى(صكوك الغفران) والمهم في هذا الدور أن النزاع لم يعد بين السلطة المدنية والروحية، بل ضمن المؤسسة الدينية نفسها. ومن النتائج المهمة لهذه النزاعات التي استغرقت ربما قرناً من الزمن وأن المؤسسة الدينية بقيادة البابا حاولت استعادة دورها القيادي وهيمنتها على الحكم الزمني، ولكن تلك الجهود باءت بالفشل والهزيمة، بل وأسفرت أيضا عن ناتج آخر هو ظهور العاطفة القومية كقوة جديدة في السياسة الأوربية.(9)
ولم يكن ميكافيلي المفكر الوحيد الذي أعلن موقفاً سلبياً من الكنيسة، بل أن طائفة من الفلاسفة والمفكرين كانت لهم مواقفهم المتفاوتة في الحدة من الكنيسة وأطلق عليهم "النقاد" ومنهم ميكافيلي الذي وصفه خصومه بأنه " اشهر أتباع الوثنية في عصره " وكان هناك أيضاً بيتر دي لارمي 1515( ـ 1572، وكانت المؤسسة الدينية قد وصمت كتابين من تأليفه يفند فيها مذاهب الكنيسة الفلسفية في تحوير الأرسطوطالية، ووصف المؤلف بأنه " عدو الدين والأمن العام " وكذلك برنو نيو تليزيو (1508 ـ 1588) وجيوردانو برونو (1548 ـ 1600) الذي أعدم حرقاً بسبب آراؤه العلمية المناهضة لمفاهيم الكنيسة وكذلك تومازو كمبانيلا (1568 ـ 1625 ) وهو راهب دومنيكاني قال باستحالة التوفيق بين الفلسفة والكنيسة، فأتهم بالمروق عن الدين والتآمر على الدولة، فسجن وعذب في إيطاليا سبع وعشرين عاماً.
ولكمبانيلا أراء في السياسة منها " أن السياسة يجب أن تخضع للأخلاق والدين معاً وتصدر عنهما. فهي ليست علماً أو فناً مستقلاُ كما يريد ذلك ميكافيلي بمذهبه أن يؤكد. السياسة قائمة على المحبة، ويا حبذا لو ألغت الإنسانية جمعاء إمبراطورية يديرها مجلس الملوك بإرشاد البابا، فيتولى الحكم فيها أهل العلم النظري والعملي وتزول سلطة القضاء الكنسي(الأكليروس) وتزول الملكية الخاصة وينتفي الظلم والفقر. ومتى كان العمل مفروضاً على كل مواطن وموزعاً تبعاً للكفاية، فيكاد المواطن لا يعمل أربعة ساعات من اليوم ..! (10)
وينظم إلى القائمة من العلماء وإن كانت أعمالهم لا تمس مباشرة الموضوعات الدينية اللاهوتية والسياسية، إلا أن نتائج أعمالهم كانت تكرس العلم ومعطياته ونتائجه وبالتالي قوانينه، وتدين الفكر الغيبي واتجاهاته، لذلك كانت موضع استفزاز الكنيسة لأنها تمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة اللاهوت، ومن بين هؤلاء:
• ليوناردو دافنشي : 1452 ـ 1519، إيطالي
• نقولا كوبرنيك : 1473 ـ 1543، بولوني / ألماني
• لويس فيغس : 1492 ـ 1540، أسباني
• كبـــلر : 1571 ـ 1630، ألماني
• غاليلو غاليلي : 1564 ـ 1642، إيطالي
وقد توالت الكتابات والأعمال من مفكرين وفلاسفة وعلماء الفلك أو مخترعين بالإضافة إلى الفلاسفة والسياسيين منهم بصفة خاصة. فقد اشتدت المطالبة على نطاق واسع(وإن كانت الكنيسة لما تزل تبذل مقاومة ضارية) بهدف الحد من سلطات الكنيسة" فقد اشتد النزاع خلال القرن الذي تلا ظهور كتابات وليام أكام(القرن الخامس عشر حول سلطة البابا المطلقة في الكنيسة" وكان النظام المدني (الملك) مدين لكتاب ومفكرين من طراز وليام أكام، وكذلك لأهمية المسألة القريبة(وسو يشتد ذلك في المراحل المقبلة) ولكن أيضا حول مسائل عامة مثل حق التملك وفرض الضرائب البابوية.(11)
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: