د - جابر قميحة
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7483 Komeha@Menanet.net
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
معذرة ــ يا قارئي العزيز ــ إذ أصحبك إلى ماض يصنع من عمري قرابة خمسة وستين عاما، وذلك كمدخل للمعروض الأصلي في هذا المقال.
كانت سنة 1942 هي سنة الكـتَّـاب، والمرحلة الإلزامية : ففي مدينة المنزلة ــ مسقط رأسي ــ وفي الثامنة من عمري تقريبا التحقت بكتاب الشيخ محمد سلطان، رحمه الله. وواكب هذه الفترة قضاء ثلاث سنوات بالمرحلة الإلزامية. ثم التحقت بالمرحلة الابتدائية بعد اختبار قاس في القراءة والكتابة. وكنا ندرس الإنجليزية ابتداء من الصف الأول. وحصلت على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية بعد أربع سنوات، مما أهلني للالتحاق بالمرحلة الثانوية، وكانت خمس سنوات. وتسمح بالحصول على شهادتين : الأولى بعد أربع سنوات واسمها شهادة الثقافة العامة. والثانية، واشتهرت باسم " التوجيهية "، وهي سنة التخصص، وقد اخترت الشعبة الأدبية.
في المرحلة الثانوية التحقت بمدارس ثلاث : الأولى هي مدرسة أحمد ماهر بمدينة المطرية التي تبعد عن المنزلة قرابة عشرة أميال، وقضيت فيها السنتين الأولى والرابعة، لأن بلدتي المنزلة لم يكن بها مدرسة ثانوية. وقضيت السنة الثالثة بمدرسة المنزلة الثانوية بعد أن تم بناء جزء كبير منها. ثم كانت السنة الرابعة في مدرسة أحمد ماهر بالمطرية.
وبعد حصولي على شهادة الثقافة العامة كان التحاقي بمدرسة طلخا الثانوية شعبة الأدبي التى لم يكن لها وجود في مدرستيْ المنزلة والمطرية.
**********
وأخلص من هذا الماضي الذي عشته، وقد لا يهم غيري... إلى رؤية الحاضر الذي نعيشه الآن، فالموازنة بين الحال في الماضي والحال اليوم تبرز أمامنا عددا من الحقائق أهمها :
1- كانت مدرسة المنزلة الثانوية وراءها مساحات شاسعة من الأرض الزراعية... على مد البصر.
والآن لم يعد هناك متر واحد من الأرض الزراعية، واختفت المدرسة الثانوية بين مئات من المباني والعمارات العالية.
2- والصورة نفسها هي هي صورة مدرسة طلخا الثانوية.
3- كانت مدرسة أحمد ماهر الثانوية بالمطرية تقع على شاطئ بحيرة المنزلة مباشرة، إذ لم يكن بين المدرسة والبحيرة أكثر من عشرين مترا. وكان أستاذ الرسم يصحبنا إلى شاطئ البحيرة، ونتوزع عليه، ويرسم كل منا منظرا يختاره من البحيرة، كالسفن الشراعية والصيادين، وغير ذلك. والآن حُسرت البحيرة، فأصبح يفصلها عن المدرسة قرابة 700 م زرعت كلها بالمباني العالية. وهذه الرؤية الموازنة، واعتمادا على المراجع العلمية... نصل إلى الحقائق المرة الآتية :
4-
أولا : نقص المساحة الزراعية فى مصر بحوالى (مليون فدان) من أخصب الأراضى فى مدة ثلاثين عامًا فقط، مما أدى إلى عجز شديد فى احتياجات السكان من الغذاء نظرًا للتزايد الرهيب والمستمر فيهم مع قلة الموارد التى تحتاجها هذه الزيادة.
وأسباب هذا النقص فى الأراضى الزراعية :
أ- تجريف الأرض الزراعية، وأخذ التراب منها لصناعة الطوب وقد حرَّمت الدَّولة ذلك.
ب- الامتداد العمرانى فى المدن الكبيرة وآلاف القرى على حساب الأرض الزراعية.
وتحت ضغوط وعوامل اقتصادية ونفسية قهارة تغيرت طبيعة الفلاح المصري، وفقد ولاءه للأرض الزراعية، لأنها لم تعد تدر عليه ما يكفي تكاليف المعيشة، فلجأ إلى بيع " وش الأرض " لمصانع الطوب، وكذلك تبوير الأرض، لبيعها بالمتر لا بالفدان، وهذا يعني أنها تباع بمئات أضعاف ثمنها لو بيعت أرضا زراعية، وكل ذلك يدخل في تعريف ( التجريف ).
ومما يؤسف له أننا نملك أطول نهر في العالم، ولكنه ـ بفعلنا ـ لا يتعامل إلا مع أضيق رقعة زراعية في العالم. وكم سمعنا من السادات أن سيناء بعد تحريرها ستعمر، وتستزرع، ليهاجر إليها ملايين من سكان الوادي. وكان كلاما في الهواء. وما زال الصهاينة يذكرون كلمة بيجن أو الصديق بيجن كما كان يطلق عليه السادات بعد كامب ديفيد : الذي برر فيها الانسحاب من سيناء فقال : " سنضطر إلى الانسحاب من سيناء لعدم توافر طاقة بشرية قادرة على الاحتفاظ بهذه المساحة المترامية الأطراف. فسيناء تحتاج إلى ثلاثة ملايين يهودي على الأقل لاستيطانها، والدفاع عنها، وعندما يهاجر مثل هذا العدد من الاتحاد السوفيتي، أو الأمريكتين إلى إسرائيل، سنعود إليها، وستجدونها في حوزتنا "
وهذا يعني أن تشدق إسرائيل بالسلام كان ــ وما زال، وسيظل ــ ادعاء مصلحيا للاستهلاك الخارجي.
ولكن لنترك هذا الاستطراد ؛ لنشير ــ في عجالة ــ إلى العلاج، ويكاد ينحصر في الخروج من حيز الوادى الضيق للنيل إلى الصحراء وخصوصا سيناء. والاستمرار فى بناء المدن الجديدة خارج نطاق الأرض الزراعية مثل : (مدينة السادات وبرج العرب، والسادس من أكتوبر، والعامرية، والعاشر من رمضان وغيرها). والمحافظة على خصوبة الأرض الزراعية الحالية والعمل على زيادة قدرتها على الإنتاج.
**********
ثانيا : وفيما يتعلق ببحيرة المنزلة علينا أن نستوعب التقرير التالي :
من بين البحيرات الأربع " مريوط - إدكو - البرلس- المنزلة " تنحسرــ منذ السبعينيات وحتى اليوم ــ بحيرة المنزلة - أكبر البحيرات المصرية على الاطلاق - ويتم إعدامها لحظه بلحظة ويوما بيوم . وهي تقع بين محافظات خمس " بورسعيد - الاسماعيلية - الشرقية- الدقهلية - دمياط". فبدلا من أن تقوم تلك المحافظات برعايتها والاهتمام بها على أساس أنها اكبر البحيرات إنتاجا للسمك إذ يبلغ انتاجها السنوى 60 الف طن بنسبة 35 % من انتاج البحيرات الشمالية والذى يقدر بــ 172 ألف طن سنويا. إذ بتلك المحافظات، وأيضا الوزارات المعنية وغير المعنية " تهيل عليها التراب، فأعمال الردم تجرى على قدم وساق، والتجفيف يقتطع منها مساحات شاسعة مع العمد وسبق الاصرار.
ولكي ندرك حجم الكارثة التى تتعرض لها بحيرة المنزله نورد بعض الأرقام والمعلومات الآتية:
• كانت مساحه بحيرة المنزلة قبل التجفيف 750 ألف فدان (50 كيلو مترا طولا وما بين 30- 35 كيلومترا عرضا)، وهي تعادل مساحة البحيرات الثلاث الأخرى مجتمعة، وما يقرب من عشر مساحة أرض الدلتا كلها
• تناقصت مساحه البحيرة من 750 ألف فدان إلى 190 ألف فدان عام 1990، حتى وصلت اليوم إلى 125 ألف فدان، وذلك نتيجة أعمال الردم والتجفيف والتجريف فى مناطق كبيرة منها، فبعد أن كانت تطل على خمس محافظات أصبحت تطل الآن على ثلاث محافظات فقط .
• ومن المشاكل التى تعاني منها بحيرة المنزلة والتى أدت الى تقلص مساحتها بنسبة كبيرة، وأثرت على إنتاجها السمكي هى تعرضها المستمر للتلوث بانواعه، وعدم كفاية البواغيز والفتحات والقنوات المغذية للبحيرة بالمياة المالحة، والتعدي على المسطح المائى باقامة الأحواش والسدود، وانتشار النباتات المائية، والصيد المخالف وصيد الزريعة، وربما تظهر أبشع صور التلوث فى تخلص خمس محافظات من مياه الصرف الصحى والذى تبلغ جملته 652 مليون متر سنويا لتلقي بها فى بحيرة المنزلة.
• والأخطر من ذلك هو مصادر التلوث من الصرف الصناعي، حيث تصب فى بحيرة المنزلة مخلفات 42 شركة ومصنعا بالمحافظات، بالإضافة إلى الصرف الزراعي بما يحمله من بقايا المبيدات والأسمدة الكيماوية المستخدمة في الزراعة، وقد أكدت نتائج التحاليل التي أجرتها بعض المراكز العلمية وجود أملاح الزئبق، وأملاح الزنك، في مياه البحيرة، وفي أسماكها بنسبة عالية، مما تسبب في موت الكثير من الأسماك، وأصيب المتبقي منها بالتسمم، وأصبح غير صالح للاستهلاك الآدمي.
• ويتحمل الصيادون جزءا مما وصل إليه حال البحيرة، وذلك بانتهاجهم أساليب مخالفه للقانون فى عملية الصيد، كالصيد بالتجريف أو التنشيف، أو الشبك المخالف، أو عن طريق الأحواض والسدود العلوية، واستخدام المحركات والمواتير عالية القدرة، مما يزيد من تلوث البحيرة، وصيد الزريعه من جانب فئة لديها الإمكانات التي تساعدها على الهروب بهذه الزريعه لتحقيق الربح السريع ببيعها للمزارع الخاصه دون ملاحقتها من شرطة المسطحات المائية، مما أدى الى نقص الأسماك فى البحيرة.
**********
إنها مسئولية تضامنية عاتية... بل إجرام خسيس يدين قادتنا الكبار جدا في المقام الأول... لنا الله، فهو حسبنا ونعم الوكيل. وما زلنا ــ وسنظل ــ نردد : هل بقي لمصر شيء بعد أن " ذبحوا الأرض، وأعدموا البحيرة " ؟؟
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: