نفر غير قليل من المسلمين ينخدعون بدعاوى الغرب عن "حوار الحضارات" أو حتى "حوار الأديان"، الذي يتحدث الغرب ومعه نخبة سياسية وثقافية منا عنه بصفة مستمرة، معولين عليه لتحسين العلاقات التاريخية السيئة بين الإسلام والغرب.
الذين أحسنوا الظن بالغرب انخدعوا وهم غير أبرياء من هزيمتهم النفسية تجاه كل ما يصدر من الغرب، فهم يصدقون الغرب دائمًا ومستعدون لذلك مستقبلًا.
والغريب أن هؤلاء المخدوعين ينتمون إلى طبقات مثقفة، ولو قرءوا بقلوب سليمة وعقول منفتحة لتأكدوا أن الغرب كان مخادعًا معنا على طول الخط، ولم يك صادقًا في أي وعد قطعه على نفسه تجاهنا.
الغرب حدد طريقة التعامل مع الشرق العربي المسلم؛ وهي القوة العسكرية المسلحة، فلما فشلت بعد هزيمة الحملات الصليبية وأُسر لويس التاسع؛ تغيرت الاستراتيجية إلى التسلل والخبث والدهاء لاصطناع الصداقة حتى يستطيعوا السيطرة في النهاية، لكن هذه الخطة سرعان ما تم تغييرها بعد أن أصبحت الفجوة بيننا وبينهم كبيرة جدًّا في كل شيء، خاصة المجال العسكري والعلمي.
عندها بدأ الغرب مرة أخرى في الاحتلال العسكري المباشر لبلادنا، الذي بدأ مع الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، واستمر حتى جلاء آخر جندي غربي عن بلادنا العربية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وسرعان ما عاد الاحتلال الغربي مرة أخرى للعراق عام 2003م.
من استراتيجية الدهاء والخداع كانت دعوى الحوار بين الحضارات، ومن يراجع هذه القضية ويدرسها بعناية؛ يتأكد أن الغربيين ينحازون دائمًا وأبدًا إلى أساليب الضغوط والإملاءات، وكيف لا يفعلون ذلك وهم يجدون كلمتهم مسموعة وآراءهم نافذة في أقطار العالم العربي والإسلامي؛ الأمر الذي جعلهم في غير حاجة للجوء إلى الحوار الذي يفترض فيه لجوء الطرفين إلى التنازلات المتبادلة للوصول إلى قواسم مشتركة.
وكيف تستقيم دعاوى الغربيين وأتباعهم بحوار الأديان والحضارات مع العرب والمسلمين في الوقت الذي تتكشف فيه الحقائق عن خطط ومؤتمرات التنصير في بلاد المسلمين؟! ومن هذه الخطط ما أعلنه بابا الفاتيكان السابق من أنه يريد أن ينصر العالم في الفترة من 1995م حتى عام 2000م، وحدد ذلك بدقة، وقال: إن الفترة من عام 1995م وحتى عام 1997م عامان تمهيديان، ثم يتبعهما عام الاحتفال بالسيد المسيح، ثم في الاحتفال الآخر عام 2000م يقام قربان كبير احتفالًا بتنصير العالم كله.
وفي الخطاب قال البابا: إنه يريد إحياء خط سير العائلة المقدسة، وفي مؤتمر تنصير العالم الذي عُقد في "كلورادو" بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1987م، قالوا في أبحاثهم الموجودة والمتاحة والموثقة: إن الإسلام لابد أن يُضرب من الداخل، وإحياء مسيرة العائلة المقدسة في البلاد العربية كناية عن تنصيرها.
إنهم يلعبون بنقطة خطيرة وهي الحوار بين الأديان، والحوار بالنسبة لهم يعني فرض الارتداد والدخول في النصرانية، وليس المقصود منه الحوار والوصول إلى الحق.
إننا لو ناقشنا القوم فلن نجد عندهم شيئًا ـ وهم يعلمون ذلك ـ ومن أجله يحاولون أن يوهمونا بأننا جيران، ولابد أن نعيش في حب وأمان، ولابد من التسامح والتآخي، والغريب أن المثقفين عندنا يرددون نفس الكلام الذي يردده الغرب؛ إما عن جهل أو غفلة أو عدم مبالاة، أو عن تعتيم فُرض علينا جميعًا وشارك مثقفونا في تدعيمه.
إن العولمة والكوكبية يُراد بها إلحاقنا بالغرب، فحينما نصبح قرية واحدة فستكون اللغة لغتهم، والدين دينهم، والثقافة ثقافتهم، والمصلحة مصلحتهم، ونحن مجرد رعاع لا قيمة لنا وإنما نُساق كالقطيع.
إن فرنسا تعلن أنها دولة علمانية فصلت الدين عن الدولة، ومقابل إعلانها هذا تتحمل ثلثي تكاليف وميزانية عملية التنصير.
إن مسار دعوة حوار الأديان والحضارات حاليًا مضيعة للوقت والمال، فإذا تحدثنا عن دعوة الحوار مجردة فلا يوجد أحد يرفض الحوار الذي هو مقترن في ذهننا بقيم التسامح، والفكر، وسعة الأفق، والهدوء والاتزان، والموضوعية ... إلخ.
وعندما نتحدث عن الحوار بين الأديان والحضارات؛ فعلينا أن نسأل أنفسنا أسئلة معينة؛ مثل: ما هو السياق الذي يجري فيه هذا الحوار؟ ومن هي الأطراف الداخلية في هذا الحوار؟ ومن هم ممثلوها؟ وما هي القنوات والأشكال التي سوف يتخذها هذا الحوار؟ وما هي أهدافه وغاياته وثمرته؟
وإذا فُرض أننا نتحدث عن الحوار الإسلامي المسيحي مثلًا، فالطرف الأول لا يمثله المسلمون الشعبيون، ولكن تمثله حكومات أو بعض شخصيات اختارتها الحكومات، بينما الطرف المسيحي يمثله علماء أو رجال دين مسيحيون على درجة عالية من الثقافة، ويتمتعون باستقلال في الشخصية والرأي، واستقلال أيضًا في المادة؛ لأن المؤسسة الكنسية في الغرب مستقلة عن تدخل الحكومات والسلطات.
وهكذا يدخل الطرف المسيحي كطرف حر ومستقل وفاعل ومثقف، بينما الطرف الآخر يدخل وهو مفتقد هذه الأشياء، بل مجرد موظف ليس على درجة من الكفاءة والعلم التي تؤهله للدخول في هذا الحوار، وهو يدخل هذا الحوار لا يراعي الدين الإسلامي، ولا يراعي وجه الحقيقة، ولكن يراعي فقط أن يحافظ على المواقف السياسية لمن عينوه في موقف المحاور، فهذا المناخ يحتوي على طرفين؛ أحدهما مقيد غير حر ويطرح وجهة نظر سلطة سياسية عينته في موقعه.
وإذا انتقلنا للحوار بين الحضارات، فهنا نجد أنفسنا في موقف عدم التكافؤ ما بين حضارة تتمتع بقوة مادية وأخرى ذات قوة مادية ضعيفة، والممثلون للحضارة الغربية منتخبون ديموقراطيًّا؛ أي يعبرون عنها مائة في المائة.
ولكن هل نستطيع أن نقول عن أي محاور من الطرف الإسلامي إنه منتخب ويمثل الحضارة الإسلامية؟ بالعكس إن معظم مثقفينا يمثلون الحضارة الغربية أكثر مما يمثلون الحضارة الإسلامية.
ثم كيف يتم هذا الحوار في ظل عمليات سيطرة متتابعة منذ أربعة قرون؟ فعرفنا الاستعمار العسكري، والاستعماري الاستيطاني، والاستعماري السياسي، والإمبريالية، والتبعية، ثم الاستعمار الاقتصادي، ثم الغزو الفكري، ثم التبعية الثقافية، فنحن نعيش معهم منذ أربعة قرون في سلسلة متتالية من أنواع الاستعمار، والتبعية، والسيطرة، والتدخل، والأحادية، والإلحاق، والضم، فكيف يمكن أن يقوم الحوار في ظل هذا المناخ؟ فلا بد أن يكون هناك تكافؤ في الاستقلالية والانتماء للحضارة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: