د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 12374
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
على أثر مشاجرة عادية في مدينة الإسكندرية، سقط مواطن مصري مسيحي أثر مشاجرة مع رجل مصري آخر، والذي توفي لاحقاً، وكان المواطن المسيحي قد سقط مغشياً عليه بسبب حرارة الجو، والانفعال ثم توفي لاحقاً. في ذلك الوقت بالذات، كان الأسطول الحربي البريطاني يقف في المياه الإقليمية المصرية(على الأرجح ليس مصادفة وليس لصيد السمك)، فأتخذ من الحادثة ذريعة، ففتح النيران وكان ذلك بداية لغزو واحتلال مصر
وكانت المقدمات لهذه الأحداث هي: كان مؤتمر لندن للقوى العظمى أحبط في 15/تموز ـ يولية /1840 و13/ تموز ـ يولية/1841 بصفة نهائية محاولات محمد علي في إقامة أول دولة عربية في المشرق العربي مستقلة بذاتها، وبنفس الوقت تم إرساء حجر الأساس للهيمنة على مصر اقتصادياً وسياسياً بواسطة وبريطانيا وفرنسا.
كانت أعمال الحفر في قناة السويس قد ابتدأت في 25/ نيسان ـ أبريل/1859، وانتهت عندما حضرت شخصيات يقدر عددها بستة ألاف ضيف شرف في 17/ تشرين الأول ـ أكتوبر/1869 لافتتاح طريق المواصلات المائي المهم، ورؤية نجاح أكبر مشروع هيدروـ تكنيك ينجز في القرن التاسع عشر، عندما وجد حفنة من ممثلوا المال الكبار في أوربا في ريع القناة، مصدراً جديداً وكبيراً للمال. أما بالنسبة لمصر، فقد كانت سبباً رئيسياً لبلوغ الإفلاس المالي.
وأصبحت قناة السويس تمثل الاحتياط المادي لمصر، وحتى عام 1863 شملت أعمال السخرة 40 ألف فلاح، كما بلغ أجمالي النفقات كمعدل، 6،77 مليون جنيه إسترليني، وكان نصف هذا المبلغ على الأقل قد تم أستحصاله من الشعب المصري. وشدد الخديوي إسماعيل من أجل تفادي الإفلاس المالي وما قد يعقبه من غزو للقوى العظمى، من استغلال الشعب المصري من خلال إعادة العمل بضريبة الأرض، ومن خلال الإقراض الداخلي الإجباري. ولكن الواردات كانت ضئيلة بسبب إعفاءات الطبقة الإقطاعية الفاسدة، إذ كانت جميع الأراضي الخديوية معفاة من الضرائب، فدارت عملية ابتزاز للشعب المصري، وحتى مرسوم المقابلة، الذي يحتم مالكي الأراضي دفع فوري مبلغ يعادل ستة أضعاف الضريبة السنوية، لم تكن له فاعلية تذكر.
وهكذا ففي عام 1875 كانت مصر على شفا انهيار مباشر في أوضاعها المالية، فتحرك الرٍأسمال البريطاني لاستغلال هذا الوضع، ففي نفس العام أكتسب رئيس الوزراء البريطاني ديزرائيلي، وبدعم من المصارف اللندنية روتشيلد Rothschild وبمبلغ زهيد (أقل من 4 مليون باوند أسترليني) 176،602 سهم من أسهم قناة السويس، وبذلك أصبحت 44% من مجموع أسهم قناة السويس ملكاً للحكومة البريطانية، والتي أصبحت بدلاً من مصر، مالك الأسهم الرئيسي للشركة العالمية البحرية لقناة السويس Compagnnie Universelle du Canal Maritime du Suez، والتي ستصبح من الآن فصاعداً مفتاح درة الإمبراطورية (الهند) في يدها.
وبلغت أرباح بريطانيا الضعف..! وحتى الملايين الأربع الإسترلينية لم تكن تكفي لتغطية العجز في الميزانية المصرية، وفي عام 1876 تصاعد دين الدولة المصري إلى 94 مليون جنيه إسترليني، وكان دخل البلاد الواطئ(10 مليون جنيه) أقل من أن يؤمن التزامات الفائدة إزاء الدائنين الأوربيين، ولكن ذلك كان يعني عملياً إفلاس الدولة الأمر الذي كانت تتمناه وترغبه القوى الأوربية كمبرر للتدخل المباشر.
فعمدت الدول الأوربية عام 1876 إلى تأسيس ما يسمى بالصندوق الدولي للدين Caisce de la Dett Rubloq من أجل مراقبة الأوضاع المالية المصرية.وقد عبر تيودور روتشتاين أحد أهم ممثلي الجناح اليساري لحركة العمال البريطانية عن الظلم الذي لحق بالشعب المصري، عن ذلك بالكلمات التالية: " والآن هناك اقتصاد قلما يوجد له مثيل، والبلاد لم يعد بوسعها أن تتحمل الأعباء الملقاة على عاتقها، وكلما يحين موعد التسديد تحل المأساة. إن نفقات البلاط والإدارة قد خفظت إلى أقل ما يمكن، وكذلك رواتب الموظفين التي قد تتأخر لأشهر طويلة. وقد سرح جزء من الجيش، وصودرت حتى العظام من المقابر، واستغلال الأهرام لاستخراج الفوسفات(التي منحت كأمتيازات وكذلك الكمارك) ورفعت أسعار السكك الحديدية بشكل كبير، وأنهك الفلاحون وضربوا، وحتى الحبوب تعرضت للسرقة من الحقول، وكل ذلك من أجل دفع القسط في موعده تماماً، وكانت حتى الدقائق تحسب من أجل ذلك. وكان عام 1878 مفزعاً بصفة خاصة، إذ تجد النساء والأطفال يتجولون متسولين من قصر لقصر ومن قرية لقرية وهم يتناولون(يأكلون) من المهملات، بل وحتى القاذورات والأزبال من الشوارع، وقد تم التسجيل: أن كل موسم صيف يؤدي بحياة 10 ألاف إنسان من الجوع وآلاف غيرهم يموتون من الدزانتريا ومن أمراض جوع مشابهة.
أسست القوى العظمى في مصر عام 1878، (وكانت لما تزل رسمياً وقانونياً تابعة للإمبراطورية العثمانية)، مجلساً جديداً للوزراء من أجل إبعاد الخديوي إسماعيل من الوظائف الحكومية، وأشغلت الشخصيات التابعة للدائنين الإنكليز والفرنسيين الحقائب الوزارية المهمة، وأخذت الحكومة الجديدة بنظر الاعتبار مصالح البريطانيين والفرنسيين في طلب ديون جديدة وكذلك تسريح 2500 ضابط من الجيش المصري من أجل مواجهة ما يدور من تخطيط لمعارضة عسكرية.
وكانت المسألة قد تمت مناقشتها في الأوساط الدبلوماسية الأوربية، وكما يلي: أي من القوتين تستطيع أن تحسم مسألة " السباق نحو السويس "، إذ كان مستشار الرايخ الألماني بسمارك يعتبر مصر قطعة لعبة شطرنج في خطط سياسته الخارجية، وكان يرى في المسألة المصرية مشروعاً لمصلحة السياسة الأوربية في مواجهة القوى العظمى الفرنسية والبريطانية العدوانية، ومن أجل شد القوى العسكرية الفرنسية الرئيسية في شمال أفريقيا بعد احتلالها لتونس، وبذلك أصدر توجيهه لسفيره في لندن قائلاً:" وبدون أن تجعله يستغرب " أي أن على سفيره تحبيذ احتلال الإنكليز لمصر.
وفجأة ظهر على الحلبة ما لم يكن بالحسبان، لا للإنكليز ولا للفرنسيين، ولا حتى لبسمارك، بروز قوة تقف بوجه النوايا السياسية الاستعمارية لقوى المال الكبرى الأوربية الغربية، وتلك كانت: ظهور أول حركة تحرر وطنية لعموم الشعب المصري. إذ وقفت وساهمت كافة طبقات الشعب (عدا الرجعية، وهي على الأغلب العناصر التركية ـ الشركسية لطبقة الإقطاع وعدد محدود من فئة الكومبرادور المتحالفة مع الرأسمال الأوربي) وقفوا ضد السياسة الاستعمارية للقوى الأوربية وطغيان الخديوية.
وبدأ الملايين من الفلاحين الذين كانوا يرزحون تحت الإقطاع، يواجهون أوضاعهم الاجتماعية الرهيبة، والخوف من إجراءات الحكومية. وحدثت في قرى وادي النيل حدثت بعض الانتفاضات العفوية وإحراق لسندات الديون، وإلى احتلال الأراضي وتوزيعها للملاكين المكروهين. وعبثاً حاولت حكومة خديوي إطفاء النار الملتهبة، إذ كان الجمود العميق واليأس يخلق أجواء ثورية عامة في الخمسة ألاف قرية مصرية. وكان الفلاحون الأميون الجهلة الذين لا يمتلكون الوعي، يدعمون المحرضين والدعائيين العاملين للحركة الوطنية والمقاومة، فيما كان سكان المدن من الفقراء والعمال اليدويين في السوق والمثقفون من البورجوازية الحديثة يملئون الأجواء بالروح الثورية، وفي الطرف المقابل كان أعداء سيادة بلادهم من مالكي الأراضي وجامعي الضرائب.
وكان المتحدثون في قضايا الآيديولوجيا يمثلون ظاهرة جديدة، من العناصر البورجوازية، وبصفة خاصة من الطلاب والصحفيين الذين بدءوا يضمنون أفكارهم الراديكالية في النشرات والصحافة. وقد تطورت هذه المجاميع بسرعة في تلك السنين.
وقد لعبت الصحف السياسية اليومية والمجلات الأسبوعية مثل "الوطن" أو " مصر " و "التجارة "، "مصر الفتاة " و"التنكيت والتبكيت" دوراَ رائعاً في تكوين الوعي الوطني المصري، وكذلك كان مهماً دور الكتاب المؤسسين للمدرسة الرومانسية في الأدب العربي الحديث، مثل: الشاعر السوري أديب إسحاق، الذي كان متأثراً بأيديولوجية الجناح اليساري ريزو رجيمنتو الإيطالية، ويعقوب صنوع وكذلك عبد الله نديم الذي أصبح داعية من أجل مصر حرة ديمقراطية، وكان النديم عاملا للتلغراف(برق وبريد) ثم تاجراً وأصبح أخيراً مدير مدرسة. وبعد أن أحتل الإنكليز مصر وضعوا جائزة كبيرة لرأسه، وكان قد أصبح محامياً حقيقياً للشعب ونال أعجاب كبير من الشعب الذي أطلق عليه اللقب التشريفي "خطيب الثورة" ودعا عبد الله النديم الشعب إلى خوض النضال من أجل حريته.
وكان برنامج الحركة في عملية التقدم التي تخوضها القوى البورجوازية الراديكالية يلخص كما يلي: أن تكون مصر مستقلة، انتخاب برلمان ديمقراطي ووضع دستور، السيطرة على ميكانزم (آليات) سير الدولة عن طريق البرلمان، أبعاد الموظفين الأتراك والأوربيين من المواقع القيادية في الإدارة، حرية الصحافة والتجمعات، المساواة بين المواطنين أمام القانون، أصلاح القانون، أصلاح الضرائب، سن سياسة كمركية توفير الحماية للمنتوج الوطني، وباختصار أن تأخذ مصر المبادرة بنفسها وتستقل سياسياً واقتصادياً وتمصير أجهزة الدولة.
وكانت تأثيرات الثورة الفرنسية، بالاستناد أيضاً إلى المشاهدات الوطنية الديمقراطية لرفاعة الطهطاوي التي انتشرت أخبارها في القرن التاسع عشر في مصر وحركة الاستقلال الإيطالية واضحة لا يمكن إنكارها، بل أنها عبرت عن النضج أيضا، التي أنتج شعوراً وطنياً دقيقاً ومتيناً، ودون تجاهل الاعتبارات الاجتماعية لمصلحة الجماهير العريضة.
وكان بعض علماء الدين قد ارتبطوا أيضاً وبحسب أوضاعهم الاجتماعية بالشعب، وكذلك عدد كبير من علماء جامعة الأزهر، وكانوا يدعمون الحركة الوطنية، وكان أكثر من تميز في هذا المجال: جمال الدين الأفغاني الذي كان قد تأثر اشد التأثر وحمل أعمق الانطباعات عن انتفاضة سيبوي Sepoy في الهند عام 1857 والذي كانت الرجعية تطارده حيثما حل من بلد إلى بلد، وهو يطرح الإشارات والبواعث القوية للنضال التحرري.
وكان الأفغاني قد تلقى الدراسة من عام 1871 وحتى إبعاده عام 1879 في جامعة الأزهر، وكان يمثل الاتجاه الديمقراطي في الإسلام، وحاول أن يجعل العلاقات الرأسمالية مناسبة، وأعلن عن وقوفه ضد السلطة المطلقة للخديوية، وأدان بشكل حاسم المساعي الاستعمارية للدول الأوربية العظمى، وفي نفس الوقت قاوم الأفغاني سلطة ونفاذ كلمة الأشكال الفكرية التي تقرر أن الأوضاع السياسية كأنها أمور مقررة من الله وكان يشير في كتاباته أن: يجب على الشعوب أن تكون فاعلة ومقررة لشؤونها في المستقبل.
ثم ابتدأت هذه الأفكار تحتل مكانة متقدمة داخل الحركة الوطنية المتجهة نحو الراديكالية المتنامية، وحيث أنتظم ثلاثة ألاف من ضباط الجيش منهم من العاملين في الوحدات ضمن صفوفها، وكان الخديوي سعيد وكذلك إسماعيل قد أنتخب هؤلاء الضباط الذين بين الأعوام 1860 و1876 من بين صفوف فئات الفلاحين الوسطى والعليا، وفئات الموظفين. وكان هؤلاء الضباط الشبان، مرتبطين بشدة مع العناصر الفلاحية واحتجوا بصورة فعالة ضد التخفيض الإجباري الذي فرضته بريطانيا العظمى وفرنسا على القوات المسلحة من 45 ألف إلى 18 ألف، كذلك التخلف في التسليح. وكان من بين صفوف الجيش قادة معترف بهم مثل: العقداء أحمد عرابي، وعلى فهمي، وعبد العال.
ومع النفوذ المتنامي للعناصر البورجوازية ـ الراديكالية على حركة التحرر، تشكلت بين الأعوام 1876ـ 1879، عدة منظمات للمقاومة بما يشبه التنظيمات الإسلامية، وتجمعت قوى المعارضة في جمعيات سرية، ومنهم بشكل رئيسي: الماسونيون والعصبة السرية التي تكونت في الإسكندرية باسم (مصر الفتاة) التي مارست دوراً مهماً وقوياً. ويعتقد، (وهو ما لم يثبت بالمصادر التاريخية) وجود صلات بين هاتين المنظمتين السياسيتين للتحرر المصري. وكان لها في فروع في دمشق، وبيروت وطرابلس، وصيدا، حيث تأسست منظمات سرية كانت تنادي بالحكم الذاتي لسورية ضمن الدولة العثمانية، وكانت تقيم الصلة مع حركة الإصلاح التركية(تركيا الفتاة).
وفي شباط 1879 تحركت المعارضة الوطنية للمرة الأولى بعمل خارج البرلمان، إذ وبقيادة ضباط الجيش الوطنيين تقدمت مسيرة من معسكرات القاهرة أمام وزارة المالية وطالبت باستقالة الحكومة وكذلك رغبت بتسمية الليبرالي مالك الأراضي شريف باشا رئيساً للوزارة. وبضغط من القوى العظمى ولا سيما مستشار الإمبراطورية بسمارك(ألمانيا) بإقالة الخديوي إسماعيل، وتنصيب ولده توفيق بدلاً عنه، وأذعنت الأوساط الحاكمة لطلبات القوى المالية الأوربية، وهكذا أصبح الرجعيين الأتراك والشراكسة من عصابات البلاط في قمة الوزارة، واستحوذوا على وزارة الدفاع التي نادى الضباط من أجل تكوين قاعدة سياسية مشتركة هي الحزب الوطني.
وقد شمل الحزب الأول في تاريخ الحركة التحرر الوطنية المصرية(شبه شرعي وبدون تنظيم منضبط)، إلى جانب الغالبية ممن كانت مواقعهم الاجتماعية تتطلب منهم كعناصر بورجوازية راديكالية، ممثلين من كافة الأديان، وأيضا عناصر ذات نفوذ من الملاكين الكبار، وقد تمكنوا من وضع برنامج مؤقت بتاريخ 2/ نيسان ـ أبريل / 1871 وبناء على طلب الإصلاح الدستوري والقضايا المالية لغرض تحديد مواقع النفوذ. وبعد بضعة اشهر كان ممثلوا الأرستقراطية الريفية قد طردوا من قبل الضباط من المواقع القيادية في الحزب. وفي بيان صادر عنهم بتاريخ 4/ تشرين الأول ـ أكتوبر / 1879 تحت شعار(مصر للمصريين) ينادي بتحرير مصر من التبعية المالية للخارج، وأبعاد كافة الأجانب من الدوائر الحكومية والقيام بإصلاحات تربوية وإدارية وتقوية الجيش وسن دستور ديمقراطي.
والخطوة المتقدمة الأبعد تمثلت بقيادة القوى البورجوازية والراديكالية من بين صفوف الضباط والأنتلجنسيا(فئات المثقفين) وابتدأ العلاقة بين النضال ضد الأعداء الداخليين والخارجيين للاستقلال الوطني، وأصبح من الممكن تشخيصهم. فمن أجل مصر والشعب المصري، والاستقلال في دولة ديمقراطية، كان يجب إنهاء سيادة الخديوية من جهة، وكذلك نفوذ القوى الأوربية المالية العظمى من جهة أخرى.
وكان رد الخديوي على البيان(الإعلان) الصادر من الحزب الوطني، مباشراً، فوضع بتاريخ 31/ تموز ـ يولية / 1880 شروطاً قاسية لترقية الضباط المصريين، وكانت تلك إشارة للضباط الملتفين حول أحمد عرابي، من أجل القيام بنهوض صريح. وكانت لتطورات اللاحقة مؤثرة على هذه الأحداث: ففي كانون الثاني ـ يناير/1881 حررت القوات المنتفضة الضباط المعتقلين من مجموعة عرابي، بعد أن كان الضباط الوطنيين في أيلول ـ سبتمبر/1881 قد أحبطوا محاولة من الخديوي توفيق بتشتيت الوحدات الوحدات العسكرية الدائمية التي كانت بقيادة أحمد عرابي إلى المحافظات من أجل أن يحرم حركة التحرر الوطنية وقياداتها من قوتها العسكرية الضاربة. وكان على الخديوي الموافقة على تعين عرابي بمنصب نائب سكرتير الدولة في وزارة الحربية وكان الحزب الوطني قد أستحوذ على غالبية المقاعد النيابية في الانتخابات البرلمانية الجديدة.
وقدم الإنكليز والفرنسيون بتاريخ 8/ كانون الثاني ـ يناير/ 1882 إنذاراً، ضد الحزب الوطني لاقى الدعم والتأييد الكامل من الخديوي، كما أنه حرم المؤتمر الوطني المصري من حق الموافقة على الميزانية، ثم قادت إلى تصفيات للمعالم السياسية لحركة التحرر. وكانت الكتلة المؤلفة من كبار ملاكي الأراضي وكبار التجار والموظفين من الدرجات العليا مستعدة للتواطؤ والخيانة. وعندما غادر ممثلوهم: شريف باشا رئيس الوزراء، وسلطان باشا رئيس البرلمان، المعسكر الوطني وتواطأت زعاماتهم فنالوا المناصب القيادية.
وفي ذلك الوقت تشكل مجلس وزراء الثورة برئاسة البارودي وعرابي كوزير للحربية، وقد بدأ مجلس وزراء الثورة المصري حالاً بالعديد من الإصلاحات المهمة. وقبل كل شيء العمل على سن دستور جديد، وتسريح الموظفين الأجانب من خدمة الدولة، إصلاح أوضاع التعليم والتربية، تأسيس بنك وطني، تنظيف الجيش من العناصر التركية والشركسية. وبذلك كانت مصر على الطريق لأن تصبح دولة وطنية مستقلة، إلا أن عرابي أصبح الآن يواجه الحقد والكراهية الوحشية من الرجعية الداخلية والخارجية. وفيما بدأت مصر بانتهاج سياسة مستقلة، كانت القوى العظمى تعد العدة لغزو عسكري مباشر.
وفي 20/ أيار ـ مايو/1882 ظهر الأسطول الحربي البريطاني والفرنسي في البحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل الإسكندرية وقدمت إنذارا نهائياً Ultimatum طالبت فيه القوى الاستعمارية العظمى إزاحة مجلس الوزراء الوطني، ونفي أحمد عرابي. ولكن الخديوي أبدى عدم اقتداره على تنفيذ مطالب الغزاة المعتدين حيال الشعب الغاضب.
وأصبح الآن للحركة الوطنية طابعا الجماهيري، لا سيما في الإسكندرية والقاهرة، وكذلك في المدن الصغيرة لوادي النيل التي اشتدت فيها المقاومة ضد الاستعمار. وقد جمعت التواقيع في كافة أرجاء البلاد من أجل خلع الخديوي، وفي تلك الأيام أطلق على عرابي اللقب التشريفي "منقذ الوطن".
وبقصف الإسكندرية ليومي 11و12 / تموز ـ يوليو/ 1882 والهجوم على المدينة بواسطة القوات البريطانية، كانت قد أصبحت هناك ظروف جديدة. حيث وضع الخديوي توفيق والفئات الرجعية للمجتمع أنفسهم على الفور تحت حماية المحتلين. وفي القاهرة كون عرابي وبدعم من التجمع الوطني " لجنة الدفاع الوطني" بالاتفاق مع علماء جامعة الأزهر، التي أعلنت الخديوي كخائن. واندفعت الجماهير في الولايات القريبة التابعة للإمبراطورية العثمانية، لا سيما في بيروت ودمشق وصيدا واللاذقية وحلب وطرابلس، للمرة الأولى منذ الاحتلال التركي في القرن السادس عشر في مظاهرات يعبرون فيها عن انتمائهم العربي الموحد. وفي تأيد مصر وحركة التحرير فيها.
في أيلول ـ سبتمبر/1882 وبعد هزيمة قوات عرابي قرب التل الكبير، انهارت مقاومة الحركة الوطنية المصرية. وفي 14/ أيلول ـ سبتمبر/ بدأ المحتلون حملتهم على القاهرة، وحققوا انتصارا على جيش بتسليح سيئ، كثير النواقص، وكذلك بسبب خيانة الضباط الأتراك والشراكسة في قتالهم. وكان ثأر المحتلين المحتلين المستعمرين فضيعاً، إذ نفى قادة حركة التحرر بما فيهم عرابي وحبس 29 ألفاً من المحاربين، وحل الجيش المصري، وإلغاء الدستور، حل البرلمان، ومنع الحزب الوطني عن العمل.
وبعد أشهر قليلة من احتلال مصر، أدلى رئيس وزراء بريطانيا كلادستون Gladston بخطبة في مجلس العموم، ألتزم فيها بأن الاحتلال سوف لن يستمر لأكثر من 1/ كانون الثاني ـ يناير/1888 هذه الكلمات كانت وكما تبين بعد ذلك بوقت قصير، ديماغوجية صرفة، فيما أخفيت حقيقة دوافع السياسة البريطانية عن منافستها فرنسا وأيضاً الإمبراطورية العثمانية عن الشعب المصري.
وكانت بريطانيا قد عزمت منذ زمن بعيد أن تستمر بالاحتلال إلى ما لا نهاية، وكانت الحكومة البريطانية بحاجة إلى مصر للسيطرة على الطرق البحرية إلى الهند، المدخل إلى احتلال مستعمرات جديدة في أفريقيا وفي الشرق الأوسط، والحصول على مواد خام مهمة وكذلك على أسواق ذات قدرات متنامية للرأسمال الفائض والإنتاج الصناعي الوفير للصناعة البريطانية. وتلك الأسباب هي التي جعلت الجيش البريطاني أن يصل إلى القاهرة عام 1882 وليس كما تحاول الرواية البريطانية الرسمية أبلاغ العالم المندهش.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: