الصواريخ السوفيتية في كوبا : في كواليس الحرب الباردة -1-
ترجمة: د. ضرغام الدباغ
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11028
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قضية خليج الخنازير .. وما يتداعى للأذهان، أحداث الإنزال الذي لقي مقاومة باسلة من الشعب الكوبي، وحضي بأسناد ودعم من الاتحاد السوفيت، عد في وقته (ولا يزال) من أهم أحداث الحرب الباردة، بل من الأحداث التي حبي فيها العالم أنفاسه من أنفجار الحرب العالمية الثالثة .. نووية لا تبقي ولا تذر.
ورغم قرب الكاتب من مراكز القرار وتمتعه بمنصب رفيع في وزارة الخارجية الأمريكية، وسفيراً لها في أحدى نقاط التماس الهامة (سفيراً لها في بون / ألمانيا الأتحادية) إلا أننا نلاحظ أن الكاتب يرتكب أخطاء فادحة في المعلومات ، وأكثر منها في التحليل، وقد اشرنا إلى بعض تلك في هوامشنا، دون التدخل في النص الأصلي.
المقال مهم، نشرته مجلة دير شبيغل Der Spiegel) )الألمانية الواسعة الأنتشار ويبدو لي أنه مفيد كل الفائدة للمثقفين بصورة عامة، السياسيين والدبلوماسيين والمؤرخين على حد السواء، والمعلومات حول مثل هذه الأحداث الهامة للغاية لا تزول أهميتها، بل قد نجد العبرة في أستعادتها، كعلامات لهيمنة أمريكية على منظمة الأمم المتحد ومجلس الأمن حتى في تلك الأعوام التي كان فيها الأتحاد السو فيتي والمعسكر الاشتراكي يمارس نفوذه على مسرح السياسة الدولية، وغير ذلك من المؤشرات، وهو بالضبط ما دفعني لأن استل هذه المقالة من مؤلفنا (قلب الأشياء) وأدفعها للنشر تعميماً للفائدة.
المترجم: د. ضرغام الدباغ
* * * *
كان السفير ولتر دولينغ يقضي أجازته قرب والدته في ولاية جورجيا عندما استدعي فجأة إلى واشنطن ليعود بعدها إلى بون في مهمة عاجلة للغاية. وقد دخل السفير دولينغ الذي كان يصحبه السيد سمث من وكالة المخابرات الأمريكية CIA إلى دائرة المستشار الألماني الاتحادي مساء ليلة 22/ تشرين الأول ـ أكتوبر / 1962 في شاومبورغ واستقبل على التو من قبل المستشار الاتحادي كونراد أديناور. وكان المستشار البالغ من العمر 86 عاماً، قد استدعى إليه ثلاثة من مساعديه: وزير الخارجية هانز كلابكة، جيرهارد شرويدر، وهورست أوستر هيلة رئيس قسم البلدان الأجنبية في دائرة المستشار الاتحادي. وسلم السفير دولينغ المستشار رسالة من الرئيس جون ف. كندي وترجمتها إلى اللغة الألمانية التي تتضمن ما سيعلنه الرئيس في هذه الليلة، الاثنين إلى مواطنيه في الساعة 1900(السابعة مساء) بتوقيت واشنطن المحلي عبر كافة شبكات التلفزيون.
كان المستشار العجوز يقرأ بعيناه المتعبتان ثم يسلم صفحة أثر صفحة بعد أن يفرغ منها إلى مساعديه. كان يقرأ عن الصواريخ المتوسطة المدى ذات الرؤوس النووية التي قام السوفيت بنصبها سراً في كوبا على بعد 150 كم عن السواحل الأمريكية، والتي حاول السوفيات من خلال تطمينات كاذبة تضليل الأمريكان. كما قرأ المستشار أن الرئيس الأمريكي قد أكتشف القرار السري لموسكو بدفع الصواريخ إلى أبعد مدى في تمركزها، وأعتبر ذلك استفزازاً وتبديلاً غير مشروع للاتفاقات، لا يمكن السكوت عليه أو القبول به.
وأحيط المسئولين الألمان الأربعة(المستشار ومساعديه) بما بفكر به الرئيس الأمريكي القيام به من أجرأت مضادة. فهو يريد ابتداء من اليوم، الرابع والعشرين من أكتوبر ـ تشرين الأول، الساعة العشرة ضرب طوق بحري لحصار كوبا بما لا يدع المجال لأي سفينة بالعبور منه. وقد زودت سفن الحصار بالأسلحة النووية الهجومية وسائر الأسلحة الحربية الأخرى. وبأنه سيطالب بسحب الصواريخ السوفيتية من كوبا وإذا لم يحدث ذلك، فإنه (الرئيس الأمريكي) سيتخذ إجراءات قاسية وأنه " من مصلحة الخبراء السوفيات الموجودين هناك في القواعد، وآمل أن يدرك الاتحاد السوفياتي الخطورة التي تحدق بهم والذي سيكون قائماً بلا شك ".
وبعد هذا اللقاء مباشرة، كتب أديناور إلى كندي يحي فيه القناعة والتصميم في إجراءات الولايات المتحدة المضادة، ولكنه في الحقيقة كان يرى في برنامج الرئيس الأمريكي تردداً وحذراً وفتوراً والتقصير أيضاً. وهو لم يخفي رأيه هذا عن وزير الخارجية الأمريكية الذي زاره في اليوم التالي، بان خطة ومنهج الرئيس كندي، تتميز بالنعومة الشديدة، ثم طالب بالاستماع إلى وجهات نظر سائر الحلفاء الغربيين في أوربا.
وبينما كان رئيس الوزراء البريطاني ماكميلان والرئيس الفرنسي الجنرال ديغول يعتقدان بضرورة تجنب سفك الدماء، كان أديناور يعتقد أن الفرصة قد حانت لإلحاق الهزيمة بالشيوعية. وقد سجل هورست أوسترهيلد مساعد أديناور للشؤون السياسية الخارجية الملاحظات التالية:
" إن أديناور يعتقد أن الأمريكيون قد ناموا طويلاً، وإن ردود فعلهم ليست نشيطة بما فيه الكفاية، وإن الحصار ليس كافياً، والأهم هو تدمير الصواريخ واحتلال القواعد وذلك وحده سيكون الكفيل بتحويل التهديد بالهزيمة إلى نصر ونجاح، وإنه سيؤدي إلى تحرك حقيقي ".
وبحضور السفير دولينغ، طالب أديناور استخدام القوة المميتة ضد كوبا، وأنه يؤيد أجراء القصف والاحتلال، أو كلا الأمرين معاً. ولا بد من إبادة ومحو القواعد حتى إذا أدت هذه إلى حرب مع الروس في منطقة الكاريبي، وفيما إذا كان ذلك سيلحق الضرر بالألمان ولو بدرجة بسيطة، نقل الصقر العجوز(أديناور) إلى الرئيس الأمريكي الشاب كنصيحة من رجل دولة لرجل دولة بأنه من خلال احتلاله لكوبا، فإنها ستكون رهينة صالحة في يده.
وكان الرئيس الأمريكي كندي في رسالته قد ذكر بصفة خاصة، أن الحصار الأمريكي لكوبا قد يكون له تأثير معاكس في برلين. لذلك كان الرئيس مندهشاً من رد فعل أديناور، مندهشين كذلك من موقف تركيا العضو في حلف الناتو كألمانيا، وأستغرب الرئيس الأمريكي ذلك، وسأل شقيقه روبرت كندي(وزير العدل) طالباً الإجابة: " هل تدرك هذه البلدان تماماً وبوضوح ماذا يعني لها هذا الخطر ؟ ".
وكان الرئيس الأمريكي قد أجرى حساباته وامكاناته، كما وصف ذلك نكيتا خروشوف في مذكراته: " إن الأمريكان كانوا يعلمون، إن دماء السوفيات إذا سالت في كوبا، فإن دماء الأمريكيين سوف تسيل في ألمانيا ". (1)
* * * *
كانت ثمانية طائرات نفاثة مقاتلة تابعة للسلاح الجوي الأمريكي من طراز F101 والمعطاة أسم رمزي فودو Voodoo تقوم برحلة على ارتفاع منخفض وبعمق أكثر من 150 كم في عرض المضيق البحري بين جنوب ولاية فلوريدا الأمريكية والجزيرة الكوبية، ذلك المضيق الذي تكتنفه الأعاصير التي تصب في المحيط الأطلسي قبل أن تصل إلى السواحل المرجانية الكوبية، ثم تابع السرب تحليقه في مجموعتين تفرقتا إلى اتجاهين مختلفين.
بعد بضعة دقائق كانت الطائرات تزمجر فوق أهدافها الأربعة. وفي الأسفل كان الرجال فزعين وقد فوجئوا بظهور الطائرات، يبحثون عن شيء يقيهم، وهم الذين احتموا بالروس ليشيدوا لهم قواعد الصواريخ النووية من طراز SS4 وها هم يواجهون منذ الثلاثاء 23 / أكتوبر ـ تشرين الثاني، إنذار كندي الذي يطالب فيه سحب الصواريخ.
ابتدأت المجابهة الصريحة بين القوتين الأعظم، عندما مرت ضلال طائرات الفودو فوق الفنيين والجنود السوفيات، ثم كررت بعد ذلك تحليقها فوق الأهداف، وقام الطيارون بتشغيل أجهزة التصوير في الطائرات وتصوير قريب للمواقع. أما خارج قواعد الصواريخ، فقد كان الجنود الكوبيون يتراكضون بحماس صوب الأعداد الكثيرة من الأسلحة المضادة للجو التي كانت تطوق المواقع السوفياتية، وبعض تلك البطاريات المضادة للجو بدأت بإطلاق النيران التي لم يوفق الجنود المدربين تدريباً سيئاً في تحقيق شيء ضد الطائرات النفاثة التي كانت تطير بسرعة عالية.
وفي نفس النهار تنفست واشنطن الصعداء، وأعلن روبرت كندي شقيق الرئيس ووزير العدل قائلاً :" لقد قمنا بالخطوة الأولى ... وما زلنا على قيد الحياة " ترى هل يعتقد الأمريكيون حقاً أن القيادة السوفيتية لديها الرغبة بطحن واشنطن بين ليلة وضحاها. . !
وخروتشوف أطلق الكلمات فقط، في رده على الرئيس الأمريكي فيما يتعلق بالحصار بأنه: " عملاً من أعمال القرصنة الخالصة، أو بالأحرى فهو عمل يدل على انحطاط الإمبريالية " وأن سفن الاتحاد السوفيتي سوف تخترق الحصار البحري، الذي أكد بأنهم سوف لن يحترموه.
ولكن ساد شعور طيب في مقر قيادة الأزمة ( أركان القصر الأبيض من الخبراء والمستشارين) تحت الأرض، وعلى الجدار كانت هناك خارطة بحرية كبيرة لمنطقة شرقي الأطلسي، تظهر رموز تشير إلى سفن الأسطول الأمريكي الضخم التابع للبحرية الأمريكية، أو تلك المتجهة صوب كوبا: 17 مدمرة، 3 بوارج، وحاملة الطائرات أيسكيس Essex وهناك حاملتان أخريتان تقفان كاحتياط.
ومن الشمال الشرقي كان يقترب في تلك الأثناء خط طويل من السفن السوفيتية أو التي تعمل بآمرة السوفيت وعددها 25 سفينة، ومع أن بعضها ما زال بعيداً، كان يبدو عليها وكأنها غير مكترثة من إنذار وتحذير الرئيس كندي بإقامة الحصار البحري الذي دخل منذ الساعة العاشرة من صباح يوم 24 / أكتوبر ـ تشرين الأول موضع التنفيذ، وكانت السفن التي تحمل علامة المطرقة والمنجل (شعار الاتحاد السوفيتي) على مداخنها، ما تزال حتى يوم الأربعاء فجراً تمخر من أمام السفن الأمريكية وتمضي قدماً.
وأكثر ما كان يثير القلق عند مستشاري القصر الأبيض في اللجنة التنفيذية Executive Committe والتي يرمز لها اختصارا Ex – Comm الذين أطلعهم مدير المخابرات الأمريكية CIA جون ماكون، أن العديد من الغواصات السوفيتية تبحر في المنطقة، ويحتمل أن تصطدم إحداها بسفن الشحن، والرئيس كندي بدأ يخشى حدوث خطأ غير مقصود كما حدث عام 1914 وتؤدي بالتالي إلى حدوث حرب لا يريدها أحد.(2)
كان الرئيس يتحدث أمام اللجنة التنفيذية، بشكل سريع وهو في أقصى حالات التوتر، وأعلن أمام الحاضرين وهو مقطب الوجه قائلاً:" إن الأولاد الذين قد تعلموا أن الحصار هو رد سلمي، سيشاهدون قريباً شيئاً آخر ".
دخل الحصار موضع التنفيذ منذ الساعة العاشرة، وكانت هناك سفينتان شحن سوفيتيتان هما غاغارين وكومليس على مقربة من الخط المعلن للحصار، تبحران في خط متوازي، وكان ينبغي إيقافيهما وتفتيشها خلال ساعة، ولم تكن هناك أي أمكانية للقيام بذلك إلا باستخدام حاملة الطائرات اسيكيس ذات حمولة 40.000 طن، وقد قدرت قيادة البحرية إنها فعالة أكثر من البارجة أو المدمرة من حيث التأثير.
وهنا ألقى مكنمارا كلمة أمام الرئيس كندي وابلغ الحاضرين أن غواصة سوفيتية أجرت مناورة تحت الماء بين السفينتين السوفيتيتين غارغارين وكومليس وهي بذلك كأنها تحاول أن تورط السفن الحربية الأمريكية للقيام بعمل (قرصنة) ضد السفينتين السوفيتيتين.
استولى الشلل على الرئيس الأمريكي ومستشاريه وتعاظم فزعهم عندما أعلن لهم مكنمارا ما سيحدث وفق جداول عمل البحرية الأمريكية. الحاملة أسيكس والمدمرات المرافقة لها سوف لن تتجاهل الغواصة السوفيتية وغير مسموح لها بإيقاف السفن السوفيتية فيما إذا طفت الغواصة بالقرب منها(من السفن السوفيتية) وإن في ذلك مخاطرة كبيرة للسفن الأمريكية حتى وإن فعلت ذلك ومحركاتها واقفة عن العمل وكأنها سفن خشبية. وهكذا فإن مكنمارا طرح في هذا التصور: ترك الروس يدسون بأنفهم في الميدان.
لذلك فإن وزير الدفاع مكنمارا كان يرى: أن ليس هناك خيار آخر سوى إرغام الغواصة على الطفو والتحدث مع قائدها والإيضاح له بأنه من غير المستحسن البقاء في هذه المنطقة. أستمع الرئيس إلى ذلك بوجه متجهم، وإلى مقترح وزير الدفاع، ثم قرر: " إن على حاملة الطائرات اسيكس أن ترسل بإشارة تحت الماء بواسطة السونار Sonar Signal عبر القناة الدولية المعروفة I - D - K - C - A تتضمن التعليمات للغواصة بأن تطفو وأن تعرف عن نفسها.
وإذا لم يبدر أي رد فعل من الغواصة، تقلع طائرة سمتية(هليكوبتر) من ظهر الحاملة وتقذف بقنبلة إنذار بحرية، من تلك التي تحدث صوتاً ودوياً مرتفعاً ولكن دون أن تلحق أضراراً، وإذا لم تؤدي تلك الوسيلة إلى نتيجة، ستكون الخطوة القادمة التعامل مع الغواصة بالقنابل البحرية الحربية (عتاد حربي حقيقي) إما لإرغامها على الطفو، أو أن تبقى إلى الأبد في قاع البحر(أي إغراقها).
المدمرات لم تستطع أن تستوعب ما يعني كل ذلك، وما هي أهمية لو أن قنابل الإنذار عندما تقذف، ثم تظهر الغواصة في ضوء النهار الساطع، هل ستقوم الولايات المتحدة بقصف سفينة حربية سوفيتية ؟
كان روبرت كندي شقيق الرئيس يجلس قبالته في اجتماع مجلس الوزراء ويراقبه:
" رفع يده إلى وجهه وغطى فمه، ثم بسط قبضة يده وشدها، كانت أسارير وجهه تشير على نفاذ الصبر وتلوح على عيناه الألم بلون رمادي، وكان الخطر والقلق الذي نشعر به جميعاً يحوم فوقنا كالغيوم. هل العالم على شفا مجزرة مدمرة ...؟ ترى هل كان ذلك بخطأ منا ...؟ وماذا كان ينبغي علينا غير الذي فعلناه ".
ولبضعة ثوان، شعر روبرت كندي بأن الأحداث والوقائع تكاد به إلى الغيبوبة، فلم يعد يسمع الأصوات من حوله، وأخذ يفكر بموت شقيقهم الأكبر جوزيف، يفكر بالمرض الصعب لجون(الرئيس) الذي يقترب به من الموت، يفكر بالأوقات العصيبة المليئة بالآلام التي مر بها شخصياً، كان روبرت يشعر بما يطلق عليه في الطب (كآبة مؤقتة)، فترة قلق وشرود في الفكر كالجندي في القتال، أو كما أن مريضاً مقبل على عملية جراحية صعبة.
ثم سمع روبرت السؤال الذي وجهه شقيقه إلى وزير الدفاع، كما لو أنه يأمره :" ألا نستطيع بطريقة ما أن نتحاشى الاصطدام بالغواصة السوفيتية "، والرئيس الذي كان يقوم بمهام القائد العام كان يقصد بوضوح أن على حاملة الطائرات معالجة الموقف والتعامل مع سفينتي الشحن السوفيتيتين بدون الاكتراث للغواصة.
ولكن البحرية لا تجيز مثل هذه القواعد في العمل، ومن ثم هناك القيادة العامة التي لا يمكن تجاهلها: " كلا، أنبرى مكنمارا " الخطر كبير على قطعنا البحرية وليس هناك من بديل ".
لا أحد من اللجنة التنفيذية كان بإمكانه خلال أسبوع انصرم، الإدراك على سبيل المقارنة أن يكون هناك استعراض قوة، لطيف وناعم من خلال إقامة حصار بحري يؤدي بالرئيس إلى ما يشبه السجين، في وضع لا يمكن حله بين غواصة سوفيتية وبين ما تقوم به بحريته.
وهناك في الأطلسي، إلى الشمال الشرقي من جزر البهاما، اتخذت حاملة الطائرات اسيكيس طريقاً لها بحيث أنها وبواسطة الطائرات السمتية المقلعة من على ظهرها، وبإلقاء مسابر (لسبر غور الأعماق) تستطيع أن تحدد فيه موقع الغواصة.
" علينا أن نضع في حسابنا أن السوفيت سوف يتحركون من برلين " هكذا أوحى الرئيس كندي، " ويمنعون الدخول إلى برلين الغربية عن طريق البر، حتى لو لم يصاب أحد بضرر"، لذلك كان التوجيه تحت عنوان "التحضيرات الأخيرة" من أجل هذا الاحتمال. ويكتب روبرت كندي :
" لقد شعرت بأننا نقف على شفير هاوية ولا نستطيع العودة إلى الوراء، وقد بدأ الرئيس كندي بتمالك نفسه ويفهم الأحداث بمرور الوقت، ولكنه لم يعد يمتلك السيطرة عليها، إن عليه الانتظار، وعلينا الانتظار. وفي مجلس الوزراء تمر الدقائق ببطء، ماذا يمكننا بعد أن نقول، ماذا نفعل ؟ ".
الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة والعشرين صباحاً: أورد أحد الزوارق نبأَ إلى مدير المخابرات CIA جون ماكون في اللجنة التنفيذية، وقام ممثل للاستخبارات العسكرية بإبلاغ مدير المخابرات بأعلام هذا الجمع الصامت " السيد الرئيس، لدي خبر طيب حول ما يدور. لقد توقفت بعض السفن الروسية ".
لم يجازف الرئيس كندي والحاضرين لكي يصدقوا، فقد أصدروا التفاصيل الدقيقة، وبعد سبعة دقائق أعلمتنا الاستخبارات البحرية عبر المخابرات CIA " أن الأنباء صحيحة. السيد الرئيس: هناك ستة سفن بالقرب من خط الحصار قد توقفت أو حولت مسارها، حتى السفينتان غاغارين وكوميلوس وبناء على إشعار باللاسلكي في موسكو تلقت تعليمات تأمرها بالسير البطئ في اتجاه معاكس. أخيراً تحرر القائد العام الأمريكي في الدقائق الأخيرة من الاضطرار لإصدار قرار يرغم الغواصة على الطفو.
ولكن تنفس الصعداء هذا لم يدم طويلاً في مجلس الوزراء، إذ سرعان ما تكونت شكوك أن السفن السوفيتية إنما هي فقط بانتظار مجئ غواصات أخرى لتتجمع من أجل اصطحاب السفن وخرق الحصار البحري. وقد أصيب الرئيس الأمريكي بصدمة، وهو الذي كان يستفيد من استراحة التقاط الأنفاس من أجل رفع حدة التوتر في الموقف فأصدر الأوامر إلى البحرية بمواصلة عملهم.
وهكذا أصدر أمره إلى الأدميرال قائد أسطول الحصار بأن يوقف جميع السفن، سوفيتية كانت أو غيرها، وبدون انتظار أوامر من القصر الأبيض حتى ضد السفن التي تبحر في منطقة الحصار حالياً بدون الانتظار الأوامر التقليدية وحتى أوامر جديدة من الرئيس، وعلى قوة الحاملة أسكيس القتالية أن تتراجع(كما هي أوامر الرئيس) من أجل إفساح المجال للسفن الروسية الانسحاب والعودة.
وهناك بعض السفن لم يتم إيقافها على خط الحظر، ليس فقط السفينة التي تحمل علم ألمانيا الديمقراطية، والتي كانت تحمل 500 من المصطافين على متنها، وكانت في ضيافة قوات كاسترو الاشتراكية، وتلك لم يوقفها الأمريكيون لأن لا أحد منهم يحمل في بطنه صاروخاً، وكذلك ناقلة النفط السوفيتية (بوخارست) التي مضت تبحر في منطقة الحظر. وتضع موسكو عادة تصميم سفنها على أن تكون نافعة في المجال العسكري، ولكنها الآن في الاستخدام المدني، وها قد أخذ السوفيت علماً أن الناقلات بوسعها أن تمر.
وبعد الظهر، في اليوم التالي للحصار، عبرت الناقلة بوخارست بسرعة 17 عقدة خط الحظر، ونادت المدمرة الأمريكية كيارنغ على الناقلة عبر جهاز اللاسلكي، وعرف القبطان عن نفسه مؤكداً أن حمولته لا تتعدى النفط.
في اللجنة التنفيذية يطالب الصقور منهم (3) إن على المدمرة إيقاف الناقلة النفط والصعود على ظهرها وتفتيشها، فالناقلة بوخارست غير معروفة بكونها ناقلة نفط. وعلى كل حال، إن على أمريكا أن تستعرض قوتها وتظهر للروس نفاذ صبرها وحزمها والتصميم. ولكن الرئيس كندي رد على الحذر الروسي بالتقدير، إذ ترك الناقلة بوخارست أن تمر أمام المدمرة دون إيقافها، أو أنه كان يؤجل اتخاذ القرار فيما واصلت الناقلة إبحارها حتى وصلت المياه الإقليمية الكوبية ودخلت ميناء هافانا.
وبالفعل، ففي خلال خمسة أيام لم يسمح فيها للبحرية الأمريكية بالتعرض لأي سفينة سوفيتية، ما عدا سفينة واحدة فقط كانت متجهة إلى كوبا، أمر كندي بإيقافها وتفتيشها، ولم يحدث ذلك إلا في اليوم الثالث للحصار، ولم تكن الضحية المنكودة التي اختبرت سوى (بائعة ضمير) تدعى ماروسلا والتي كانت مؤجرة للاتحاد السوفيتي وكانت تعمل بطاقم يوناني وتبحر تحت العلم اللبناني، واليونانيون باعتبارهم مواطني دولة تنتمي إلى حلف الناتو تحملوا الاختبار بدون تذمر، ولم يكن هناك أي رد فعل من لبنان، وكانت السفينة تحمل مكائن وسيارات شحن.
وليست الأجواء المشحونة منذ بدء الحصار جعلت من الرئيس في غاية الاحتراس، ففي عام 1960 كان الرئيس كندي قد أعتبر المؤرخ أرثر شليزنغر قد أفشى سراً في أطروحته حول الأزمات في العصر الذري عندما قال " لا تقد خصمك أبدا إلى موقف حرج، بل ساعده دائماً في إنقاذ ماء وجهه، ضع نفسك محله ! ".
وكان الصقور في اللجنة التنفيذية يميلون إلى استعراض القوة، وقد وقفوا بوجه كندي في اللجنة، إذ طرحوا تصوراً بأن خروتشوف في نفس هذه اللحظة قد يواجه الصقور في الكرملين بموسكو لإظهار القوة والتشدد. وكان اقل من شقيقه روبرت يفكر في خروتشوف ويتصوره ويفكر في مشكلات خصمه حتى عندما أمتنع عن إصدار الأمر بإيقاف ناقلة النفط أو تفتيشها، عندما قال كندي للمسئولين المجتمعين معه: " يجب أن لا نحمل أو نقود خروتشوف على القيام بحركة ضدنا، لنعطي الوقت للتفكير ولا أريد أن أحشره في زاوية لا يستطيع الخروج منها " .
كان نكيتا سيرغيفيتش خروتشوف قد تعرف على جون فيتزجرالد كندي أثناء زيارته لأميركا عام 1959 عندما كان سناتوراً عن ولاية ماساشوسيتس والذي كان في ذلك الوقت قد ترشح إلى منصب الرئاسة الأمريكية عن حزبه. ويكتب خروتشوف في مذكراته " ما زلت أتذكر أن وجهه أعجبني وله في بعض الأحيان لمحات تعطي انطباعا قوياً، ولكن أيضا غالباً ما يمنح انطباعا بأنه يتمتع بمزاج طيب ويطلق الابتسامات ".
وكندي بدوره كان قد اسر لتيد سورنسن، بأنه لم يرى في خروشوف ذلك " المهرج الفظ" أو أحدى شخصيات غوغول المضحكة (4) وهو (كندي) ابن المليونير المنحدر من اصل ايرلندي، الذي يحتفظ بهذه الصورة عن خروتشوف الذي كان ابن عامل مناجم في كورسك(أوكرانيا)، شق طريقه في الحياة بذكاء. وهو يشبه تعامل القوتين الأعظم وكأنه صراع بين أثنين من الماعز الجبلي من ذوي الجمجمة الضخمة يتناطحان على طريق جبلي ضيق يحيق بهما هاوية سحيقة...!
وعلى الرغم من ذلك ... فإن هذين الماعزين الجبليين كانا قد اجتمعا مرة ثانية في مؤتمر فيينا حزيران ـ يونيه / 1961 ودارت محاولة مستحيلة، وهو ما يحدث اليوم، إذ أن خروتشوف يطالب كندي كما كان قد طالب في السابق من الرئيس ايزنهاور، وفي جوهر الأمر لا يختلف عما دار بين خلفه برجنيف بعد عشرة سنوات مع الرئيس ريتشارد نيكسون(ومعه فيلي براندت المستشار الألماني) حيث طرح الاعتراف بألمانيا الديمقراطية وبالحدود الغربية لبولونيا وذلك سيستدعي أن تبحث مسالة برلين الغربية (لصالح ألمانيا الديمقراطية)وكذلك اعتراف الغرب بدستور ألمانيا الديمقراطية.(5)
ولكن الرئيس كندي كان مرتبطاً بإرث سياسة الناتو، ووجد سريعاً بأن الهدف البعيد يكمن في إعادة توحيد ألمانيا في حدودها لعام 1937 وإنها سيسرها أي أتفاق يتم التوصل إليه بين الشرق والغرب في وسط أوربا. وكان كندي قد أعلن في مداخلة شخصية فيما يخص مشكلة برلين: " الله يعلم، إنني لست من دعاة سياسة الانعزال، ولكن يبدو لي بصفة خاصة، أن من الحماقة المجازفة بأرواح مليون أمريكي بسبب حادث على طرق المرور السريع " .(6)
وهكذا أوجد الرئيس الأمريكي الشاب نفسه في وضع عقيم. فإذا كان عليه الصراع مع خروتشوف، فعليه أن يظهر الصمود والتصدي، وأن يدع عضلاته العسكرية تلعب، على الرغم من أنه يفهم ويدرك موقف خصومه الذين يحرصون على إخفاؤه وإبقاؤه سراً حول العديد من القضايا المهمة، ولا ينطبق هذا الموضوع حول برلين وألمانيا فقط، بل وأيضاً حول أزمة كوبا.
ولم يكن بإمكان الرئيس كندي الشعور، كم هم الروس غير مسلين عندما يتعلق الأمر بالعديد من القواعد الذرية المحيطة بالاتحاد السوفيتي، وهم يدركون، قبل مغامرة خروتشوف الكاريبية(نصب الصواريخ في كوبا)، درجة تطور نظام الأسلحة الأمريكية، ولا شيء يمكن أن يثيرهم ويستفزهم أكثر من الصواريخ الذرية المسماة (جوبيتر) التي بوسعها الوصول من قواعدها في تركيا إلى موسكو في غضون اثنا عشر دقيقة، والتي نصبت في فترة رئاسة أيزنهاور عندما وضع الاتحاد السوفيتي صاروخ سبوتنك في الخدمة، والتي بسبب مداها البعيد، وتعذر أستمكان(تحديد مكانها) منصاتها، فقد سببت الوقاية منها أزمة.
وفي نهاية شهر مارس / آذار وكذلك في يونيو / حزيران / 1961 كان الرئيس كندي قد طلب تعتيماً على سحب صواريخ جوبيتر، ولكن هنا لعب عتاد الحرب الباردة دوره، فقد قيم الأمر في اعتبارات موسكو بأنه موقف صلب. وفيما يخص أزمة برلين، كان تفكيك الصواريخ سيبدو وكأنه ظاهرة ضعف، وكذلك كان موقف القائد الأعلى لحلف الناتو لورس نورستاد معارضاً لتفكيك الصواريخ وسحبها.وفي الثالث والعشرين من أغسطس ـ آب 1962 وعندما تصاعد إيراد الأسلحة بشكل فوق الطبيعي إلى كاسترو، عاد كندي إلى المشكلة(صواريخ جوبيتر) وأصدر تعليماته إلى مستشاره لشؤون الأمن القومي ماك جورج بوندي بما اسماه(مذكرة للتحركات) والتي تبدأ بما يلي :
" لقد وجه الرئيس: إن فعاليات الشرق(الاتحاد السوفيتي) الحديثة المنظورة في كوبا، بأن تدرس الإجراءات التالية ويؤخذ بها :
1 . أي إجراءات يمكن اتخاذها من أجل إعادة صواريخ جوبيتر من تركيا ..."
ويبدو بوضوح التخمين، أن الرئيس كندي يريد أن يسحب المبرر من يد خصومه من أجل وضع صواريخ(تهديد) و(عدوانية) و(هجومية) (الرئيس كندي عن الصواريخ السوفيتية) ونصبها بمواجهة سواحل الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن توجيهات كندي بصدد صواريخ جوبيتر لم تأخذ مساراً نشطاً بسبب بيروقراطية الحرب الباردة، وضلت جوبيتر في قواعدها، ومن أجل أن يتجنب الكارثة لم يكترث الرئيس للمرارة التي ارتسمت على الوجوه الساخرة والرؤوس التي أصابها الصداع من أجل أسلحة لم نعد نريدها، ستصل الكارثة إلى القاع.
" لقد اقترحت على بقية أعضاء الحكومة: أيها الرفاق دعونا نذهب مساء هذا اليوم إلى مسرح البولشوي، وشعبنا سيلاحظ ذلك وكذلك العيون الأجنبية، وربما سيعمل ذلك على التهدئة، إذ سيتساءل المرء، عندما يذهب خروتشوف وسائر قادتنا في مثل هذا الوقت لحضور أبرا، فذلك يعني إننا سننام هذه الليلة على الأقل بسلام، هكذا كنا نحاول أن نسري عن الخوف في أنفسنا، الخوف الذي كان كبيراً ".
وانقباض خروتشوف واضح بما فيه الكفاية، إذ بعد عرض البولشوي، بل تواصل ذلك في فريق الكرملين ليلاً ونهاراً مع سير أحداث لاستعراض القوة في الكاريبي الذي فرضته واشنطن على كوبا(المواد الممنوعة)، وكان هناك سبباً آخر: أن الغواصات السوفيتية الستة التي نفذت عبر خط الحصار، لوحقت من قبل مدمرات البحرية الأمريكية والطائرات السمتية وهي غواصات ذات محركات ديزل لا تستطيع البقاء تحت الماء (في حالة الغوص) إلا لفترة قصيرة ثم يجب أن تطفو مرة أخرى، وذلك من أجل شحن بطارياتها الألكترونية Elektro Akummulator بواسطة الطاقة المولد من الديزل.
وواحدة بعد الأخرى، كانت المراكب تمخر في أعلي البحر، وتلقي التحية على الأمريكيين وحتى عندما تظهر ليلاً بحياء، فإنها تلاحق على الفور وترسل سفن الملاحقة إلى صيدها برسائل ضوئية بطريقة "مورس" وتسأل بتهذيب فيما إذا كانت بحاجة للمساعد، وفي حالة نفي القباطنة الروس الحاجة إلى المساعدة، يطلب منهم مغادرة منطقة الحظر. والسفن السوفيتية كانت تولي وجهها شطراً آخر وتغادر المنطقة فعلاً، وهكذا فقط كان بأمكانها أن تتخلص من الملاحقة الممسكة بها.(7)
وكذلك كانت الأجواء تحت سيطرة الأمريكيين، وكانت طائرات الفودو الأمريكية تخترق الأجواء الإقليمية وسيادة جمهورية كوبا مرتين يومياً، وتمر فوق الجنود السوفيات في قواعد الصواريخ، ولم يعد هناك أي رد فعل معاكس. ومن أجل تفادي الصواريخ السوفيتية المضادة للطائرات، كان الأمريكيون يطيرون على ارتفاع منخفض، والمدافع الكوبية المضادة للطائرات ظلت صامتة لأن خروتشوف كان قد تقدم بسبب هذه الحليقات، بالرجاء إلى كاسترو بعد أطلاق النار طالما أن الأمريكيون لم يفتحوا النيران.
وبعد ذلك أعلنت كوبا التعبئة العامة في قواتها المسلحة(التعبئة القصوى) ليس كما في الاتحاد السوفيتي، على الرغم من أن القيادة الجوية الاستراتيجية وضعت أسرابها من القاصفات وأسراب الصواريخ في أعلى درجات الاستعداد بخطة (دفاع ـ 2) Defenc – 2، فلم تتمكن طائرات الاستطلاع وأجهزة الإنصات سوى إلغاء الأجازات ورصد تحركات ونشاطات قليلة للغاية.
ولكن ما أغضب الأمريكان هو توجه السوفيت بكل قواهم إلى بناء قوة ذرية لهم في كوبا. وكانت الصور الجوية التي ألنقطتها طائرات الاستطلاع العميق قد أوضحت للرئيس كندي ومستشاريه، ليس فقط الجنود السوفيت المتراكضين بحثاً عن مخبأ، بل تلك التي تظهر الجنود الذين يتراكضون إلى الأمام، إلى منصات الصواريخ المغطاة بالخرسانة وتحضير المادة السائلة المعقدة للصواريخ وجعلها جاهزة للاستخدام. ويقول روي ميدفيدف المؤرخ للشؤون السوفيتية من موسكو: " الأمر بتعجيل نصب الصواريخ ليلاً ونهاراً".
نكيتا خروتشوف ما يزال أن يربح اللعبة، هل تخيف الخطط التي على أهبة العمل بها، الرجل الجالس في القصر البيض، القلق من أطلاق صواريخ غير مقصودة(صاروخ خارج السيطرة) أو تسجيل حالة انطلاق صواريخ وهمية(إنذار كاذب)، وكندي لن يغامر بمهاجمة المواقع(هكذا يفكر الزعيم السوفيتي خروتشوف).
خروتشوف كان على حق، إذ أن روبرت مكنمارا(وزير الدفاع) أخبر الرئيس بصراحة وبدون تزويق " إذا كانت واحدة فقط من هذه الصواريخ الملعونة من الله تصل إلى نيويورك أو إلى واشنطن أو ميامي، ستهلك أعداد كبيرة جداً من البشر بحيث أنكم سيادة الرئيس لن تقبلوا الإقدام على هذه المغامرة ".
وهكذا وجد كندي وهيئة ركن الأزمات صباح يوم الجمعة 26 / أكتوبر ـ تشرين الأول، من جديد وبصورة أكثر جدية، أنهم سجناء مأزق يتأملون أن يتولى الحصار البحري حله، الحزم، الاستعراض، ترى هل يكفي الحصار البحري لإيقاف السوفيت في قواعدهم ؟ ولكن هنا خروتشوف سيعد نفسه سيد الموقف، ذلك كان رأي الصقور في مجلس الأمن القومي والذي أدلوا به.
فجأة، أعتقد الرئيس أيضاً، أنه لابد من إزاحة الصواريخ بأحدي الوسيلتين أو بكلاهما، إما بقصف من الجو، أو بإنزال قوات مظلات في مواقع الصواريخ فور انتهاء الطيارين من القصف. ومن أجل ضمان أن لا يقدم الجنود السوفيت بتشغيل المقذوفات التي لم يصبها القصف أو المظليون، يجب أن تكون الفرق الكوبية المتمركزة هناك بقيادة تشي غيفارا.(8)
"سيكون هذا قتلاً دموياً جداً a very bloody fight"(9) قال كندي، وأنه سيكون بغض النظر عن الكوبيين، القتال الأول الذي سيدور بين شعبين عملاقين، الأمريكيون والروس.
إن نظرة على عرض تاريخي كهذا يبدو مخيفاً، ولكن من جهة أخرى لها تأثيراتها، حتى إذا أرادت موسكو أيضا نهاية قاسية لإنهاء الحصار البحري كما تريد الحكومة الأمريكية سحب الصواريخ.
يوم الجمعة الساعة 1330(الواحدة والنصف ظهراً)تلقى جون سكالي المراسل الدبلوماسي لشركة التلفزيون ABC في واشنطن مكالمة هاتفية من السفارة السوفيتية، وكان على الطرف الثاني يتحدث الكسندر فومين أحد رجال المخابرات السوفيتية KGB الذي يدعوه بنبرة يبدو عليها الضيق للقاء في مطعم أوسيدنتال الكائن في شارع بنسلفانيا. وهناك أعلن فومين بوضوح للمراسل الأمريكي وبصراحة، بأنه مخول لمعرفة ما إذا كانت الحكومة الأمريكية يهمها بحث نزاع الصواريخ بالشروط التالية: يسحب السوفيت صواريخهم الذرية من كوبا، مقابل التزام الولايات المتحدة بالتخلي عن أية نية لمهاجمة كوبا.
وجون سكالي بدوره أوصل الإشارة إلى روجرهيلزمان مسئول المخابرات في وزارة الخارجية الأمريكية، ولكن المراسل التلفزيوني كان قد أعلم فومين بأن المقترحات هي :" أمكانية حقيقية" وكان رنين هاتف السفارة الأمريكية في موسكو بنفس الوقت يعمل مع وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن وكذلك أجهزة التلكس التي بصقت رسالة طويلة.
وقد كتب لاحقاً المؤرخ أرثرشليزنغر " الرسائل العجيبة في المراسلات بين رجال الدول " ولاحظ أن نكيتا خروتشوف قد تدخل شخصياً في الموضوع وكتب رسالة موجهة إلى جون ف.كندي.
الشخصيات المهمة في أركان الأزمة يلتقون في المكتب البيضوي للرئيس من أجل قراءة الرسالة وأجراء المناقشات بشأنها، رجل الدولة العجوز وزعيم الصقور دين أكيسون، وزير الخارجية دين رسك الذي تقدم بتضحية: " أما أن يكون خروتشوف عند إملاءه الرسالة كان مذعوراً أو سكراناً " ولكن روبرت كندي كان له رأي آخر:
" كان أمراً خارج نطاق التساؤل، أن الرسالة كانت منه شخصياً(خروتشوف)"، وكانت طويلة جداً ومنفعلة، ولكنها لم تكن منطقية، والانفعال كان مكرساً ضد الموت والتهديم والفوضى التي تسببها الحرب الذرية لشعبه ولكل البشرية.
وكارثة كهذه، كتب خروتشوف تستطيع " فقط واشنطن أو أي منتحران يغامر بها، مغامرة البحث عن الموت وتهديم العالم بأسره قبل أن يموت هو نفسه" وحذر كما تصور الرئيس كندي من قبل، كيف أن قيادة الجانبين يفقدان بسرعة السيطرة على الأحداث قائلاً: " في حالة اندلاع الحرب، سوف لن يكون بمستطاع سلطتينا إيقافها".
وقد أكد الزعيم السوفيتي بأنه كان قد أمر بإرسال الصواريخ إلى كوبا، فقط من أجل طمأنة شعب الجزيرة الصغير الذي يعاني من التهديد وحمايته من مخاوف الغزو من قبل دولة عظمى هي أمريكا. ولكن إذا ما "يعطي الرئيس تأكيداً" بأنه سوف لن يشارك في غزو الجزيرة(10) ورفع الحصار البحري، عندئذ سيكون سحب أو تدمير قواعد الصواريخ في كوبا"موضوعاً آخر تماماً".
القليل من الحضور صاغ فحوى الرسالة والعرض من أجل إيقاف التدهور هكذا، سحب الأسلحة الذرية مقابل الحيلولة دون الغزو الأمريكي، والأخوة كندي (الرئيس وشقيقه روبرت وزير العدل) والشخصيات المعتدلة في اللجنة التنفيذية كان بإمكانهم قبول العرض، فقد كان ذلك محسوماً في أذهانهم وأفكارهم، قلب النظام الشيوعي في كوبا بواسطة القوة المسلحة الأمريكية، وكانوا أيضا إزاء العرض القادم من موسكو، وبأن عليهم منح القيادة السوفيتية الالتزام الذي سيساعدهم بعدم فقدانهم لماء الوجه، ليس فقط في خارج الاتحاد السوفيتي، بل وأيضا في الداخل وضمن اللجنة المركزية ورئاسة الحزب أيضا.
وفي وقت متأخر من مساء الجمعة، قرر الرئيس ومساعديه المتعبين أن يتركوا القضية إلى الغد، بينما سيقضي المختصون في الشؤون السوفيتية بقية الليلة في دراسة القضية، وفي تحليل رسالة خروتشوف وإشباعها بحثاً، وفي ذلك يقول روبرت كندي " لقد شعرت ببعض التفاؤل وأنا أغادر" ولكن اليوم التالي كان السابع والعشرين من أكتوبرـ تشرين الأول، نهار مضئ ولكنه اسود يوم سبت مر على الأزمة.