السياسة الخارجية ومستقبل الأمن والسلام
في عصر العولمة -3-
د. ضرغام عبد الله الدباغ
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8595
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ثانياً : حقائق جديدة في ميدان العلاقات الدولية والأمن العالمي
شهد العقدين قبل الألفية الثالثة والقرن الحادي والعشرين، تعميماً هائلاً في إقحام المنجزات العلمية التكنيكية على كافة الأصعدة والميادين، الطبية، إذ أصبحت بعض الأمراض تنتمي إلى التاريخ، وإن كانت ما تزال أجزاء مظلمة من آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية تعاني منها، وظهرت أمراض لم تكن معروفة في السابق كالإيدز وأنفلونزا الطيور وإيبولا في أفريقيا، والفلكية التي تمثلت في تعدد الدول التي تطرق أبواب الأفلاك البعيدة استكشافاً وارتياداً، واستخدام الفضاء للمواصلات اللاسلكية الإلكترونية، ولبث الصور المرئية(التلفزة)، وفي مجال المواصلات حيث تزايدت بأرقام متصاعدة أعداد المسافرين جواً، كما كان لصناعة القطارات السريعة والفائقة السرعة(500كم/ساعة) دوره في تقريب المسافات سواء في نقل المسافرين، أو السلع، وكذلك في مجال الشحن البحري، مما خفض تكاليف الشحن، فتطورت التجارة ونشط تبادل السلع وتشابكت مصالح الشعوب.
ولكن من الحقائق الأخرى، أن الفرق والهوة بين الدول قد تباعدت، وفيما تمكنت بعض الدول من تجاوز صعوبات اقتصادية وثقافية والاقتراب من حافات مرحلة التطور الصناعي، وعبور مرحلة البلدان النامية كمجموعة دول آسيان، والصين والهند وكوريا، وقد نشهد أتساعاً للقائمة بدخول فيثنام وكوريا الديمقراطية وإندونيسيا، فيما تعقدت مشكلات مرحلة التحرر الوطني والمخلفات الثقيلة لمراحل الاستعمار والتبعية، أو بسبب صعوبات يواجهها النسيج الاجتماعي لبلدان أخرى، فتنشب مشكلات ومعرقلات للتنمية مما يضاعف من صعوبة خطط التنمية، بالإضافة إلى الصعوبات المستوطنة في هذه البلدان كضعف رأس المال وضعف الإنتاجية والحاجة إلى التكنولوجيا، ومشكلات اجتماعية وثقافية وعلمية، كالفساد المالي والإداري الحكومي في غالبية البلدان النامية.
ولا بد من الإشارة إلى أمر آخر مهم، غير تلك العوامل الذاتية، وهو ما يتعلق بضعف التعاون الدولي لحل مشكلات البلدان النامية، ما لم نقل العراقيل التي يضعها عدم التكافؤ في التبادل التجاري، حجب فقرات مهمة عن الدول النامية، سياسة الديون والقروض الحكومية والدولية كسياسات صندوق النقد الدوليIMF، والبنك الدولي للتنمية والإعمار IBRالتي أضرت كثيراً باقتصاديات البلدان النامية، وارتفاع معدلات الفوائد وشروط خدمة الديون، والسياسة الضارة التي تتبعها البنوك الأجنبية في البلدان النامية، ونشاطات الشركات المتعددة الجنسية التي نادراً ما تأخذ بنظر الاعتبار مصالح البلدان النامية.
ومع أن العديد من هذه الظواهر كانت موجودة على مسرح السياسة والاقتصاد الدولي قبل ما يسمى بالعولمة، إلا أنها تفاقمت بصورة كبيرة وأضحت تمثل علامة العصر ومؤشرات التعامل المعاصرة. فعلى سبيل المثال كانت الدول الصناعية تتذرع باتفاقية الجات GAAT وتعتبرها مقياساً للتعامل مع الدول، إلا أنها أعلنت تبرمها واعتراضها على الجات عندما استطاعت دول معينة كاليابان مثلاً التعامل مع الجات بديناميكية وحصلت على منافع اقتصادية، سرعان ما لجأت الولايات المتحدة إلى اعتبار أن الجات أصبح يمثل فقرة مضرة لتجارتها الخارجية، فعملت على أنشاء منظمة التجارة الحرة، وتفرض شروط معينة من أجل الأنظمام إلى هذه المنظمة، ومن شأن تلك الشروط أن تجعل الأبواب مفتوحة دون رقيب أو حماية أمام فعاليات الدول الصناعية المتقدمة.
هناك قاعدة حكيمة في التعامل السياسي تنص، أن العلاقات بين قوة عظمى وقوة صغيرة، سيكون على الأرجح غير متكافئاً، أي أن الأمور ستجري لمصلحة القوة الكبرى. ولكن مرحلة معينة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ففي ظل التوازنات التي كانت قائمة، كان يمكن فيها للدول الصغيرة والضعيفة أن تنال حقوقا هي أقرب للعدل، عبر تمثيل دبلوماسي متكافأ، اعتباريا على الأقل، وإن تمتعت الدول الكبرى دائماً بأفضلية في الأمم المتحدة التي تمثل الميدان الأهم للعلاقات الدولية بين الأمم، وذلك بامتلاكها حق النقض الفيتو VITO، ولكن القطبية الثنائية كانت تتيح فسحة من المجال للأمم الصغيرة تتمكن من خلاله أثبات وجودها، والحصول على مكاسب وإن كانت محدودة.
وعصر العولمة يطرح في واجهته الأساسية، نهاية عصر القطبية الثنائية، وأن عصراً من انعدام التوازن في السياسة الدولية والعلاقات بين الدول قد حل، تربعت بموجبه الولايات المتحدة على موقع الهيمنة على العالم دون منافس(في المرحلة الحالية على الأقل) وتطرح دون مواربة هيمنتها ليس السياسية والاقتصادية والعسكرية فحسب، بل وتريد أن تفرض أنماطاً من التفكير والتقاليد الثقافية، وتتدخل في مناهج التعليم، بما يمكن أن تقوم به حكومة في بلدها، وبذلك فالعولمة تعني في هذا المدى، حكومة عالمية تدار بأساليب نصف قانونية، نصف شرعية، ويفسر الشك والاشتباه، أي في حالة عدم وجود نصوص، أو تفسير دقيق، تفسر دائماً لمصلحة الحكومة الدولية، التي تتولى التفسير وما ينبغي أن يكون عليه الأمر والحكم والتنفيذ، بالأساليب التي تقررها.
وليست فقط الدول النامية والصغيرة من يعاني من متاعب العولمة، بل سيان في ذلك الدول الكبرى أيضاً، ولكن بدرجات متفاوتة، إذ تشكو حتى الدول الصناعية من ظلم يلحق بها من سوء تفسير الاتفاقات الدولية، والرغبة في الهيمنة، ولكن من المؤكد أن شكوى من يفقد 1% أو أقل، ومن ثروته، ليست كمن يفقد رغيف خبزه الأخير !
وحصاد العولمة خلال ما يزيد قليلاً عن العقد تعلنه أحدث الإحصائيات الدولية لهيئة الإغاثة ومكافحة الجوع، بأرقام مدوية: وتشير إحصائيات فبراير/2007 أن هناك 850 مليون شخص في العالم يعانون من المجاعة وسوء التغذية، ويموت 18 ألف طفل يومياً بسبب المجاعة، ومن المرجح أن هذه الإحصائيات هي أقل من الواقع بسبب سوء الإحصاء وتخلف وسائطه في البلدان النامية.(15)
وتغرق البلدان النامية في ديون ذات طابع متصاعد، ويعتبر خبراء الاقتصاد إذا تجاوزت ديون دولة ما 30% من حجم صادرتها، أنها بلغت درجة يصعب معها سداد خدمة الدين، لذلك فسوف تضطر إلى الاستدانة مجدداً من أجل تسديد خدمة الدين، إي الدخول في دائرة الشيطان، وتضاعف الديون هي سمة من سمات عصر العولمة.
وقد تراكمت وتضاعفت بمرور الوقت ديون ضخمة على قرابة 58 دولة من الدول النامية من 600 مليون دولار عام 1980م إلى 2.2 تريليون دولار العام الماضي (وفق تقرير صندوق النقد)، وقد غدا شبه المستحيل أن تسدد هذه الدول ديونها، أو أن تسدد ما يُسمى بخدمة هذه الديون(قسط الدين + الفائدة)، ويتعين على الدول الفقيرة أن تدفع يومياً قرابة 700 مليون دولار أي ما يعادل 500 ألف دولار في الدقيقة، فخلال الفترة ما بين أعوام 1972 وحتى1992 اقترضت الدول النامية مجتمعة ما يقرب من 1.935 تريليون دولار، وبلغ مجموع ما سددته من أقساط وفوائد عن هذا الدين خلال نفس الفترة تقريباً 2.237 تريليون دولار، ولكن على الرغم من ذلك، فهي ما زالت مديونة بنحو 1.7 تريليون دولار، ويمكن التصور بعد أجراء عملية حسابية بسيطة، أن الدول المدينة قد سددت ديونها مرتين من خلال الفوائد، ولكنها ما زالت ترزح تحت الدين.
والفساد الحكومي، الإداري والمالي، ظاهرة اشتددت باشتداد ظاهرة الدولنة في الاقتصاد، واقتحام الرأسمال الأجنبي(أو تسلله) كل زوايا البلدان النامية، وتهدف السياسة التي تتبعها الدول الصناعية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية إلى خلق أنظمة تعمل بمقتضى المصالح السياسية والاقتصادية لها وليس لبلدانه، تسبب في حالة من الفساد، بنتائج كارثية، فقد وجدت الديون الخارجية لعدد من البلدان مساوٍ تماماً لحجم ديونها الخارجية، بل ويزيد أحياناً، كما حدث في الفلبين عندما نهب الديكتاتور فريناندو ماركوس أكثر من 15 مليار دولار من خزانة الدولة ورفع من حجم الديون المستحقة على بلاده من 2.3 مليار دولار عام 1970 إلى أكثر من 35 مليار دولار حتى الآن، وفي تقريرها الأخير أشارت مؤسسة مورجان مورانتر المالية الأمريكية إلى اختفاء مبلغ 189 مليار دولار من 18 بلدًا ناميًا في سنة واحدة مع العثور على 31 مليار دولار منه في حسابات سرية في البنوك السويسرية والأمريكية.
وفي البرازيل قدرت كلفة إنشاء سد إيتابو المبدئية بحوالي مليار دولار، فيما تعدت تكلفة الإنشاء الفعلية 25 مليار دولار وهو ما أدى إلى تراكم مديونيات البرازيل التي بلغت حتى الآن ما يقرب من 180 مليار دولار، وقد وافق صندوق النقد الدولي في نهاية العام الماضي على إقراضها نحو 43 مليار دولار لتصل بذلك ديونها إلى نحو 223 مليار دولار، وفي مثال آخر مشابه، بقيام الفرنسيون والإيطاليون بتمويل تكاليف إقامة سد (ريوبارنا) على الحدود بين الأرجنتين والمكسيك، بقرض قدره 1.5 مليار دولار في عام 1978، ولكن النفقات الواقعية النهائية لتشييد هذا السد انتهت بتكلفة قدرها 15 مليار دولار.
ويتكرر في عالم الاقتصاد الدولي المعاصر مصطلح الدول المانحة، وهو ما لا يعني بأن هذه الدول تهب وتمنح المساعدات لإغراض نزيهة، لكنها في الواقع تربح أضعاف المبالغ التي تقدمها بل تشير الحقائق: إنها تفعل ذلك لزيادة نفوذها، ومن تلك الأمثال على ذلك موقف فرنسا من إفريقيا، ففرنسا تعد على رأس الدول المانحة لإفريقيا فقد بلغت قيمة مساعداتها لإفريقيا عام 1997 حوالي 7.18 مليار فرنك فرنسي أي ما يعادل 49% من مجمل المساعدات الفرنسية الخارجية، ولا تمثل هذه بالطبع مساعدات لدول استعمرتها عقود طويلة هذه القارة ونهبت ثرواتها، وإنما لتكثيف نفوذها وفي إطار التنافس والتسابق مع أقطاب رأسمالية أخرى في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في الفوز بالأسواق الإفريقية، باعتبارها أسواقاً واعدة قوامها 700 مليون مستهلك يمثلون خمس سكان العالم، والواقع يقول: إن هذه الدول المانحة هي ذاتها الدول التي تستورد السلع الأولية من البلدان النامية بأسعار منخفضة للغاية ثم تعيد تصديرها إليها بعد تصنيعها بأسعار مرتفعة جدًا، وتحرص أن تكون لها اليد العليا في تحديد هذه الأسعار إما مباشرة أو عن طريق شركاتها العابرة القارات، وإذا كان بديهياً ألا تُمنح القروض إلا بضمانات فإن الضمان الوحيد الذي تحصل عليه هذه الدول المانحة من الدول المدينة أن هذه الديون تحرمها من حرية اعتماد سياسيات سليمة لنموها وتنميتها.(16)
ويرى الدكتور مطر أن العولمة قد اقترنت بظواهر متعددة استجدت على الساحة العالمية أو ربما كانت موجودة من قبل، ولكن زادت من درجة ظهورها، وهذه الظواهر قد تكون اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو اتصالية أو غيرها، ولا شك أن أبرز هذه الظواهر هي الظواهر الاقتصادية التي أهمها:
1. تحول الاقتصاد من الحالة العينية (الأنشطة التقليدية كتبادل السلع عينيًّا بالبيع والشراء) إلى الاقتصاد الرمزي الذي يستخدم الرموز والنبضات الإلكترونية من خلال الحواسب الإلكترونية والأجهزة الاتصالية، وما ينتج عن ذلك من زيادة حجم التجارة الإلكترونية والتبادل الإلكتروني للبيانات في قطاعات التجارة والنقل والمال والائتمان وغيرها.
2. تحول رأس المال من وظائفه التقليدية كمخزن للقيمة ووسيط للتبادل إلى سلعة تباع وتشترى في الأسواق (تجارة النقود)، حيث يدور في أسواق العالم ما يزيد على 100 تريليون دولار (100 ألف مليار) يضمها ما يقرب من 800 صندوق استثمار، ويتم التعامل يوميًّا في ما يقرب من 1500 مليار دولار (أي أكثر من مرتين ونصف قدر الناتج القومي العربي) دون رابط أو ضابط، وهو ما أدى إلى زيادة درجة الاضطراب والفوضى في الأسواق المالية، وأعطى لرأس المال قوة لفرض شروطه على الدول للحصول على أقصى ما يمكن من أمتيازات له. وقد أدى هذا كله إلى زيادة التضخم نتيجة لزيادة قيمة النقود.
3. تعمق الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصاديات القومية، وتعمق المبادلات التجارية من خلال سرعة وسهولة تحرك السلع ورؤوس الأموال والمعلومات عبر الحدود مع النزعة إلى توحيد الأسواق المالية، خاصة مع إزالة كثير من الحواجز الجمركية والعقبات التي تعترض هذا الانسياب بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية، التي بدأت نشاطها في بداية عام 1995، وهو ما يشاهد الآن بعد توحًّد بورصة لندن وفرانكفورت اللتين تتعاملان في حوالي 4 آلاف مليار دولار، وكذلك توحد بورصات أوروبية أخرى، وهناك اتجاه متزايد نحو إنشاء سوق مالية عالمية موحدة تضم معظم أو جميع البورصات العالمية، وتعمل لمدة (24) ساعة ليمكن المتاجرة في أسهم الشركات الدولية من أي مكان في العالم. وقد ترتب على إزالة الحواجز والعوائق بين الأسواق أن أصبحت المنافسة هي العامل الأقوى في تحديد نوع السلع التي تنتجها الدولة وبالتالي فإن كثيرًا من الدول قد تخلت عن إنتاج وتصدير بعض سلعها، لعدم قدرتها على المنافسة مثل صناعة النسيج في مصر التي انهارت أمام منافسة دول جنوب شرق آسيا، وأصبحت تلك الدول تحصل على حاجتها من دول أخرى لها ميزة تنافسية في إنتاج تلك السلع، وهو ما ينطبق أيضاً على رءوس الأموال التي أصبحت مركزة في بعض الدول المنتجة والمصدرة للبترول، وعلى الدول التي تحتاج إلى تلك الأموال أن تحصل عليها من الدول المتقدمة.
4. زيادة الانفتاح والتحرر في الأسواق واعتمادها على آليات العرض والطلب من خلال تطبيق سياسات الإصلاح أو التكييف الاقتصادي والخصخصة، وإعادة هيكلة الكثير من الاقتصاديات الموجهة واقتصاديات الدول النامية لتتوافق مع متطلبات العولمة (مثلما حدث في مصر ويحدث الآن في دول الخليج فضلا عن باقي دول العالم).
5. زيادة دور وأهمية المنظمات العالمية في إدارة وتوجيه الأنشطة العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية واليونسكو، ومنظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وغيرها.
6. التوجه نحو تشكيل العديد من التكتلات الإقليمية الاقتصادية والسياسية والثقافية مثل تكتل الآسيان والاتحاد الأوربي وغيرها، والزيادة الملحوظة في أعداد المنظمات غير الحكومية بعد أن بدأ دور الدولة في إدارة الاقتصاد في التناقص.
7. استشراء ظاهرة الشركات المتعدية الجنسيات، مع سيطرتها على الاستثمار والإنتاج والتجارة الدولية والخبرة التكنولوجية مثل شركات IBM، ومايكروسوفت وغيرها، خاصة بعد أن ساوت منظمة التجارة العالمية بين هذه الشركات والشركات الوطنية في المعاملة.
8. تفاقم مشاكل المديونية العالمية وخاصة ديون العالم الثالث والدول الفقيرة مع عدم قدرتها على السداد، وما تزامن مع ذلك من زيادة حجم التحويلات العكسية من الدول الفقيرة إلى الدول المتقدمة، والمتمثلة في خدمة الديون وأرباح الشركات المتعددة الجنسيات وتكاليف نقل التكنولوجيا وأجور العمالة والخبرات الأجنبية، والذي قابله في نفس الوقت تقلص حجم المعونات والمساعدات والمنح الواردة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية وعدم جدواها.
9. ظهور تقسيم دولي جديد للعمل تتخلى فيه الدول المتقدمة للدول النامية عن بعض الصناعات التحويلية (هي الصناعات التي تعتمد على تحويل المادة الخام إلى سلع مصنعة يمكن الاستفادة منها، كصناعات الصب والبتروكيماويات والتسليح وغيرها) التي لا تحقق لها ميزة نسبية، مثل الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة وكثيفة العمل والملوثة للبيئة، وذات هامش الربح المنخفض، مثل صناعات الصلب والبتروكيماويات والتسليح، بينما ركزت الدول المتقدمة على الصناعات عالية التقنية كصناعة الحاسبات والبرامج وأجهزة الاتصالات والصناعات الإلكترونية، ذات الربحية العالية والعمالة الأقل.
10. تغير شكل وطبيعة التنمية، فبعد أن كانت التنمية تعتمد أساسًا على تعبئة الفوائض والتمويل الذاتي (الادخار)، تحولت إلى تنمية تعتمد على الاستثمارات الخارجية والشركات المتعدية الجنسيات، وأصبحت التنمية هي تنمية تبديد الفوائض والمدخرات (الاستهلاك) كناتج أساليب الاستهلاك الترفيهي المتزايدة، تحت ضغط الآلة الإعلانية الجبارة، التي أدت إلى عجز مزمن في موازين المدفوعات وتفاقم أزمة الديون في العالم الثالث، وتركيز التنمية على الجانب الاقتصادي فقط، أي تحولها إلى تنمية وحيدة الاتجاه تهمل الاتجاه الاجتماعي والثقافي، مع اعتماد نظام السوق ليكون أساساً للتنمية في مختلف بلاد العالم. حتى الطبقات عالية الدخل في الدول النامية التي من المفترض أن تكون نسبة ميلها الاستهلاكي (نسبة الإنفاق على الاستهلاك من الدخل الكلي) قليلة وأصبحت تلك الفئات من الفئات المسرفة التي تبدد دخولها على الاستهلاك الترفيهي وبالتالي فإن ميلها الاستهلاكي أصبح مرتفعًا، وقد ساعد على ذلك قدرة الاقتصاديات المتقدمة على إنتاج سلع جديدة والتنوع في السلع القديمة مثل ابتكار طرازات جديدة من السيارات والسلع المعمرة وغيرها.
11. تراجع نصيب المادة الأولية في الوحدة من المنتج في العصر الحديث بسبب تطور الإنتاج وهو ما يسمى بالتحلل من المادة (Dematerialization)، وإحلال الطاقة الذهنية والعلمية (الفكر) محل جزء من المادة الأولية، مما أدى إلى تراجع الأهمية النسبية للنشاط الصناعي في الهيكل الإنتاجي في الدول المتقدمة الصناعية وتصاعد الأهمية النسبية لقطاع الخدمات، وقد زادت الأهمية النسبية لنشاط الخدمات داخل النشاط الصناعي ذاته بحيث أصبحت تمثل أكثر من 60% من الناتج الصناعي، لتنامي الصناعات عالية التقنية، وظهور مجموعة جديدة من السلع غير الملموسة كالأفكار والتصميمات والمشتقات المالية استقطبت المهارات العالية، وما ترتب على ذلك من زيادة عملية التفاوت في الأجور، وبالتالي توزيع الدخل القومي توزيعاً غير عادل، سواء على مستوى أفراد الدولة الواحدة أو بين الدول.
12. تعمق الثنائية الاجتماعية في مجتمعات العالم الثالث، فبعد أن كانت الفوارق مادية، أصبحت هذه الفوارق مادية وتكنولوجية بسبب استحواذ الطبقات مرتفعة الدخل على الإنجازات التكنولوجية عالية القيمة التي يصعب على الفقراء اقتناؤها، كالإنترنت والتليفون المحمول والحاسبات الإلكترونية وغيرها، ويؤدي هذا في المستقبل إلى زيادة وترسيخ التخلف في الطبقات الفقيرة وصعوبة تقليل الفوارق بين الطبقات العالية الدخل والفقيرة في المجتمع مما يهدد الاستقرار الاجتماعي.
13. زيادة وانتشار البطالة في المجتمعات وخاصة في الدول النامية بسبب الاتجاه إلى استخدام الأساليب كثيفة رأس المال، التي تعتمد على استخدام عدد أقل من القوى العاملة، وذلك بسبب الحاجة إلى تخفيض تكاليف الإنتاج وزيادة مستوى الجودة؛ فلا مكان للمنافسة في السوق العالمية الموحدة بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية.
14. إحلال مفاهيم جديدة محل القديمة كسيادة مفهوم الميزة التنافسية competitive advantage وحلوله محل الميزة النسبية Comparative Advantage بعد توحد الأسواق الدولية وسقوط الحواجز بينها، وكذلك سقوط مفهوم التساقط الذي تبناه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لمدة طويلة، حيث إن الطبقات العالية الدخل في الدول النامية هي طبقات مسرفة لا تدخر ولا تستثمر وتبدد فوائضها في مصارف استهلاكية لا يستفيد منها المجتمع، وهو ما أدى إلى تناقص معدلات النمو في هذه الدول بسبب نقص الاستثمارات وزيادة عجز الموازين التجارية وموازين المدفوعات.
وتعني الميزة التنافسية للدولة قدرتها على إنتاج سلع وتصديرها لتنافس في الأسواق العالمية دون أن تتوفر لها المزايا التي تساعدها على إنتاج هذه السلع مثل الظروف الطبيعية والمناخية والمواد الأولية وذلك نتيجة تفوقها التكنولوجي؛ حيث يمكن لها استيراد المواد الأولية من الخارج وتصنيعها بدرجة عالية من الجودة وبتكلفة أقل لتنافس في السوق العالمي مثلما يحدث في اليابان وسنغافورة ودول جنوب شرق آسيا، وقد ساعد على ذلك تناقص قيمة المادة في السلع وزيادة القيمة الفكرية والذهنية نتيجة استخدام الحاسبات وأجهزة الاتصالات. أما الميزة النسبية فهي تعني توفر مزايا للدولة تساعدها على إنتاج سلع معينة كالظروف الطبيعية والمناخية والمواد الأولية أو القوى العاملة الرخيصة، إلا أن هذه المزايا قد لا تساعدها على المنافسة في الأسواق العالمية؛ ربما لانخفاض الجودة أو لارتفاع التكلفة بسبب غياب التكنولوجيا.
15. اتجاه منظمات الأعمال والشركات إلى الاندماج؛ لتكوين كيانات إنتاجية وتصنيعية هائلة الغرض منها توفير العمالة وتقليل تكاليف الإنتاج والحصول على مزايا جديدة كفتح أسواق جديدة أو التوسع في الأسواق الحالية، وهو ما نشاهده الآن من اندماجات الشركات الكبرى مع بعضها؛ حيث دخلنا فيما يسمى بعصر "الديناصورات الإنتاجية" الهائلة والأمثلة على ذلك كثيرة في مجالات البترول والتكنولوجيا والمعلومات والمصارف، وينتج عن ذلك بالتأكيد تطوير كبير في علم الإدارة والرقابة والسيطرة للتوصل إلى مهارات إدارية وتنظيمية وصيغ جديدة من الأشكال التنظيمية التي تناسب هذه الكيانات الكبيرة.(17)
ومع أن نظام القطبية الأحادية الذي دشن عصر العولمة لم يمض عليه وقت طويل بعد، إلا أن النتائج البارزة لحد الآن توحي بالآثار سلبية أكثر مما هي إيجابية، ومن الصحيح القول أن الكثير من هذه الظواهر موجودة في العالم، إلا أنها لم تكن بهذه الدرجة من الحدة، كما أن تراكماتها لم تكن بهذه النسب المتصاعدة بدرجة مقلقة.
ومع أن القوى العظمى(الصناعية الكبرى) هي التي تحدد مصطلحات المشكلات الدولية، وتحدد الحلول لها، فمشروع العولمة الذي يقدر أن يكون حكومة عالمية، نصبت نفسها دون اختيار، مع أن مبتدعوا العولمة يبشرون بالديمقراطية، هذه الحكومة العالمية، التي بسبب الإدارة النابعة من رؤية أحادية الجانب حيال المشكلات، وحيال الأمم أسفرت عن كوارث على جميع الأصعدة والميادين من تلك: الإرهاب، الهجرة غير المشروعة، التطرف، الأصولية الدينية، حدود الحصول على المستوى العلمي والتكنولوجي، التصرف بالمواد الخام، المساهمة بالأمن العالمي أو الإقليمي، حدود التسلح.
وإذا كانت النتائج الاقتصادية هي ما أسلفنا، من تصاعد مديونية البلدان النامية، وتعاظم ظاهرة الفساد، والحروب الصغيرة والكبيرة، كما يعترف بذلك منظروا العولمة(برجنسكي في المبحث السابق: أن العالم لم يصبح أكثر أمناً، بالإشارة إلى تقرير سنوي حول النزاعات في العالم أن عام 2002 وحده شهد ثلاثة وعشرون نزاعاً مسلحاً راح ضحيته 125000 ألف إنسان، بالإضافة إلى 79 نزاعاً متوسطاً، تسبب في مقتل 100/1000 لكل منها، و38 نزاعاً سياسياً عنيفاً أدى كل منها إلى مصرع 25/100 شخصا، ولم تشخص إلا 35 دولة فقط في العالم تخلو من الصراعات السياسية العنيفة، أي أقل من ربع دول العالم).
وبسبب عنف العوامل الاقتصادية والسياسية والديمغرافية (السكانية) والصراعات والنزاعات المسلحة من حروب وحروب أهلية وأشباهها، تصاعدت أرقام الهجرات غير المشروعة من الدول الفقيرة صوب الدول الغنية، أو الدول الأكثر أمناً بما أصبح يمثل قلقاً حقيقياً لتلك الدول لتداخل العناصر البيئية والثقافية والاقتصادية والعرقية... الخ، وتشير الإحصائية التالية إلى أحدث الأرقام:
* مهاجرون من المناطق:
من آسيا: 1،3 مليون شخص سنوياً للفترة من 2000/2005
من أميركا اللاتينية(الجنوبية): 0،8 مليون شخص سنوياً ، 2000/2005
من أفريقيا: 0،5 مليون شخص سنوياً 200/2005
* أما المناطق التي استقبلت هؤلاء المهاجرين:
أميركا الشمالية: 1،4 مليون شخص سنوياً 2000/2005
أوربا: 1،1 مليون شخص سنوياً 2000/2005
اوقيانوسيا: 0،1 مليون شخص سنوياً 2000/2005
أما الدول التي استقبلت الأعداد الأكبر من المهاجرين(1)
المصدر Ausgabe vom; 26/2006, Hamburg, BRD : : Der Spiegel
الدول عدد المهاجرين / مليون % إلى السكان
الولايات المتحدة 38،4 12،4
روسيا الاتحادية 12،1 8،4
ألمانيا الاتحادية 10،1 12،2
أوكرانيا 6،8 14،7
فرنسا 6،5 10،7
المملكة العربية السعودية 6،4 25،9
كندا 6،1 18،9
ومن حصاد العولمة أيضاً، تصاعد أعداد المرضى بالأمراض القاتلة: الإيدز وأنفلونزا الطيور وإيبولا، وقد استطاعت الدول الصناعية، بنجاح جزئي من الحد على التوالي، من انتشار أنفلونزا الطيور، وإيبولا، إلا أن شيوع انتشار العلاقات الجنسية المثلية وتقنينها(السماح بزواج مثليي الجنس) واعتبارها جزء من الحريات الشخصية، وتناول المخدرات بالحقن، عامل على استمرار استيطان هذا المرض المميت تقدم علاج الإيدز في مراحله المبكرة، إلا أنه باهض النفقات، ومن غرائب سياسات العولمة، رفض الدول الصناعية الأساسية المنتجة للعقاقير الطبية، تصنيع العلاج من قبل شركات من بلدان النامية(البرازيل) وبيعه بأسعار زهيدة للمصابين في أفريقيا، للإبقاء على أرباحها أولاً، وتحقيقاً لسياسة سكانية.
ولكن الأمراض تنتقل بطرق غير مرئية، طالما نحن نعيش على ظهر كوكب واحد، وقد طالعنا مرة إحصائية مذهلة تشير، أن أفريقيا تقذف بألوف الأطنان من الغبار والرمال على أوربا بواسطة العواصف والرياح، عبر بحر المتوسط، فمن يستطيع اليوم عزل نفسه في قارات مغلقة.
ومن الظواهر التي اشتدت في زمن العولمة، تفاقم تلوث البيئة، (الهواء والمياه والطبيعة) وإطلاق كميات هائلة دون حساب أو تقدير لغاز ثاني اوكسيد الكربون من قبل الدول الصناعية، الأمر الذي أدى إلى خلل بطبقة الأوزون، وارتفاع في معدلات درجات حرارة الأرض قادت في نتائجها، إلى ذوبان الجبال الجليدية في القطب الشمالي، وربما سيسري ذلك على القطب الجنوبي، والثلاجات الطبيعية الكبرى في جبال الألب وأيسلندة وجرين لاند، مما سيتسبب في ارتفاع مناسيب المياه في البحار والمحيطات، وطغيان المياه على اليابسة وفقدان مساحات كبيرة منها، وربما مدن كبيرة ومزدهرة أيضاً، كما تبدو مقلقة ظاهرة الأعاصير المدمرة التي في ثورانها تقتل مئات الألوف من البشر وتلحق دماراً بالبني الاجتماعية، ويحذر الخبراء من زلازل وكوارث طبيعية في إطار تغيرات في الطقس والمناخ.