من كان في نعمة.. أو أبلغ كلام قاله الباجي في خطابه
د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4206
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم تكن مفاجأتي بشعر يَستشهد به سي الباجي في خطابه الأخير (حواره ٢٤ / ٩ /٢٠١٨)، ولكن بمطابقة ذلك الشعر للمقام، على المعنى البلاغي المشهور لكل مقام مقال.
فقد كان مقاله في توديع صديقه الشيخ راشد الغنوشي عند الباب بعد لقائه الحار به في قصر قرطاج، في موضوع السيد الشاهد وحكومته من النهضة، إن كانت ستسانده في تجديد الثقة على حساب التوافق مؤثِرة القطيعة مع حزبه ومع رئيس حزبه، أو تَحسِب للأمر ألف حساب.
هذا الشعر، الذي استشهد به الرئيس الباجي، وهو من جيل الزعماء من طينة بورقيبة وبن يوسف والبلهوان الذين كانوا يحلّون خطبهم ببليغ القول من الأشعار والأقوال المأثورة فضلاً عن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وللأسف قل مثيلهم، لاختلاف مناهج التربية والتعليم وغلبة ثقافة العصر الأجنبية على اللغة العربية في بلادها بتونس، أعتبره أبلغ كلام قاله سي الباجي في خطابه، يلخص به القطيعة التي أحدثتها النهضة معه بمساندة الشاهد ضد حزبه نفسه كما قلت وإرادة زعيم حزبه.
هذا الشعر، وإنما هما بيتان لا أكثر، لأن صحافيين - فيما رأيت - كتبا في الموضوع زادا بيتاً ثالثاً دون توضيح، مع ما في ذلك البيت من الخطأ، فوجبت الإشارة لأمانة النقل.
قلت إذن هما بيتان لابن حمديس الشاعر الصقلي المشهور (المتوفى 527 هـ /1133م ). وقد ذكّر الأستاذ الباجي بقصتهما مع ممدوح الشاعر الأمير المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، وكانت عروس الأندلس، وكان ابن عباد آنذاك في الأسر بأغمات بالمغرب على يد يوسف بن تاشفين أمير المرابطين. وكان ابن عباد وهو نفسه شاعر، بعث لصديقه ابن حمديس بأبيات يشكو حاله في الأسر ويستذكر ما كان فيه من عز ومنعة، مطلعها:
غريبٌ بأرض المغْرِبينِ أسيرُ… سيَبكي عليه منبر وسريرُ
فجاوبه ابن حمديس بأبيات مثلها يقول في مطلعها:
جرَى بك جَدٌّ بالكرام عَثورُ … وجارَ زمانٌ كنت فيه تُجيرُ
ومنها البيتان المشهوران:
تجيء خلافاً للأمور أمورُ … ويعدل دهرٌ في الوَرى ويَجورُ
أتيأسُ من يوم يناقضُ أمْسَه … وزُهر الدَّراري في البروج تدورُ
وهما البيتان اللذان ساقهما الأستاذ الباجي على سمع الأستاذ راشد وهو يودعه بباب قصر قرطاج بعد ما كان من إعلان القطيعة بينهما من جانب النهضة في قضية الشاهد، عندما سأله ماذا يقول أخيراً.
وهذا شعر لا يحتاج الى شرح، ولكن الحكمة فيه أن الشاعر قابلَ بين متناقضات هي شأن الحياة، قابل بين الأمور وخلافها، أي تقلب الأقدار، كما قد يقول قائل، وقابل بين العدل والجور بين الناس في هذه الدنيا التي لا تدوم على حال، أو هي كالأيام لا تشبه بعضها بعضاً وإن تشابهت، بما تحمله من هموم أو سرور، وأنها ستمضي هكذا كالفلك في دورته، وهو يخلبك بأنجمه الزاهرة وبروجه.. لأن هذا الدوران علامة على تقلب الأحوال، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يطمئن الى حال قد تعقبها حال أسوأ منها فيندم على ما فات، وهيهات ندم لا يمحوه أمل أو لا يعقبه أمل.
والبلاغة فيه أنه جاء على أسلوب الحكيم، أو ما يسميه البلاغيون في اصطلاحهم بهذا الاسم، وهو أن تفاجئ المخاطب بجواب على سؤاله، فتحيّره إجابتك لأنك تلقي على سمعه ما لم يكن يترقبه أو تتركه في حيرة من أمره، فيذهب عنك وهو أكثر قلقاً أو وهو أكثر حرجاً ماذا يقول أو ماذا يفعل.
وإذا استحضرنا الى الذهن مأساة ابن عباد - ولا نخال الأستاذ الغنوشي لم يستحضرها - حين لم يغتفر له قائد المرابطين يوسف ابن تاشفين، الذي جاء لتحرير الأندلس من ملوك الطوائف لما رآه من استقوائهم بعضهم على بعض بملوك الإسبان للنصرة على خصمه. فهزمه وأخذه أسيراً الى أغمات ليموت هناك حتف أنفه، لقاء موالاته لأعداء المسلمين وتصديه لدعوة المرابطين بفتح الأندلس من جديد بعد تطهيرها من ملوك الطوائف وتوحيدها تحت رايته.
يبقى أن البلاغة، القائمة كشأن اللغات عامة على المجاز والتشبيه، لا يفترض فيها أن يكون المثل المضروب أو الشعر الذي يستدعيه المتكلم لتحقيق غرض بياني في خطابه ومثلُه تضمين من القرآن والسنة، مقصوداً منه أن يستوفي فيه وجوه الشبه كلها بين المشبه والمشبه به أو المجاز ينطبق تماماً على واقع الحال الدائر فيه اللفظ على المعنى.
ولا أجازف إذا قلت بمناسبة هذين البيتين من شعر ابن حمديس اللذين جرى ذكرهما على لسان الرئيس الباجي في حواره إنهما أبلغ كلام قاله الباجي في خطابه، لأنه بهما يلخص القطيعة التي أحدثتها النهضة معه بمساندتها للسيد الشاهد في أزمته بالحكومة ضد حزبه نفسه كما قلت وإرادة زعيم حزبه. أقول ذلك خلافاً لبعض المتأدبين العصريين نعى، في مقال له عن اللغة الخداع، على الرئيس الباجي بأن لجوءه للشعر كدأبه في الاستشهاد قبل ذلك بالقرآن إنما يحاول أن يخفي به زيف خطابه وتهلل كلامه.
ولذلك قدرت أن الشاهد والنهضة والباجي، سيحدث بينهم ما لا تحمد عقباه ما لم يتفقوا على أمر، يكون فيه منجاة البلاد من الأزمة التي كلنا شريك فيها، كتونسيين وليس فقط كتونسيين مسؤولين في هذا المركز أو ذاك.
وكنت في مقال سابق قلت ما معناه في قضية مُعاصاة السيد الحبيب الصيد رئيس الحكومة آنذاك عن الاستقالة: إن المنصب قد يجعل صاحبه يستأسد. ولكن ما كل مستأسد يأمن قارضاً من القوارض لا يفتّت من شبكته فيندم ويتذكر قولة من قال: "من كان في نعمة ولم يشكر خرج منها ولم يشعر".
تونس في ٥ أكتوبر ٢٠١٨
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: