د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3263
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نفس الاشخاص نفس المشاكل ولا شيء يتغير اذا لم تعركهم الايام ويتعظوا من الاحداث
مشكلة الاحزاب في تونس انها ولادات من اب واحد ولكن من امهات مختلفات، بحكم الثقافة والرضاعة والجنسية والمصاهرات. وهي مشكلة ابدية في كل الاجيال، كالميراث والاستحقاق بالاسم والنسب. امر واحد يجب ان يحسم بين الجميع هو الاب او الولي وفي معناه الحاكم. وهو وحده والوحيد يستطيع ان يعجن منهم اكلا شهيا ومستقبلا سعيدا للجميع، برضاه وليس برضاهم وان كرهوا. وهو ما اوجبه حتى الله - تعالى عن التمثيل به - عندما اوحى لرسوله بصلح الحديبية مع اهل مكة وهي ام القرى وبيت جميع القبائل التى نزل الدين في احضانها لتخرج به الى العالم، مبشرين مهللين لحضارة انسانية اشمل واكمل وان كره المشركون والكافرون في كل الازمان.
وربما تمثل كثير من الزعماء و المؤسسون للدول بفتح مكة ليفتحوا به قلب اعدائهم ان لم يكن ليس للايمان فلا أقل لوضع الحرب بينهم والاقتتال، وليسود الامان في ظل "لا اكراه في الدين" ومن شاء ان يعبد ما عبد آباؤه الاولون ومن شاء ان يكفر بالاسلام فله ان يلوذ بذمته والامن على نفسه، وان لم يشا فلا يعتدي عليه ولا يناصر من يعتدي عليه. واثمه عند ربه وعلى ما تربت يداه، ان نافق او ظاهر على الباطل وخان ما عاهد عليه.
ربما تمثلوا به، او ساروا بمقتضاه دون ان يعلموه، لوقوع الحافر على الحافر، إذ هو من طبيعة البشر لمن طبيعته سليمة، ولا يخالف مقتضى ما تولده الحكمة او يمليه العقل السليم.
والنداء والنهضة هما، كسائر الاحزاب، بضاعة تونسية قبل كل شيء. ولكن، بما تميزا به عن غيرهما انهما اسمان لمسمى واحد. هما الطرفان الاوسطان في تونس لتمثيل اتجاه وآخر مختلفين في الوسائل والمبادئ، ولكن متحدين في الاهداف. وليس عيبا ان يختلف التونسيان في الوسائل والمبادئ لانهما هما المعول عليه لتمثيل الشعب، فبين مسارع للخيرات وبين متأن ومتبصر للمتاعب.
اما الهدف والاهداف، اذا اردنا بالجمع المفرد او العكس، فإن التونسي مهما يكن بناؤه الذهني والفكري يبقى الانسانَ العاقل الذي يحترم اخاه التونسي في دينه واعتقاده وحريته في تدبير بيته وشؤون نفسه باية سياسة يرتضيها لنفسه. ولكنه في سياسة مجتمعه وامور دولته، فالسلطة التي ينبغي لهؤلاء، لادارة شؤون امرهم ودولتهم يجب ان تنبع من عين واحدة وتسير في نهر مشترك.
وقد اهتدت البشرية من قديم الزمان الى سلوك يرتضيه الجماعة ولا يكون مصدره العبد، أي الحاكم ونزواته. ولذلك وضعت القوانين والدساتير، كقانون حمورابي او دستور قرطاجنة المشهورين. ثم وكأنه تأكيدا لحتمية الشرائع والاديان نزلت الكتب المنزلة لتكون وازعا للسلطان، للنزول عند ارادة اقوامه واقوى وازع لاقوامه او رعيته للامتثال لحكمه وطاعته لفائدة قومه وبالتطابق لفائدة نفسه، فاذا انقطع حبل البيعة فسدت الامور عليه وعلى شعبه وسقطت الدولة.
فالسياسي المحنك يجب ان يقود السياسي المتمرن في حزب او غيره من مدرسة الحياة، فلا يعصي، رعونةً، امراً لقائده والا لما صلحت المراتب والمقامات. وهذا في الجيوش ألزم واوضح، وتساعد عليه النوَط العسكرية والشارات والعصا عند بعض التقاليد.
ولا يختلف اثنان في ان النظام في عهد المخلوع -عجل الله عودته، في دعاء بعضهم اليوم له - ساس البلاد بعصا الضابط. فانقادت له، وان على مضض في الاول ولكن استنامت النفوس لسلطته الباطشة والظالمة احيانا، احب اليهم من الفوضى وقلة الامان.
ولكن ما الذي حدث. الذي حدث هو الاختلال في الداخل والتربص من الخارج. فلا دولة الا وهناك من يتربص بحكامها، إلا ان يطلقوا ايديهم للنفوذ اليها بمصالحهم واطماعهم. وفي الداخل بالمستعجلين على رئيسها للادالة به في حكمه، إما من حاشيته احيانا وإما من المنتهزين للفرص باسم بعض الدعوات الحقة، دون ان يكونوا من اربابها الحقيقين ولكن لا يعوزهم الطموح لها.
فانفتقت الاحزاب بعد الثورة ليجد كل رئيس حزب غايته من السلطة. واذا كلها ركام بعد الانتخابات الاولى لانها لم تفصّل الا بمقياس التكتلات والاحزاب وليس في المشهد حينها غير حزب النهضة الموزع بين الشتات في الخارج وبين الانكفاء في الداخل، وغير لفيف من احزاب الوسط والشيوعيين والقوميين، استطاع الاستاذ الباجي بعد مدته القصيرة على رأس حكومة الثورة ان يدفعهم دفعا للانضواء تحت لوائه فكان "النداء" وكانت الانتخابات الثانية بعد الثورة وكانت له الرئاسة والحظوة الاولى لحزبه في البرلمان.
واذا كانت الانتخابات تهدد الاحزاب الفاشلة في استدراك امرها ومؤتمراتها لإفراز قيادات مؤهلة للمرحلة القادمة، فالخوف سوف لن يستولى على قلب الباجي، للتفكك الذى تخرّم حزبه بعد فوزه الاول، ولكنه بالتأكيد سوف يستولى على من راغموه أو راغمهم، فهجروا حزبه لمستقبل افضل لتحقيق احلامهم بخلافته او التصدي لمن ينازعهم فيها من ابنائه في حزبه او ابنه الحقيقي، اذا قضت مصالح الحزب بتقديمه عليهم.
فلو سلّم افتراضا للمنشقين، باحزاب منافسة لحزبه او بلوبيات، سيدفعهم الى العجز عن مواجهة النهضة، الحزب الاكبر برصيده الشعبي، والذي وضعته الاقدار بعد الثورة ليكون ميزان الثقل في كفة اليمين او اليسار للحكم. لان اليسار التونسي دون النهضة، او أى حزب بمسماه لو خلفه سيتقمص مثلها عمق الشعب التونسي والمعبر عن ماضيه وحاضره. لان الاحزاب المركزة على المبادىء الاقتصادية او الايديولوجية الاجتماعية التقدمية والحداثية يمكن ان تلقى سوقا لها في المعارضة ولكن لا تقوى على الحكم دون ان تتكيف بحيثيات الواقع بمجرد ان تستلم الحكم لو انقاد لها او احْتوَشته بالانتخابات.
ومثال بورقيبة واضح وكذلك بن علي.
لكن بعد الثورة، وزلزال الديمقراطية حقيقة، لتتفاعل بمفعوله الانتخابات والاحزاب والتعددية لم يُبق في يد مراهق او متطفل او مُنتزٍ ليلقى بحجر في وادي الديمقراطية أو يلحظ له ارتدادات.
فتعين ان تأخذ المنافسات بجد عصرَ الديمقراطية الحقيقي الذي يمنح الاغلبية في الهيئة الناخبة ما يمنحها، من اجل استقرار النظام، بالحد الأمثل لانتاج الثروة وحسن توزيعها وتأمين البلاد من المخاطر والدفع لمسابقة الدول في طريق العلم والقوة.
ولكن من لم يستسلم للمغامرة الفاشلة أولا، بالقضاء على غريمه في الحكم، ليستفرد به لذات نفسه، لا يمكن ان يلعب لعبة الأغرار فيستنيم لحلمهم في تقويض بنائه الذي بناه. وسيأتيهم من حيث أتوه لإفشال سعيهم الجديد، او يرعووا وتكون لهم العقبى. فلا يفيق التونسيون الا على مصالحة تأمن البلاد من شرور غيابها او وأدها في مهادها.
--------
تونس في 23 ديسمبر 2017
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: