جون فول / ترجمة: روان القصاص
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3199
مثَّلت وفاة الدكتور حسن الترابي في 5 مارس 2016 نهايةَ فترات مُهمَّة في تاريخ المُسلمين السياسي والأيديولوجي. ويُحتفى بالترابي من قِبَل البعض كمُتحدّث بارز عن التجديد الفكري الضروري للمسلمين، ويُعارض بشدة من قِبل آخرين يرونه علمًا مهمًّا في تشكيل الأبعاد الاستبدادية لما يُعرّفه كثيرون بالإسلام السياسي. وقد لعبت سيرته المهنيّة الطويلة كناشط سياسي ومُفكِّر ديني حداثي دورًا في كل من عكس وصياغة اتجاهات كبرى في العالم الإسلامي لما يربو على نصف قرن. ويُعدّ كُل من الأبعاد العقلانية والسياسية لعمله مهمًّا لتذكّر حياته.
وقد ركز الكثير من الانتباه الذي ناله حسن الترابي في أثناء حياته على سيرته السياسية. لقد بدأ تلك الحياة المهنية بإلقاء خطاب كطالبٍ عائدٍ من الخارج، وكان لذلك الخطاب دورٌ مهمٌ في تعبئة الثورة المدنية في السودان التي أطاحت بديكتاتور عسكري في عام 1964. وقاد الترابي عدّة جماعات سياسية، عاملًا في كُلّ من أوقات السياسة النيابية المدنية وفي فترات الدكتاتوريات العسكرية. وقضى الترابي عددًا من السنوات في السجن أو الاحتجاز وأيضًا في مناصب حكومية. وقد تسبب دعمه أحيانًا للأنظمة الاستبدادية لجعفر النميري وعمر البشير في جعل الكثيرين ينتقدون دوره السياسي في السودان. لكن، على المدى الطويل، ربما يكون لإسهاماته الفكرية في تطوير منظور إسلامي حديث أثرٌ أكبر من أنشطته السياسية.
إنَّ نقطة البدء للنشاط المفاهيمي للترابي هي اعتقاده في ضرورة تجديد الإيمان والفكر. وقد جادلت كتاباته المُبكّرة عن ضرورة التجديد، كما في "تجديد الفكر الإسلامي" بأنَّ التغيير التاريخي حتميٌ في المجتمعات الإنسانية. وبالتبعية، فإنَّ الناس مُطالبون باستمرار أن يُجدّدوا إيمانهم ومؤسساتهم الدينية كي يمكنهم أن يكونوا مسلمين حقًا في سياقات متغيّرةٍ باستمرار. وكان هذا التأكيد على ضرورة التجديد جزءًا من الحداثة الإسلامية الشاملة التي رفضت الإصرار على تقليد ما اتفق عليه علماء المسلمين في العصور الوسطى. وأكّد الترابي على أنَّ الإسلام يتمتع دائمًا بارتباط بالعصر مبنيّ على الأصول الثابتة للإسلام في القرآن، وأنَّ هذا الارتباط ليس معتمدًا على التفسيرات اللاحقة المنطوية على مفارقات تاريخية. وكما أكّد في مؤتمر في عام 1980، فإنَّ التجديد هو "إعادة صياغة المبادئ الأساسية بما يتناسب مع الظروف المتغيرة ... مصادر الإسلام دومًا حية وحاضرة". (المسودّات الشخصية للمؤتمر، 4 أكتوبر 1980). وضمن هذا الإطار، كما يُصرّح عبد الوهّاب الأفندي في "ثورة الترابي" (صفحة 170)، فإنَّ "التجديد بالنسبة إلى الترابي يتبنى محتوى شديد الثورية والراديكالية". إنَّ هذه الإعادة الراديكالية لصياغة المفاهيم هي التي ميّزت الترابي عن الكثير ممن يدافعون عن نوع ما من إعادة الصياغة العصرية للحياة والفكر الإسلاميين.
في رؤية الترابي، يجب للتجديد أن يكون شاملًا، يغطي كل مجالات الحياة والفكر. والمبدأ الأساسي في فِكر الترابي الذي يُحدد هذا الشمول هو التوحيد. وبالرغم من أنَّ التوحيد كان الموضوع المركزي في الفكر الإسلامي على مدار القرون، فإنَّه كان مهمًّا على وجه الخصوص في أنماطٍ فكرية حديثةٍ مُعيّنة؛ ففي القرن الثامن عشر، كانت نقطة البدء لتعاليم محمّد بن عبد الوهّاب تعريفًا صارمًا وضيقًا للتوحيد - وهو الذي يستمر في الحركات اللاحقة المنعوتة بـ"الوهابية". وفي نهاية القرن التاسع عشر، بنى محمد عبده - العالم المصري الذي حدد كثيرًا من أُسُس الحداثة الإسلامية - معظم فكره على تصور جامعٍ وعقلاني للتوحيد. لكن، في النصف الثاني من القرن العشرين، قدّم المفكرون الإسلاميون المُدافعون عن الإصلاحات الجذرية التوحيدَ كإطار لبرنامج شامل لتأسيس دولة ومجتمع إسلاميين حقيقيين. وقد صاغ هذا الاتجاه عددٌ من رواد المفكرين في ذلك الوقت، مثل علي شريعتي في إيران والفيلسوف المصري حسن حنفي بالإضافة إلى الترابي. وبالرغم من اختلافهم في تفاصيل التطبيق، فإنَّ الترابي وهؤلاء الآخرين قد وضعوا مبدأ التوحيد مباشرةً في قلب التجديد الإسلامي في القرن العشرين اللاحق.
ولعلّ الجزء الأكثر تأثيرًا وإثارة للجدل في النشاط الفكري للترابي هو في آرائه عن مكانة المرأة في التعاليم الإسلامية وفي المجتمع المسلم. وقد جادل الترابي بأنَّ الرجال والنساء لديهم مسؤولية متساوية في اتّباع أوامر الإله، وقال إنَّ الكبت الأبوي للنساء في المجتمعات الإسلامية التاريخية كان ضد المبادئ الإسلامية. وفي عام 1973 كتب الترابي كُتيّبًا اسمه "المرأة في تعاليم الإسلام" قدّم فيه هذه الرؤية عن المساواة بين الجنسين. وكان جزء من القدرة المقنعة لأسلوبه في التقديم أنَّه استخدم توجهًا سلفيًّا. وبالرغم من استخدام الصحافيين المعاصرين لمصطلح "سلفي" لوصف الأصولين المُتزمّتين، فإنَّ المصطلح يعني أساسًا التطلع إلى ممارسات السلف الصالح الذين كانوا أصحاب الرسول لتحصيل الهداية. وقد بيَّن الترابي أنَّ النساء لَعِبْن أدوارًا مهمةً جدًّا في حياة الجماعة المُبكّرة من المؤمنين، وأنَّ تلك التجارب يجب أن تمدّ مسلمي العصر الحديث بالهداية في الإقرار بحقوق ومسؤوليات النساء. وبالرغم من عدم اتفاق كثير من المسلمين مع الترابي، فإنَّ آراءه معروفةٌ على نطاق واسع وقد ساعدت في صياغة الجدل حول قضايا الجنسين في العالم الإسلامي المعاصر.
لقد أثارت تصوّرات الترابي عن الدولة الإسلامية نقدًا بليغًا، ليس بسبب تصوّراته ولكن بالأحرى بسبب ممارساته كناشط سياسي يعمل مع دكتاتوريين عسكريين. فعندما وصف الترابي طبيعة الدولة الإسلامية، فقد جادل بأنَّ مثل تلك الدولة قد تأخذ أشكالًا مختلفةً، اعتمادًا على الظروف الخاصة للزمان والمكان المخصوصين. لكن، وبما يتوافق مع مبدأ التوحيد، فإنَّ الدولة لن تكون علمانية - فاصلةً الدين عن الحياة العامة. وفي أي شكل تتخذه الدولة، فإنها ستؤكد على العدل وتتجنب الظلم. وأما النقد الموجه إلى الترابي فيأتي من حقيقة أنَّه على صعيد الممارسة قد قام بدعم دكتاتوريات عسكرية ظالمة ادّعت كونها تُطبّق الشريعة.
لقد كان الدكتور حسن الترابي مُفكرًا إسلاميًا ناشطًا شارك في الصحوة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد ساعدت أفكاره في تشكيل المحتوى المفاهيمي لتلك الصحوة. وفي نشاطه السياسي، تُظهر المنظمات التي قادها تطور الحركات. لقد بدأ كقائد لجبهة سياسية مُعرّفة باتجاهها الإسلامي في الساحة السياسية السودانية في الستينيّات، عندما لم تكن الحركات الإسلامية ذات أهمية مركزيةً بالنسبة إلى العملية السياسية في الدول الإسلامية. وكجزءٍ من نظام استبدادي يدّعي تطبيق الإسلام في التسعينيّات، كان الترابي أيضًا جزءًا مما عرّفه البعض بـ"فشل الإسلام السياسي". لكن الترابي نجا بعد ذلك الأمر على نحو لافت للنظر، وبعد انفصالٍ عن البشير في عام (1998-1999)، يُمكن النظر إلى حزب المؤتمر الشعبي التابع له كمثال على ما بعد الإسلامية التي ميزت القرن الحادي والعشرين.
إنَّ وفاة الترابي تمثل نهاية فترات من التاريخ الإسلامي الحديث؛ إنها نهاية عصر الإسلام السياسي. ويُمثّل صعود ما يُسمّى بالدولة الإسلامية بصور عديدة عصرًا جديدًا من النشاط السياسي والاتجاه القتالي مختلفًا إلى حدٍ بعيد عن نشاط الترابي ومنظماته. وبالمثل، فإنَّ الاهتمامات العقائدية والأيديولوجية للسجال بين النشطاء المسلمين والشيوعيين أو الجدالات قديمة الطراز بين الإسلاميين والعلمانيين قد اتخذت أشكالًا جديدة جدًّا في المنافسات الـ"ما بعد أيديولوجية" في عصر التويتر والفيسبوك. وتمثل حياة الترابي وعمله وسيطًا مناسبًا لإدراك طبيعة هذه التحوّلات.
---------
[1] “Hasan al-Turabi and Contemporary Islam”, John Voll, Mar 15 2016, Jadaliyya: