يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الإسلام دين وجامعة وثقافة، والعروبة صورة خاصة من الجامعة الإسلامية والثقافة الإسلامية. وهذه المدلولات ظاهرة في التاريخ وفي الواقع. فالإسلام دين، وهو جامعة جمعت وتجمع الشعوب الإسلامية، وهي جامعة لم تقتضِ ولا تقتضي وجود الإدارة أو السلطة المركزية — كما نفهمها — بل إن أقاليم العالم الإسلامي حتى في العصور الأولى للخلافة الإسلامية تمتَّعَت في الواقع بمقدار من الحرية مكَّنها من التمتع بحياة إقليمية خصبة مثمرة.
والإسلام أيضًا ثقافة، بمعنى أنه «طريقة حياة» أو — كما يقول السلف — «آداب». وقد شرح ذلك ابن خلدون في قوله: «إن الحَضَر لهم آداب في أحوالهم، في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا، وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم. فلهم في ذلك آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به من أخذ وترك حتى كأنها حدود لا تُتعدى.» فالحياة الإسلامية ثقافة بهذا المعنى الشامل لأمور الدين والدنيا.
وكانت هذه الثقافة من صنع الشعوب الإسلامية، ومن عناصرها ما يرجع لأحوال الشعوب قبل الإسلام، ومنها ما يرجع لما اقتضته حاجات تطورها، إلا أن تلك العناصر تنطبع جميعًا بالطابع الإسلامي. وبناءً على هذا فبينما تتنوَّع الثقافة الإسلامية تنوعًا عظيمًا — إذ هي في الأندلس مثلًا تختلف عنها في الهند، وهي في الغابات أو المراعي أو السواحل الأفريقية تختلف عنها في الشام أو في العراق — فإننا نجد من وراء التنوع ذلك الطابع الإسلامي المشترك الذي أشرنا إليه.
وكان بناء الثقافة الإسلامية على هذا النحو من أعجب فصول التاريخ الإنساني وأعظمها. فهي ثقافة واسعة سمحة، مكَّنَت الشعوب التي عملت فيها من أن تجاري مزاجها الخاص أو عبقريتها القومية، وقَبِلَتْ شعوبًا على درجات متفاوتة من الحضارة، أو كانت تنتسب لسلالات بشرية مختلفة أو لأصول تاريخية متباعدة؛ فقبِلها البدوي والحضري، وقبِلها السامي والحامي والآري، ونعِم بها ذو العقل البدائي كما نعم بها ذو العقل الراقي وهكذا. ووجد فيها الزاهد ما يُغنِيه كما وجد فيها المقبل على شئون دنياه ما يَفِي بإقباله. وفيها العناصر التي تُرضِي المتصوِّف والعناصر التي تُرضي الفقيه. ولا يقل عن هذا كله أهمية أن المجتمع الإسلامي أفسح مكانًا لغير المسلمين كانوا فيه غير غرباء عنه؛ فهو مجتمعهم والثقافة الإسلامية ثقافتهم. وقد يقول قائل إن الثقافة الأوروبية الحاضرة يشترك فيها أصحاب الأديان المختلفة، وهذا صحيح، ولكن الثقافة الأوروبية استطاعت أن تقبلهم بعد أن تخلَّت عن نصرانيتها، وهذا في نظر العارفين سر بلواها. وأما الثقافة الإسلامية فبقيت سمحة وبقيت إسلامية.
وإن مما يؤسف له حقًّا أن نصيب الشعوب في بناء التاريخ الإسلامي يُنظر إليه في الغالب من ناحية تاريخ الحركة الشعوبية وحدها. ولا شك في عِظم أثر الشعوبية، ولكن مما لا شك فيه أيضًا أن الأدباء استولوا على الشعوبية فخاضوا فيها بحكم الصناعة وبحكم الذوق وبتحكم «النكتة» والبراعة؛ مما جعل التصوير الأدبي للشعوبية أقلَّ مطابقةً للواقع من التصوير التاريخي الصحيح.
ومما لا شك فيه أن العروبة كانت دائمًا صورة متميزة من صور الثقافة الإسلامية، ولكن الذي يهمُّنا الآن هو «عروبة» العصر الحاضر، كما يهمنا البحث في شبهة خطرت وتخطر على أذهان كثير من الناس، ألا وهي: هل يوجد تعارض بين الحركة العربية والجامعة الإسلامية؟ وهذا على اعتبار أن الحركة العربية مما يقوم على أساس العصبية القومية اللادينية، وأن الجامعة الإسلامية تقوم بحكم الاسم على الأساس الديني.
وقد يُعِين على إزالة الشبهة أن نحدد أثر العصبية في وجود العروبة في زماننا، وأن نتتبع في إيجاز عمل العاملين في الحركة العربية.
فأما العروبة في أوضاعها الراهنة فلم تنشأ عن العصبية، بل نشأت من فعل عوامل تاريخية طارئة كان من آثارها شطر العالم الإسلامي إلى شرق أقصى يقع شرقي العراق وإلى وسط يمتد من العراق إلى مصر وإلى مغرب يقع غربي مصر. والشطر في حد ذاته قديم، وهو إلى حدٍّ ما طبيعي متأثِّر بحقائق التاريخ والجغرافيا. ولكن كانت جناية العوامل الطارئة أنها فصلت هذه الأقسام بعضها عن بعض، فألهت كلَّ قسم بكوارثه ونكباته، وصرفته إلى الذود عن حياضه؛ فانطوى على نفسه، وجمد على ما هو عليه وخشي الحركة، ومنع عن نفسه الاتصال بالغير.
وبعد، فما هي تلك الأحداث؟ كانت الحروب الصليبية في الوسط، وكانت اكتساحات التتار في الشرق، وكانت إجلاء المسلمين عن الأندلس، ثم مهاجمة المغرب، ثم حركات التطويق البحرية الكبرى التي أملكت الأوروبيين السيطرة على آسيا، وأدت — فيما أدت إليه — إلى إملاك الأوروبيين السيطرة على الأقاليم العربية على اعتبار أنها تخترقها أقصر الطرق الموصلة بين الأوروبيين ومناطق سيطرتهم في آسيا.
والحروب الصليبية أدت قطعًا — فيما أدت إليه — إلى قيام جبهة إسلامية متصلة من الجزيرة والشام ومصر، تواجه الصليبيين للدفاع في أول الأمر ثم لإجلائهم عما ملكوه في بيت المقدس والساحل. ووقفت الجبهة الإسلامية نفسها تردُّ عن الشام ومصر محاولة التتار التقدم غربًا للاتصال بالصليبيين. والمهم في هذا كله أن الجبهة لم تكن عملًا حربيًّا فحسب، بل اقتضت مقدارًا من التثبيت — وإن شئت الجمود — للحياة الدينية والعلمية يَحُول دون انفراط العقد وتشتت الأفكار؛ أي دون التفرق والضعف، كما اقتضت أيضًا تسليم الزمام لرجال السيف، فعلت كفة السياسة السلطانية على كفة السياسة الشرعية، وضعفت الرياسة الدينية تبعًا لذلك ضعفًا بينًا. وكان أيضًا من جراء الحروب المتواصلة وتسليم الزمام لرجال السيف أن استُنفدت موارد مصر والشام المالية في سبيل أغراض هذا النوع المسرف من التنظيم العسكري الإداري: السلطنة والأمراء والمماليك والطوائف الثانوية من عصابات المرتزقة والبدو.
ولا حاجة بنا للإفاضة فيما كان من اكتساح التتار للأقاليم الشرقية الإسلامية وما أدى إليه هو أيضًا من انفصال تلك الأقاليم عن الأقطار العربية، وما حدث من محاولات بُذلت خلال الحروب الصليبية وفيما بعد زمنَ تلك الحروب لتأليف جبهات متحدة من التتار والأوروبيين ضد الأقاليم العربية تعمل من الشرق ومن الغرب، برًّا وبحرًا. وقد ترتَّب على هذا الانفصال عن سائر أقاليم العالم الإسلامي أن الشرق الإيراني اكتسب هو أيضًا بدء أوضاعه التاريخية الحديثة: فارس، الإمارات الإسلامية في أواسط آسيا، أفغانستان، الهند الإسلامية.
ثم كانت محاولة الدولة العثمانية أن تُعيد بناء الوحدة الإسلامية، إلا أن المهمة كانت أكبر وأشقَّ مما تصورت، ولم يتم منها إلا إخضاع العرب — أو أكثرهم — لحكمهم. أضف إلى هذا استحكام العداء بين العثمانيين والإيرانيين، وتحكُّم الفُرقة بين السنيين والشيعة، كما نضيف إليه فشل الدولة العثمانية في طرد البرتغاليين من البحار العربية، وكانوا قد وصلوا إليها في أواخر القرن الخامس عشر وبدءوا منذ ذلك الحين إغلاق المنافذ البحرية العربية والفارسية وخنق التجارة الإسلامية خنقًا تامًّا. وتبع البرتغاليين قدوم الهولنديين والإنجليز والفرنسيين للمياه الآسيوية، ولولا ما كان من التنافس فيما بينهم لاختفت راية العرب من البحار. ومع ذلك فقد تمكَّن الأوروبيون وبخاصة الإنجليز من إخضاع السواحل العربية والفارسية لنفوذهم، وتبع ذلك في القرن التاسع عشر امتداد السيطرة من السواحل إلى قلب الأقاليم العربية في الوسط والمغرب وفي فارس.
وعلى هذا النحو كان بدء العروبة كما عرفها التاريخ الحديث.
ولما آن للعرب أن يستيقظوا وأن يهبُّوا لإصلاح شئونهم، تنوَّعت لديهم أساليب الإصلاح ومناهجه طبقًا لما أملتْه عليهم ظروف أوطانهم. والتنوع شيء آخر غير التعارض.
ونحن نعرف أن من المصلحين من انتسب لأوطان عربية تحكمها الدولة العثمانية حكمًا عَجَزَ في كثير من الأحوال عن تحقيق مصالح أهلها الحسية والمعنوية، وعمل في أواخر أيامه على إهدار عروبتهم، ومن المصلحين من انتسب لأوطان عربية تحت السيادة العثمانية إنما أزمَّة الحكم في أيدي دول أوروبية، ومن المصلحين من انتسب لأوطان إسلامية غير عربية تخضع لحكومة من الحكومات الأوروبية. كما أن من المصلحين من تأثَّر تأثرًا قويًّا بالفكر الأوروبي؛ فوضع خطته للإصلاح على أُسس الفكر الأوروبي الحديث؛ وأهمها أساسان: أحدهما اللادينية والآخر العصبية القومية.
وبناءً على اختلاف الظروف وعلى اختلاف الرجال في الحكم على ما هو عملي وما هو غير عملي، اختلفت البرامج، ونشأت حركات يصفونها بأنها إسلامية وأخرى يصفونها بأنها عربية. ونحن نذهب إلى أن القائمين بها لم يروا تعارضًا فيما بينها، اللهم إلا فيما كان بين القوميين اللادينيين والمصلحين الذين قدَّروا أن الاستمساك بالأصول التاريخية للثقافة شرط أساسي للعمل والنجاح.
ولا أدري كيف يستطيع أحد أن يتصوَّر أن الإصلاح الديني كما قرره — مثلًا — الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده يعطِّل في قليل أو كثير عمل العاملين لاستقلال العرب أو جمع كلمتهم أو تآخيهم أو تعاونهم. وقد ذكر شيخ الإسلام المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق في مقدمته لمقالات العروة الوثقى أن دعوة الشيخ محمد عبده تنتظم أمورًا ثلاثة:
(١) تحرير الفكر من قيد التقليد؛ حتى لا يخضع العقل لسلطان غير سلطان البرهان، ولا يتحكم فيه زعماء الدنيا ولا زعماء الأديان.
(٢) اعتبار الدين صديقًا للعلم له وظيفة يؤديها، وهما حاجتان من حاجات البشر لا تغني إحداهما عن الأخرى.
(٣) فهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى.
وهل في هذه إلا الأساس الوحيد لأية حركة عربية استقلالية اتحادية؟
وقد يظن ظانٌّ أن اختلاف العرب دينًا يقتضي تجريد حركتهم من عنصر الدين؛ حرصًا على جمع الكلمة ومجاراة لما اتجهت إليه بعض الحركات القومية الحديثة. وهذا وهم؛ أولًا لأنه يناقض ما أثبته التاريخ عن مشاركة غير المسلمين في بناء الثقافة التاريخية، وثانيًا لأنه يناقض ما أثبته التاريخ الحديث من مشاركة غير المسلمين في بناء الحركة العربية التحريرية الاستقلالية، وثالثًا لأنه يعطِّل المصلحة العامة الكبرى ألا وهي جمع الكلمة على إصلاح ديني إسلامي مسيحي يصد نزعات الإلحاد والمادية.
-----------
مجلة الهلال
يناير ١٩٥٥
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: