د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4602
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قمة أهرامات مصر في الكتابة الصحفية الأستاذ محمد حسنين هيكل غادرنا ونزع بروحه الى الحياة الخالدة.
وإذا كانت "الأهرام" الجريدة والأهرامات في الجيزة بينهما من وجه التشابه في العظمة والمحتوى ما بينهما فقد كانت مفردات كل منهما تشهد بحب المصريين من قديم ابتغاء العظمة والخلود لأنفسهم ولأعمالهم. ولا غرابة فالنيل عطاء الخالق الأعظم بمائه وطمْيه مُلهم لهم بالخصوبة لأفكارهم ومخيلاتهم. فقد سبق هيكل من الصحفيين من كان في مثل شهرته بالأهرام وبأخبار اليوم وبالجمهورية وبآخر ساعة وروز اليوسف وغيرها، وعاصره كذلك من كان قريباً من شهرته وعطائه كالأخوين محمد وعلي أمين ومحمد التابعي وموسى صبري وغيرهم، وكلهم كأحجار الهرم الضخمة في الجيزة لا تكاد تعدل بأحدهم الآخر.
وشهرتهم مشتقة من شهرة مصر، كشأن الأمم التي تنتمي الى حضارات وليس الى أوطان مزقها الاستعمار، تنوء كثير من العبقريات في الصحافة وفي غير الصحافة بحمل غالبية نفوس أهلها الضعيفة. ولذلك تفزع الهمم الى عواصم العلم الكبرى كابن خلدون وأمثاله من الخالدين.
❊❊❊
ومصر مدرسة للصحافة بهيكل وأمثاله، تأثرت بالأعلام في هذه المهنة الحديثة من أيام العثمانيين في الأستانة وفي لبنان وتونس والعراق والشام وغيرها، من عرب وناطقين بالعربية من أقوام مختلفة.. ولكنها غدت مدرسة متميزة للطبيعة المصرية في كل شيء تحتضنه من الخارج وتمنحه طابعها الذي سرعان ما يصبح الأنموذج المقلد في كثير من البلدان.
فتكون الصحافة في الغالب محافظة بمحافظة الأقوام الذين تظهر فيهم ثم تحت هذا التأثير الطاغي لمصر على المنطقة لا تمتنع بعض العناوين هنا وهناك من الانجرار نحو الصحافة المتحررة من المواضعات التقليدية والدينية. وتلعب المنافسة والتجارة والإشهار والشهرة دوراً في صناعة أقلام دون أقلام، منها صحافة البوابين كما يقال أو صحافة فضائح المال وأسرار القصور وإثارة الغرائز، وغير ذلك من دواميس الصحافة بغاية خطف الأنظار وابتزاز الحكام. ولا تكاد الصحافة الملتزمة وذات الأقلام الرصينة تجد دعماً لها إلاّ في صحف يتولاها أقلام مقربون من الحكام أو تحت سلطة الدولة مباشرة. وغدت بعض العناوين المشهورة كالأهرام في مصر من الصحف بل في مقدمة الصحف العربية التي تنافس مثيلاتها في الدول المتقدمة. وتلعب دور المحفز للإنتاج في كل الميادين بالكلمة والصورة والكاريكاتير، وسلاحاً من أسلحة الرأي العام بيد أصحاب المال والأعمال لتوجيهه حسب كل بوصلة أو دائرة تأثير، في المنطقة أو خارجها.
❊❊❊
كانت تونس محطاتٌ لقلم المرحوم هيكل أكثر من مرة في تاريخها السياسي وعلاقاتها بمصر خاصة. كان مقاله الأسبوعي في الأهرام يوم الجمعة محط أنظار كل العالم، وتجد المتهافتين عليه أكثر من نسخ العدد التي توزعها الجريدة يومها في كل الأكشاك.
وصادف وجودي بالقاهرة إعلان القطيعة بين تونس ومصر في عهد الرئيس الراحل عبد الناصر، وكان الرئيس بورقيبة - رحمه الله - في مصر قبل ذلك في جولته العربية من أجل مشروعه الأمريكي الأطلسي يومها لحل القضية الفلسطينية دون غطاء ناصري باسم الوحدة العربية وقيادتها، أو هكذا ترجم بعض الساسة زيارته لهم في المنطقة.
وسرعان ما تفاعل الأستاذ هيكل كعامة الصحفيين في كل العناوين المنشورة يومها، ولكن بقلمه المميز ليصب جام غضبه على الموقف التونسي الذي مثله بورقيبة بصراحته المعهودة. ولكن هيكل أوجع ابتداء بالعنوان الذي اختاره لمقاله المتهجم على الرئيس التونسي حين سماه للمصريين "سي الحبيب" دون تلقيب.
ومضت الأيام بل السنين وإذا بي أعلم بزيارة قريبة للكاتب الصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل لتونس وأنه سيلتقي بالرئيس بورقيبة فلم يخطر ببالي سوى مقاله الذي عدت به من القاهرة في طيات كتبي لكي لا تمنعه عيون الرقابة وربما يورط صاحبه. وبينا أنا يوماً مستغرق في مكتبة المركز القومي للتوثيق وإذا لغط حولي عن مقال لهيكل طلبه الرئيس، وأسفٌ شديد من كونه لم يعثر عليه في أرشيف أية مصلحة من مصالح الدولة وضاق وقت الزيارة والمسؤولون وفي مقدمتهم كاتب الدولة للإعلام في حيرة من الأمر. ولم تسعفهم به سفارتنا في القاهرة ولا وزارتنا للخارجية، وازداد الحرج بالوقت بين الموكلين بالتوثيق في الدولة حتى لا تنزل اللعنة بهم لأن الرئيس بورقيبة كان يتطلع الى وضع المقال بين يديه قبل الزيارة المرتقبة.
وكنت يومها لأسابيع قد أصبحت نائباً بمجلس الأمة، وكنت في مكتبة المركز للتقليب في بعض المراجع لغاية بحث أعده عن خصائص الخطابة السياسية في تونس قبل الاستقلال. فلفتني الأمر لما لفتني اليه الأعوان كالمستنجدين بي وبعضهم يعرف صفتي النيابية الجديدة. فتساءلت إن كان الذي تقصدونه هو المقال الذي عنوانه "سي الحبيب". فصاحوا كلهم هو ذاك وكأنك تعرفه. فقلت هو عندي احتفظ به في وثائقي من القاهرة، وقد يعجزني فقط الوقت للبحث عنه وقد لا أجده. فلم تمض دقائق حتى أتاني مدير المركز نفسه بعد أن زف بالخبر الى مسؤوليه، ودون أن يمهلني أخذني الى سائق وسيارة لتنطلق بي الى بيتي لإنقاذ الموقف.
وللأسف سلمت له الأصل وكان ينبغي أن أحتفظ به ولكن التعليمات لديه كانت تقديم الأصل للرئيس لا صورة منه. وتمت الزيارة ولكن غابت الوعود وأهمل موضوع الأصل وأصبحت كالمؤاخذ على إلحاحي بعودة المقال اليّ لا بنسخة باهتة منه قدمها لي مدير المركز على عجل.
وتركتْ قصة هذا المقال عندي وحيرةُ أهل التوثيق والإعلام في تونس للبحث عنه، أثرها على أول مداخلة لي بمجلس الأمة، فركزتها على الوضع الإعلامي في تونس والخلل في حفظ ذاكرتنا بالأرشيف، وقصصت قصة مقال الضيف تلميحاً، والفرق بين منع التداول لجريدة ووجوب توثيقها في أرشيفنا.
وكان ممثل الحكومة آنذاك برتبة كاتب دولة للإعلام فتولى الرد على ميزانيته للإعلام الملحقة بالوزارة الأولى. فنهض بثبات المسؤول الواثق من نفسه ليقول إنه كان لديه المقال المذكور من عدة جهات رسمية قبل تفضل النائب المحترم بموافاتنا به. وأكد على عناية الدولة الكاملة بقطاع الإعلام وتنظيم الأرشيف على أحدث الطرق، باستخدام "الانفورماتيك"..
فأُبت من ردّه بخيبة التقدير ولكن أسلاني بعض النواب في فترة الاستراحة بعد الجلسة بالتعبير عن دهشتهم مثلي للموقف الرسمي المراوغ، وإذا بنا نلمح ونحن في زحمة الحديث تحرك السيد كاتب الدولة نفسه نحونا بالتحية فبادرته غير مسارع، ليس فقط للأثر الذي تركته كلمته في نفسي ولكن لأنني لم أحدس معنى حركته، فإذا هو يشد على يدي بضغط المسامح وهو يقول: لا تأخذ في خاطرك مني فقد كان ينبغي أن أرد عليك بذلك الردّ وسنعيد اليك الأصل حالما يأتينا من مكتب فخامة الرئيس، فلا تقلق.
فسلاّني ذلك بعض الشيء، لا من أجل الاعتذار الهزيل الذي قدمه ولكن من أجل الزملاء الذين آسفهم موقفه ثم قبضة اليد لمسح المغالطة التي واجهني بها في الجلسة العامة.
ونظرت في الصحافة في اليوم الموالي لأرى أصداء ذلك. فكانت مفاجأتي أسوأ، حيث رأيت توضيحاً في إحدى الصحف من مدير مركز التوثيق ينكر فيه أن يكون النائب فلان طلبنا منه مقالاً بهذه الأهمية والمركز أعرف بالجهات التي من مهمتها الاحتفاظ بالمقال ومن شأنها تقديمه عند الطلب دون حاجة للبحث عنه لدى الأفراد.
ونفس الشيء.. لما أخذت الهاتف لمراجعته فيما كتب بالصحافة كان رده: آسف لقد تلقيت تعليمات واضحة بكتابة ذلك.
ولولا أني وثّقت هذا كله في مداخلاتي المنشورة في حينها لترددت الآن في إحياء ذاكرة قد تكون اندثرت أو شانَها بعض التفاصيل.
❊❊❊
وكانت لهيكل قبل وفاته بقليل محطات أخرى بتونس بمناسبة أحاديثه عن الثورة وطريقة إدارتها بين الإسلاميين والعلمانيين بأقل من الإصرار الذي كان للإسلاميين الإخوان في مصر على الاستفراد بالحكم. والفرق في نظره أن ما حدث في تونس هو معالجات لإصلاح النظام نفسه وليس كمصر ثورة للتغيير الجذري الذي نجح فيه السيسي عندما أخفق الإخوان.. لرأيه دائماً بأن مصر هي صانعة الثورات ورائدة التغيير في منطقتها.
❊❊❊
وكان هيكل وقتها قد غادر الأهرام أو بعيد ذلك بقليل وكأنه يريد بزيارته أن يمسح إساءته بالمقال أو يحيل به الى ذمة التاريخ، أو بورقيبة وهو يستقبله كأنه كان يريد أن يستعيدَه ذاكرتَه بذلك المقال، ولذلك حرص أن تكون كلماته بين يديه.
-------
تونس ١٨ فيفيري ٢٠١٦
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: