د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6313
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحْبه أجمعين.
في هذا الكُتيِّب الثاني عشر من سلسلة "مختارات من كتب التراث الإسلامي" نُواصِلُ رحلتنا مع ابن القيِّم في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" - تحقيق: الدكتور السيد الجميلي - الذي يردُّ فيه على اثنتي عشرة شُبهةً احتجَّت بها بعضُ الطوائف في قولها بجواز النَّظرة إلى الوجه المليح وجَواز العِشق، مستندةً في بعضها إلى كتاب الله - عزَّ وجلَّ - وفي أُخرى إلى سُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وفي ثالثةٍ إلى أقوال الأئمَّة والفُقَهاء، وأخيرًا احتجُّوا بكتابٍ طويلٍ نسبوه إلى أحمد بن تيميَّة - رحمه الله تعالى.
نسألُ الله تعالى أنْ يكتُب لنا أجرَ هذا الجهد، وأنْ يجعَلَه في ميزان حَسناتنا يوم القيامة.
د. أحمد إبراهيم خضر
جدة في جمادى الأولى 1415هـ - نوفمبر 1994م
----------
هذه هي الشبهات، وهذه هي الردود:
الشُّبهة الأولى:
قال أصحاب هذه الشُّبهة: إنَّ القُرآن الكريم أباحَ النَّظر والعِشق؛ فالله تعالى يقولُ: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 185]، وهذا يعمُّ جميعَ ما خلق الله، فما الذي أخرَجَ من عُمومه الوجهَ المليح، وهو من أحسن ما خلق؟
وموضع الاستدلال به والاعتبار أقوى؛ لذلك يُسبِّح الخالق سبحانه عند رؤيته ورؤية الجمال البديع تنطقُ ألسنةُ الناظرين بقولهم: سبحان الله ربِّ العالمين، وتبارك الله أحسن الخالقين، والله تعالى لم يخلق هذه المحاسن عبثًا، وإنما أظهرها ليستدلَّ الناظرُ إليها على قُدرته ووحدانيَّته وبديع صُنعه، فلا تُعطَّل عما خلقت له.
الردُّ على هذه الشُّبهة:
إنَّ احتجاج أصحاب هذه الشُّبهة بهذه الآية هو نفس احتِجاجهم على إباحة السَّماع الشيطاني الفسقي بقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 17، 18]، قالوا: القول هنا عامٌّ؛ فحمَّلوا لفظه ومعناه ما هو بريءٌ منه، والحقيقة هنا هي أنَّ القول الذي أمرَهُم الله باستِماعه هو وحيُه الذي أنزَلَه على رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ [القصص: 51].
فهذا هو القول الذي أُمِرُوا باتِّباع أحسنه؛ كما قال تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: 55].
والنَّظَرُ الذي أمَرَنا به سبحانه هو النَّظَرُ المؤدِّي إلى معرفته والإيمان به ومحبَّته والاستدلال على صِدق رسله فيما أخبَرُوا به عنه من أسمائه وصفاته وأفعاله وعقابه وثوابه، وليس هو النَّظَر الذي يُوجِبُ تعلُّق الناظر (بالمرأة) التي يحرُم عليه الاستِمتاع بها نظرًا ومباشرةً، والنظَر الذي ندَب الله إليه نَظَرٌ يُثاب عليه الناظر، وهو نظرٌ موافقٌ لأمره، يقصدُ به معرفة ربِّه ومحبَّته لا النَّظر الشيطاني.
الشُّبهة الثانية:
من السُّنَّة ما يُؤيِّد إباحة النظَر؛ كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((النَّظَرُ إلى الوجه المليح عِبادةٌ)).
الرد على هذه الشُّبهة:
سُئِلَ شيخُ الإسلام عمَّن يَروِي هذا الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم صحيح أم لا؟ فأجاب: "هذا كذبٌ وباطلٌ، ومن روى ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو ما يُشبِهُه فقد كذبَ عليه، فإنَّ هذا لم يروِه أحدٌ من أهل الحديث لا بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ، بل هو من الموضوعات، وهو مخالفٌ لإجماع المسلمين، فإنَّه لم يقل أحدٌ: إنَّ النظَر إلى المرأة الأجنبيَّة والصبي الأمرد عبادةٌ، ومَن زعَم ذلك فإنَّه يُستَتاب، فإنْ تاب وإلا قتل، فإنَّ النظَر منه ما هو حرامٌ، ومنه ما هو مكروهٌ، ومنه ما هو مباحٌ، والله أعلم".
الشُّبهة الثالثة:
في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أطلُبوا الخيرَ من حِسان الوجوه))، وفي هذا إرشادٌ إلى تصفُّح الوجوه وتأمُّلها، وخطَب رجلٌ امرأةً فاستشار النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نكاحها فقال: ((هل نظرتَ إليها؟))، فقال: لا، قال: ((اذهَبْ فانظُر إليها))، ولو كان النظَر حرامًا لما أطلَق له أنْ ينظُر فإنَّه لا يأمن الفتنة.
الرد على هذه الشُّبهة:
هذا الحديث وإنْ كان قد رُوِيَ بإسنادٍ إلا أنَّه باطل لم يصحَّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولو صَحَّ لم يكن فيه حُجَّةٌ لأصحاب هذه الشُّبهة، فإنَّه إنما أمَر بطَلَبِ الخير منهم لا بطَلَبِ وصالهم ونيل المحرَّم منهم، فإنَّ الوجه الجميلَ فطنةُ الفعل الجميل؛ لأنَّ الأخلاق تُناسِبُ الخِلقة في الغالب، وأمَّا أمرُ النبي صلى الله عليه وسلم بأنْ ينظُر إلى المخطوبة فذلك نظرٌ للحاجة، وهو مأمورٌ به أمرَ استحباب عند الجمهور، وأمرَ إيجابٍ عند بعض أهل الظاهر، وهو من النظَر المأذون فيه لمصلحةٍ راجحة؛ وهو دُخول الزوج على بصيرة وأبعد من ندَمِه ونُفرته عن المرأة، فالنظَر المباح أنواعٌ، هذا أحدها، بخلاف النظَر إلى الصورة المحرَّمة عليه بغير حاجةٍ.
الشُّبهة الرابعة:
أنَّ أقوال الأئمَّة تُبيح النظَر؛ فقد سأل رجلٌ الشافعيَّ - رضي الله عنه - في رقعةٍ كتب فيها:
سَلِ المُفْتِيَ المَكِّيَّ هَلْ فِي تَزَاوُرٍ = وَنَظْرَةِ مُشْتَاقِ الفُؤَادِ جُنَاحُ
فأجابَهُ الشافعيُّ:
مَعَاذَ إِلَهِ العَرْشِ أَنْ يُذْهِبَ التُّقَى = تَلاصُقُ أَكْبَادٍ بِهِنَّ جِرَاحُ
الرد على هذه الشُّبهة:
هذا السائل هو الذي ذكَر السؤال والجواب، وهو مجهولٌ لا يُعرَف هل هو ثقةٌ أم لا؟
ثم إنَّ الجواب لا يدلُّ على مقصود هذه الطائفة، بل هو حُجَّةٌ عليها؛ فإنَّه نهى أنْ يُذهب التُّقى تلاصقُ هذه الأكباد، فكأنَّه قال: لا تتلاصق هذه الأكباد حتى لا يؤدِّي تلاصقها إلى ذهاب التُّقى، فالتلاصق المذكور فاعلٌ والتُّقى مفعولٌ، فكأنَّه قال: لا يفعل ذلك حتى لا يُذهِب التلاصُقُ التُّقى، وجوابٌ آخر وهو أنَّ هذا التلاصق إنما يكون غير مُؤَدٍّ إلى ذهاب التُّقى إنْ كان في عِشقٍ مُباح بل مستحب كعشق الزوجة مثلاً.
الشُّبهة الخامسة:
ذكر في كتاب "مناقب الشافعي" أنَّ رجلاً كتَب إلى سعيد بن المسيِّب:
يَا سَيِّدَ التَّابِعِينَ وَالبَرَرَهْ = نُسِّيتُ فِي العِشْقِ سُورَةَ البَقَرَهْ
فَكُنْ بِفَتْوَاكَ مُشْفِقًا رَفِقًا = بَاهَى بِكَ اللهُ أَكْرَمَ البَرَرَهْ
هَلْ حَرَّمَ اللهُ لَثْمَ خَدِّ فَتًى = أَوْصَافُهُ بِالجَمَالِ مُشْتَهِرَهْ
فأجابه سعيدٌ:
يَا سَائِلِي عَنْ خَفِيِّ لَوْعَتِهِ = عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ تَحْمِدَنْ أَثَرَهْ
وَلا تَكُنْ طَالِبًا لِفَاحِشَةٍ = أَوْ كَالَّذِي سَاقَ سَيْلُهُ مَطَرَهْ
وَرَاقِبِ اللهَ وَاخْشَ سَطْوَتَهُ = وَخَالِفِ الفَاسِقِينَ وَالفَجَرَهْ
وَقَبِّلِ الخَدَّ مِنْ حَبِيبِكَ ذَا = فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَشَرَهْ
الرد على الشُّبهة:
ما ذكروا عن سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى - فقد أجاب عنه سعيدٌ بنفسه، قال سعيدٌ عن هذا السائل الذي كان من بني كلاب: "إنَّه من أكذب العرب، قيل: كيف يا أبا محمد؟ قال: أليس الذي يقول:
سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ مُفْتِيَ الـ = ـمَدِينَةِ هَلْ فِي حُبِّ دَهْمَاءَ مِنْ وِزْرِ
فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ إِنَّمَا = تُلامُ عَلَى مَا تَسْتَطِيعُ مِنَ الأَمْرِ
كذب والله ما سألني عن شيء من هذا قطُّ ولا أفتيتُه".
وإذا كان هذا جواب سعيد في مثل هذا فما جوابُه لمن سأله أنْ يُقبِّل حبيبًا أجنبيًّا في كلِّ يوم وليلة عشرة؟ فقبَّح الله الفسَقة الكذَّابين على العلماء، لا سيَّما على مثل ابن المسيب، فهؤلاء كلُّهم فسَقة كاذبون، أرادوا نَشْرَ فسقِهم بالكذب على عُلَماء وقتِهم، حتى ولو صَحَّ عن ابن المسيب هذا القول فإنَّ سعيدًا أمَرَه بالصبر أولاً ومُراقبة الله وخوف سَطْوته ومخالفة الفسَقة، ثم أمَرَه بتقبيل خدِّ مَن يحبُّه كلَّ يوم عشر مرَّات، وهذا إنما أراد به قطعًا مَن يحلُّ له تقبيله من زوجةٍ وغيرها، فأراد أنْ يَعْتاض بقُبلتها مَن لا يحلُّ له، ولا يظنُّ بعلماء الإسلام غير هذا إلا مُفرِطٌ في الجهل أو متَّهم بالدِّين.
الشُّبهة السادسة:
قال أبو العباس المبرد في "الكامل": قال أعرابي:
سَأَلْتَ الفَتَى المَكِّيَّ ذَا العِلْمِ مَا الَّذِي = يَحِلُّ مِنَ التَّقْبِيلِ فِي رَمَضَانِ
فَقَالَ لِيَ المَكِّيُّ أَمَّا لِزَوْجَةٍ = فَسَبْعٌ وَأَمَّا خُلَّةٍ فَثَمَانِ
الرد على هذه الشُّبهة:
ما ذكره المبرِّد عن الأعرابي الذي سأل الفتى المكي عن القبلة في رمضان فقال: للزوجة سبع وللخلَّة ثمان، فهذا المستفتي والمفتي لا يُعرَف واحدٌ منهما حتى يُقبل خبره، ولو صَحَّ ذلك وعُرف المستفتي والمفتي لكانت الخلة هي أمَتَه الجميلة، وهي التي يحلُّ تقبيلها ثمانيًا فأكثر.
وأمَّا أنْ يُفتي أحدٌ من أهل الإسلام بأنَّه يحلُّ تقبيل المرأة الأجنبيَّة المحرَّمة عليه ثمانيًا في رمضان أو غيره فمعاذ الله من ذلك.
الشُّبهة السابعة:
وقال عمرو بن سفيان:
إِنَّا سَأَلْنَا مَالِكًا وَقَرِينَهُ = لَيْثَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ لِثَامِ الوَامِقِ
أَيَجُوزُ؟ قَالاَ وَالَّذِي خَلَقَ الوَرَى = مَا حَرَّمَ الرَّحْمَنُ قُبْلَةَ عَاشِقِ
الرد على صاحب هذه الشُّبهة:
وهل يحلُّ لأحدٍ أنْ يصدق عن مالكٍ والليث بن سعد أنهما أجازَا تقبيل خدِّ المرأة الأجنبيَّة المعشوقة أو خد الأمرد الجميل الصورة؟
هذا وقصَّة مالك مع الذي ضمَّ صبيًّا إليه فأفتى بضَرْبِه ستَّمائة سوطٍ فمات، فقال له أبو الفتى: قتلتَ ابني، فقال مالك: قتَلَه الله، فمن هذا تشديده وفتواه هل يُفتي بجواز تقبيل خُدود المُرْدِ الحسان؟ إنَّ الله لم يُحرِّم قبلةَ عاشقٍ يحلُّ لمعشوقه مُواصَلته، ولا قُبلة الرجل خدَّ ولده كما قبَّل الصِّدِّيق - رضي الله عنه - خدَّ ابنته عائشة - رضي الله عنها - ورأى أعرابيٌّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقبِّل أحدَ ابني ابنتِه فقال: وإنَّكم لتُقبِّلون الصِّبيان؟ إنَّ لي عشرةً من الولد ما قبَّلتهم، فقال: "أو أملك لك أنْ نزع الله الرحمةَ من قلبك" .
الشُّبهة الثامنة:
كتَب أحدُهم إلى الإمام أحمد بن حنبل، زعَم بعضُهم أنَّه إسحاق بن معاذ بن زهير شاعر أهل مصر في وقته:
سَأَلْتُ إِمَامَ النَّاسِ نَجْلَ ابْنَ حَنْبَلٍ = عَنِ الضَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ هَلْ فِيهِ مِنْ بَاسِ
فَقَالَ إِذَا جَلَّ العَزَاءُ فَوَاجِبٌ = لأَنَّكَ قَدْ أَحْيَيْتَ عَبْدًا مِنَ النَّاسِ
الرد على هذه الشُّبهة:
ما ذُكِرَ عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - من أقبح الكَذِب عليه، ولو أنَّ هذا الكاذب الفاسق نسَب هذه الكذبة بغيرِه لراج أمرُها بعض الرَّواج، ولكنَّه من شدَّة جهْله نسبها إلى أحمد بن حنبل، وهو كمَن نسَب إليه القولَ بأنَّ القُرآن مخلوقٌ، أو تقديم عليٍّ على أبي بكرٍ، أو تقديم الرأي على السُّنَّة، وأمثال ذلك.
الشُّبهة التاسعة:
قال واحدٌ من المعتزلة:
سَأَلْنَا أَبَا عُثْمَانَ عَمْرًا وَوَاصِلاً = عَنِ الضَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ لِلْخَدِّ وَالجِيدِ
فَقَالا جَمِيعًا وَالَّذِي هُوَ عَادِلٌ = يَجُوزُ بِلا إِثْمٍ فَدَعْ قَوْلَ تَفْنِيدِ
الرد على هذه الشُّبهة:
أبو عثمان المذكور هو عمرو بن عُبَيد، وواصل هو واصل بن عَطاء، وهما شَيْخا القوم، ولو أفتيا بذلك لكانَتْ فتيا من مُبتدِعين مَذمُومين عند السلَف والخلَف، فكيف والمُخبِر بذلك رجلٌ مجهولٌ من المعتزلة، كذب على مَن يُعظِّمهما المعتزلة لكي ينشر فسقَه؟
الشُّبهة العاشرة:
نُسِبت هذه الشُّبهة إلى الإمام ابن تيميَّة ووردَتْ في كتاب "طوق الحمامة"، سُئِل ابن تيميَّة:
"ما تقولُ السادة الفقهاء في رجلٍ عشق امرأة وهي مُصرَّة على هجره منذ زمنٍ طويل، لا تزيده إلا بعدًا، ولا يزداد لها إلا حُبًّا، وعشقه لها من غير فسقٍ، ولا هو ممَّن يدنس عشقه بزنا، وقد أفضى به الحال إلى الهلاك لا محالةَ، إنْ بقي مع محبوبه على هذه الحالة، فهل يحلُّ لمن هذه حاله أنْ يُهجَر؟ وهل يجبُ وصاله على المحبوب المذكور؟ وهل يأثَمُ ببَقائه على هجره؟ وما يجبُ من تفاصيل أمرهما؟ وما لكلِّ واحدٍ منهما على الآخَر من الحقوق ممَّا يُوافق الشَّرع الشَّريف؟".
ادَّعى أصحاب هذه الشُّبهة على ابن تيميَّة أنَّه أجاب بخطِّه بجوابٍ طويل قال في أثنائه:
"فالعاشق له ثلاثة مقامات: ابتداء وتوسط ونهاية، أمَّا ابتداؤه فواجبٌ عليه فيه كِتمانُ ذلك وعدم إفشائه للخلق، مُراعيًا في ذلك شَرائط الفتوَّة من العفَّة والقدرة، فإنْ زاد به الحال إلى المقام الأوسط فلا بأس بإعلام محبوبه بمحبَّته إيَّاه، فيخف بإعلامه وشَكواه إليه ما يجدُّ منه، ويحذر من اطِّلاع الناس على ذلك، فإنْ زاد به الأمر حتى خرَج عن الحدود والضَّوابط التحَقَ بالمجانين والموسوِسين، فانقسَم العشاق قسمين: قسم قنعوا بالنظرة بعد النظرة، فمنهم مَن يموتُ وهو كذلك ولا يظهر سرَّه لأحدٍ، حتى محبوبه لا يَدرِي به، وقد رُوِي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((مَن عشق فعفَّ فكتم فمات فهو شهيدٌ)) .
والقسم الثاني: أباحوا لمن وصَل إلى حَدٍّ يخاف على نفسه منه القبلة في الحين، قالوا: لأنَّ تركَها قد يُؤدِّي إلى هَلاك النفس والقبلة صَغيرةٌ، وهَلاك النفس كبيرة، وإذا وقَع الإنسان في مرَضَيْن داوى الأخطر، ولا خطرَ أعظم من قتْل النَّفس، حتى أوجبوا على المحبوب مُطاوعته على ذلك إذا علم أنَّ ترك ذلك يُؤدِّي إلى هَلاكه، واحتجُّوا بقول الله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31]، وبقوله - تعالى -﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ﴾ [النجم: 32]، وبحديث الذي قال: يا رسول الله، إنِّي لقيتُ امرأةً أجنبيَّة فأحببت منها كلَّ شيء إلا النِّكاح، قال: ((أصلَّيْت معنا؟)) قال: نعم، قال: ((إنَّ الله قد غفَر لك)) ، فأنزل الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، ثم قال: فإذا كان هذا السائل كما زعَم ممَّن لا يُدنس عشقه بزنا فينظر في حاله؛ فإنْ كان من الطبقة الأولى فالنظَر كافٍ لهم إنْ صدقت دَعْواهم، وإنْ كان من الطبقة الثانية فلا بأسَ بشَكْواه إلى محبوبِه كي يرقَّ عليه ويرحمه، وإنْ غلب عليه الحال فالتَحَق بالثالثة أُبِيح له ما ذكرنا بشرط ألا يكون أنموذجًا لفِعل القبيح والمحرَّم؛ فيلتحق بالكبائر ويستحق القتل عند ذلك، ويَزُول عنه العُذر، ويحق عليه كلمة العذاب".
الرد على الشُّبهة:
يردُّ الشيخ ابن القيِّم على هذه الشُّبهة فيقول:
"وأمَّا مَن حاكَمتُمونا إليه وهو شيخ الإسلام ابن تيميَّة فنحن راضون بِحُكمه، فأين أباحَ لكم النَّظَرَ المحرَّم وعِشق المردان والنِّساء الأجانب؟ وهل هذه إلا كذب ظاهر عليه، وهذه تصانيفُه وفَتاواه كلُّها ناطقةٌ بخِلاف ما حكَيْتُموه عنه؟ وأمَّا الفتيا التي حكَيْتُموها فكذبٌ عليه لا تُناسِبُ كلامه بوجه، ولولا الإطالة لذكرناها جميعها حتى يعلم الواقف عليها أنها لا تصدر عمَّن دُونه فضلاً عنه، وقُلت لِمَن أوقفني عليها قديمًا: هذه كذبٌ عليه لا يُشبه كلامه، وكان بعضُ الأمراء قد أوقفني عليها قديمًا، وهي بخطِّ رجل متَّهم بالكذب، ثم تأمَّلتُها فإذا هي كذبٌ عليه، ولولا الإطالةٌ لذكَرْنا من فَتاويه ما يُبيِّن أنَّ هذه كذب".
الشُّبهة الحادية عشرة:
إنَّ الشَّريعة جاءت بالتِزام الدُّخول في أدنى المفسَدَتَيْن دفعًا لأعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين تحصيلاً لأعلاهما، فأين مفسدةُ النَّظر والقُبلة والضمِّ من مَفسَدة المرض والجنون أو الهلاك جملةً.
الرد على هذه الشُّبهة:
هذه القاعدة: التِزام أدنى المفسدتين لدَفْعِ أعلاهما من أصحِّ قواعد الشريعة، ولكن بالتَّحاكُم إلى هذه القاعدة نفسها يتبيَّن أنَّ احتمال مفسَدة ألم الحبِّ مع غضِّ البصر، وعدم تقبيل المحبوب وضمِّه ونحو ذلك أقلُّ من مفسدة النَّظَرِ والتَّقبِيل، فإنَّ هذه المفسَدة تجرُّ إلى هَلاك القلب وفساد الدِّين، وغاية ما يقدر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقم الجسد أو الموت؛ تَفاديًا عن التعرُّض للحرام، فأين إحدى المفسَدَتَيْن من الأخرى؟ على أنَّ النظَر والقُبلة والضمَّ لا يمنع القسم والموت الذي يُسبِّبه الحب؛ لأنَّ العشق يزيدُ بذلك ولا يموت، والذي لا شَكَّ فيه هو أنَّ محبَّة الذي يطمعُ فيه أقوى من محبَّة مَن يئس حبيبُه منه؛ ولهذا قال الشاعر:
وَأَبْرَحُ مَا يَكُونُ الحُبُّ يَوْمًا = إِذَا دَنَتِ الدِّيَارُ مِنَ الدِّيَارِ
الشُّبهة الثانية عشرة:
أباحَ الله سبحانه للمُضطرِّ الميتةَ والدم ولحم الخنزير، وتناولها في هذه الحال واجبٌ عليه؛ قال مسروق والإمام أحمد - رحمهما الله تعالى -: مَن اضطرَّ إلى أكْل الميتة فلم يأكُل فمات دخل النار، فغاية النظرة والقبلة والضمَّة أنْ تكون محرَّمة، فإذا اضطر العاشق إليها؛ فإن لم تكن واجبةً فلا أقل من أنْ تكون مباحة؛ فهذا قياسٌ واعتبار صحيحٌ، وأين مفسَدة موت العاشق إلى مفسدة ضمِّه ولَمِّه؟!
الرد على هذه الشُّبهة:
يتبيَّن الردُّ على هذه الشُّبهة بذِكر قاعدة: أنَّ الله - سبحانه وتعالى - لم يجعَلْ في العبد اضطرارًا إلى الجِماع؛ بحيث إنْ لم يفعله مات، بخِلاف اضطراره إلى الأكل والشرب واللباس، فإنَّه من قوام البدن الذي إنْ لم يُباشِرْه هلك؛ ولهذا لم يُبِحْ من الوطء الحرام ما أباح من تناول الغذاء والشراب المحرَّم، فإنَّ هذا من قبيل الشهوة واللذَّة التي هي تَتِمَّة وفضلة؛ ولهذا يمكن الإنسان أنْ يعيش طُول عمره بغير تزوُّج وغير تسرٍّ، ولا يمكنه أنْ يعيش بغير طعامٍ ولا شراب؛ ولهذا أمَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الشباب أنْ يُداووا هذه الشَّهوة بالصومِ، وقال تعالى عن عُشَّاق المُردان: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ﴾ [الأعراف: 81]؛ فأخبر أنَّ الباعث على ذلك مجرَّد الشهوة لا الحاجة فضلاً عن الضرورة، والشهوة المجرَّدة لا تلتحقُ بالضروريَّات ولا بالحاجات. وهناك أطعمةٌ وأشربةٌ لا تدعو الضرورة إلى تناوُلها وإن كانت النفس قد تشتَهِيها، فالقُبلة والنظر والضمُّ تشبه في تَعاطِيها تعاطي الفاكهة المضرَّة والزفرة المضرة للمحموم ومَن به مرض يضرُّه معه تناولها، فإذا قال المريض: إنْ لم أتناول ذلك سأموتُ، لم يكن صادقًا في قوله؛ لأنَّ الباعث له على ذلك مجرَّد الشَّهوة وربما إذا تناوله زاد مرَضُه، والطبيب الناصحُ لا يسمح له بذلك فكيف يسمحُ الشارع الذي شريعتُه غاية طبِّ القلوب والأبدان، وبها تُحفَظ صحَّتها وتُدفع موادُّها الفاسدة في تناوُل ما يزيدُ الداء ويُقوِّيه ويمدُّه؟ هذا من المحال، إنَّ الشريعة تأمُر بالابتعاد عن أسباب هذا الداء خوفًا من استِحكامِه وتولُّدِ داء آخَر أصعَب منه.
هذه هي الشبهات وردودها في مسألة النَّظرة إلى الوجه المليح، أورَدْناها وعرضناها (بتصرُّف) كما ذكرها الشيخ ابن القيِّم - رحمه الله.
وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
20-05-2012 / 17:05:11 أحمد عامر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وكفى والصلاة والسلام على النبى المصطفى وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد :
استاذنا العلم الجليل جعل الله لك ما كتبت خالصا لوجهه الكريم وكن لك ثقلاً فى ميزان حسناتك يوم القيامة
اعجبنى المقال كله وبصراحه من الابيات التى لفتت انتباهى هى :
الشُّبهة الخامسة:
ذكر في كتاب "مناقب الشافعي" أنَّ رجلاً كتَب إلى سعيد بن المسيِّب:
يَا سَيِّدَ التَّابِعِينَ وَالبَرَرَهْ = نُسِّيتُ فِي العِشْقِ سُورَةَ البَقَرَهْ
فَكُنْ بِفَتْوَاكَ مُشْفِقًا رَفِقًا = بَاهَى بِكَ اللهُ أَكْرَمَ البَرَرَهْ
هَلْ حَرَّمَ اللهُ لَثْمَ خَدِّ فَتًى = أَوْصَافُهُ بِالجَمَالِ مُشْتَهِرَهْ
فأجابه سعيدٌ:
يَا سَائِلِي عَنْ خَفِيِّ لَوْعَتِهِ = عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ تَحْمِدَنْ أَثَرَهْ
وَلا تَكُنْ طَالِبًا لِفَاحِشَةٍ = أَوْ كَالَّذِي سَاقَ سَيْلُهُ مَطَرَهْ
وَرَاقِبِ اللهَ وَاخْشَ سَطْوَتَهُ = وَخَالِفِ الفَاسِقِينَ وَالفَجَرَهْ
وَقَبِّلِ الخَدَّ مِنْ حَبِيبِكَ ذَا = فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَشَرَهْ
الرد على الشُّبهة:
ما ذكروا عن سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى - فقد أجاب عنه سعيدٌ بنفسه، قال سعيدٌ عن هذا السائل الذي كان من بني كلاب: "إنَّه من أكذب العرب، قيل: كيف يا أبا محمد؟ قال: أليس الذي يقول:
سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ مُفْتِيَ الـ = ـمَدِينَةِ هَلْ فِي حُبِّ دَهْمَاءَ مِنْ وِزْرِ
فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ إِنَّمَا = تُلامُ عَلَى مَا تَسْتَطِيعُ مِنَ الأَمْرِ
كذب والله ما سألني عن شيء من هذا قطُّ ولا أفتيتُه".
وإذا كان هذا جواب سعيد في مثل هذا فما جوابُه لمن سأله أنْ يُقبِّل حبيبًا أجنبيًّا في كلِّ يوم وليلة عشرة؟ فقبَّح الله الفسَقة الكذَّابين على العلماء، لا سيَّما على مثل ابن المسيب، فهؤلاء كلُّهم فسَقة كاذبون، أرادوا نَشْرَ فسقِهم بالكذب على عُلَماء وقتِهم، حتى ولو صَحَّ عن ابن المسيب هذا القول فإنَّ سعيدًا أمَرَه بالصبر أولاً ومُراقبة الله وخوف سَطْوته ومخالفة الفسَقة، ثم أمَرَه بتقبيل خدِّ مَن يحبُّه كلَّ يوم عشر مرَّات، وهذا إنما أراد به قطعًا مَن يحلُّ له تقبيله من زوجةٍ وغيرها، فأراد أنْ يَعْتاض بقُبلتها مَن لا يحلُّ له، ولا يظنُّ بعلماء الإسلام غير هذا إلا مُفرِطٌ في الجهل أو متَّهم بالدِّين.
20-05-2012 / 17:05:11 أحمد عامر