شكري بن عيسى: الثائر الميداني، حينما يصر على مبادئ الثورة
قاهر اعداء الثورة التونسية المشاهدات: 12293
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كم تعرض هذا الرجل إلى مؤامرات حيكت ضده و خانه فيها حتى اقرب الاصدقاء، و كم عانى هذا المناضل من الحيف و الظلم و الكذب البواح، و كم كان ضحية للثلب و الباطل و القذف البين ... لا يصح على مناضل مثله التقينا معا في ميدان الكفاح و الثورة ان يقذف بكل تلك الاباطيل و الاراجيف التي هي للعاقل اوهى من بيت العنكبوت...
لقد عرفته - دون ان نتعارف- في ميدان الصدام و الالتحام و البذل و العطاء، في ميدان الدم وحده الذي لا يتواجد فيه الا الصادقون وحدهم ، ميدان الثورة الشريفة التي قام فيها شعب تونس العظيم على جلاد سخر من اناته و اهان كرامته طيلة نصف قرن...لقد كان شكري بن عيسى احد هؤلاء العظماء و لا يزال ... لم اكن اعرفه قبلها البتة ... لقد شد انتباهي في ذلك اليوم القارس و الممطر من جانفي الثورة و قبيل سويعات من الاقتحام الهمجي لقوات البوليس الغنوشية الحاقدة لاعتصام القصبة واحد. كائنٌ عجيب لا يمت إلى البشر بصلة، بل هو إلى نخبة البشر- عدى الانبياء و الصديقين الاكارم- اقرب ....رجل نحيل البدن غائر العينين من الارهاق، و هو يخفي ارتجاف اعضائه من البرد، لكنه مثبت القدمين رابط الجاش ، و هو يقف بكل اصرار و شموخ ...
لم تكن تبدو على الرجل اي علامات البهرج التي قد تعكس مكانته العلمية و الاجتماعية. فشكري بن عيسى رايته في القصبة واحد و قد خلع كل الحلل و الزينة الزائفة و تزيى بزي الثورة التونسية المجيدة ...كنت و انا مصاب بالرشح و وجع الراس انزل بكل جسمي على الارض، حاملا لافتة تنادي بتغيير النظام، اما هو فقد كان يقف بالجنب على بضعة امتار مني بحيث كنت اسمع كل من يحادثه او يناقشه و كان هو بالمقابل يسمع ما يدور حولي من نقاش، و مع ذلك فكل واحد منا كان منشغلا عن الاخر، اتذكر ايضا لافتته التي كان يحملها و فيها ينادي بتحرير الاعلام كاحد عناوين الثورة المجيدة، و يندد بتواصل السياسة الاعلامية النوفمبرية في التلفزة الرسمية و فروعها ...
كان شكري بن عيسى يقف وحيدا تحت مطر جانفي الثورة، لكنك و انت تنظر اليه تحس ان شعب تونس العظيم يقف كله معه، لقد كان رجل كالف، بل كالف الف... لقد لمست وطنيته على تلك الصدفة و الهياة و دون مخادعة او تزييف و دون زيادة او تحريف، حتى اذا ما عرفته و إلى حد اللحظة يظل شكري بن عيسى هو ذلك الرجل بلا تبديل او تغيير، لم تغيره الاشهر الستة بعد الثورة و لم تعتريه الاطماع .
لقد فرقنا الهجوم البربري الغاشم لقوات القمع النوفمبرية و قتلت من قتلت و جرحت من جرحت و اهانت من اهانت و شردت من شردت، و كانت اخر صورة له في مخيلتي و هو يرفض التكلم إلى احدى القنوات النوفمبرية و يوثر عليها قناتي الجزيرة الصامدة و فرانس 24..لقد نسيت الشخص وقتها تماما لكن ظللنا انا و هو- و لم يفصلنا عن بعضنا البعض سوى امتار عدة - نناضل وسط شارع بورقيبة سابقا عبر المظاهرات و حمل اللافتات؛ حتى كان ذات يوم من فيفري الثورة حين قادتني الصدفة مجددا إلى حيث يناضل، أمام ذلك المسرح الرمز بعد ان تجمع حوله خيرة من ابناء تونس البررة، ثوار الكرامة الذين اتذكر منهم المناضلات:رجاء و امنة و ايناس و سهى و المناضلين منهم المدعو حسن، لم يتركنا القدر هذه المرة كي نتفرق بل ابى الا ان نلتقي معا، ففي معمعة التظاهرة تعارفنا، و كان التعارف نضالا هذه المرة و في قلب المعركة و الثورة في ذلك المكان الذي يتجمع فيه الصادقون والباذلون لدمائهم الزكية لنيل الحرية و الانعتاق من العبودية و نير الظلم، و كانت المعركة التي خضناها وقتئذ لاجل الكرامة و المبدا، حيث تعرض و من معه إلى محاولة استهداف و تشويه و اعتداء من قبل ازلام الداخلية و التجمع المقهور و بيادق اللصوص المنهزمين ...و تمتنت من يومها علاقتنا حتى الان...
ان ما تلمسه و انت تقترب من المناصل شكري بن عيسى، يؤكد لك حقيقته النضالية التي تراها من الخارج، فما يشدك إلى الرجل مبادئه الوطنية الشريفة و سعة وعيه و تنوع ثقافته، كما يفاجئك حرصه على انجاح مسار الثورة و استغلال عامل الوقت و شعوره بضرورة الحيلولة دون سرقتها، و اصراره على فضح اعدائها الكثيرين:الجدد و القدامى، القريبين و البعيدين، الرسميين و غير الرسميين المشهورين و المغمورين، الفاسقين و الفاسدين و اللصوص و السراق المارقين ...و هي صفات لا تكاد تجدها عند من يتكلمون باسم الثورة و الوطنية من سماسرة الاحزاب و الجمعيات و من دعاة الوطنية و من الثعالب السياسية متقمصي زي الثورة و من الطماعين في قطعة من تونس الثورة....لقد وجدت في رفيق الدرب مناضلا يصعب ميلاد مثيل له، من فصيلة اولئك الذين يبذلون لمن حوله كل ماله القليل و كل وقته القصير و يبذل لوطنه كل حماسه و ارداته و عزمه ...
من يومها توطدت العلاقة بيننا و التقى طريقانا و خضنا معا عدة معارك ضد الثورة المضادة كالتدخل الاجنبي الذي يريد مصادرة ثورتنا و طاردنا كلنتون في كل مكان، و اتذكر شجاعة الرفيق شكري و هو يقارع خمسين من البوليس السياسي منعونا من الاقتراب من سفارة الولايات المتحدة و كنا جمع غفير وقتها حيث لم نتجاوز 7السبعة انفار بين ثائرات و ثائرين...
لن انسى ذلك اليوم البارد و الممطر الذي صمدنا فيه كالاسود و ابتلت لافتاتنا ...و كان شكري بن عيسى قائدنا...ثم خضنا معا بعد ذلك عدة مظاهرات امام وزارة الداخلية و كان المناضل الفذ شكري في مقدمتنا، و جاءت القصبة 2 فحضرناها معا و بتنا الليالي الباردة التي كنا نقضيها احيانا على طوى مؤثرين على انفسنا القادمين من الجهات.
ان ما لمسناه خلال الاعتصام 2 ان "الثوار" قد حادوا عن مبادئ ثورتنا المجيدة، و تحولت ما يسمى بـ"لجان الاعتصام" إلى ميليشيا تهدد بالعصا كل من يخالفهم الراي، و تسرب فيهم البوليس السياسي إلى حد النخاع، و اصبح الاعتصام يدار من داخل وزارة الداخلية و من طرف الاحزاب و المنظمات و فقد الشعب مصيره فيه و فقد الاعتصام معناه و انقسم الحاضرون فرقا فرقا و جهات جهات و احزابا احزابا و اطماعا اطماعا و ظل شكري بن عيسى - و مثله ظللت - على استقلال تام لم يهزه الطمع إلى منصب او مال او مقعد ..
ثم جاء انفضاض القصبة 2 بعد الخطاب الماكر للباجي قايد السبسي ، و صدقت رؤية شكري بن عيسى بان انهاءه يعد ضربة موجعة في خاصرة الثورة ، و دعونا إلى عدم انهائه... و قد تصدى الاخ شكري لمناورة فض الاعتصام قولا اولا ثم تلاه ببيان وضح فيه اخطار فكه، و هو ما لم يكن يعجب السلطة و ميليشيا الاعتصام، فما كان من شرذمة من الضالين الجاهلين الحقودين الا ان قامت بكيل الاتهام له و التهديد لذاته و الصاق تهمة الخيانة له ..لكن صدقت الايام رؤيته، حيث انطفأ بريق الثورة، و ظلت مطالبنا في ايدي حكومة تفعل بنا ما تشاء في غياب تام لوسائل ضغط فعلية و مباشرة، و مد الطامعون ايديهم إلى الثورة و اخذوها بلا حياء؛ و ندم المغالطون... و هاهم الان يتمنون لو لم يفك الاعتصام و يتحسرون على ايام الثورة الخوالي ...
لقد ظل كلام شكري بن عيسى يخاطب جدران القصبة بفساد فك الاعتصام و امكانية خطره على مسار الثورة و لم يستجب لموقفه سوى نخبة قليلة من الثوار..اما الاخرون ازلام الجهل و السلطة و المنافع الشخصية فقد شحذوا له السنتهم و بسطوا فيه القذف و الذم ...ثم جاءت القصبة 3 في مرحلتيها الاولى و الثانية، و كان شكري بن عيسى من اول المتقدمين....و ظللنا نقارع معا محاولات النيل من الثورة و تفريق الثوار، فكانت مؤامرة تربة الباي التي قدمت خدمة جليلة للداخلية و لاعداء الثورة حيث افرغت شارع بورقيبة من نصف مناضليه، و لما فشلت المحاولة دب الياس في قلوب الكثيرين، فتسرب إلى البعض فكرة ان الثورة انتهت و ان لا بد من التصرف؟؟؟ فلحق الكثير بالجمعيات و الاحزاب، و غازلوا اعداء الامس اعداء اليوم، كحزب الوطن التجمعي الذي طالما نادينا بحله.ثم جاءت مظاهرات الاسبوع الاول من ماي الدامية، و حملت الداخلية على المناضلين و المناضلات، و عاد القمع النوفمبري من جديد...و لم يفل ذلك من عضدنا و لم نرهب الة العنف الورقية ....ثم تلا ذلك ما يسمى بـ" اعتصام المصير" في مكان كان المناضل شكري بن عيسى قد اقترحه و ثلة ممن معه في شهر مارس ليكون نقطة ارتكاز و تواصل ، لكن شراذم الثورجيين رفضوا الاقتراح في ذلك الوقت...ثم اقتنعوا به بعد ذلك تحت ضغط الشارع المتبرم من مماطلة الحكومة ..و قد تغير الامر بين شهري مارس و جوان ، فلا المكان و لا الزمان يتماشيان مع طبيعة الفترة، و مع ذلك ارتاى السيد شكري بن عيسى ضرورة المساندة و المشاركة و التشجيع، و قد صدق حدسي هذه المرة لما نصحته بعدم المشاركة في الاعتصام، لان العناصر التي تتقدمه لا يمكنها ان تصنع ربيعا ثوريا، باعتبار عدم قدرتها على القيادة و اختراقها من قبل الاحزاب و الداخلية مما يتعارض و توجهاتنا المستقلة... لذلك كانت مفاجاته كبيرة حين وجد العناصر الثورجية تركب يلا حياء الاعتصام و تحتكر القرار– رغم قلة عددها – و تفعل الافاعيل في الساحة من سكر وضجيج و تفسخ اخلاقي و لعب الكرة و الورق مع بعدها التام عن كل برنامج ثوري، و هي بعد شهر تقريبا من بدء الاعتصام لم تتقدم قيد انملة واحدة في ما سمته برنامج الاعتصام، بل ظل هؤلاء الثورجيون لاهين عن الثورة، ياكلون و يشربون و رقصون و يلعبون و يتشاجرون و يتصدون لكل من ينتقدهم او يقول فيهم كلمة حق...
ليس من شيم المناضل شكري بن عيسى الصمت المتواطئ ازاء هذه الممارسات، فحاول مرارا اصلاح مسار الاعتصام، لكن شراذم اليسار الضال و التجمعيين الجدد و ازلام الداخلية حالوا دون الاصلاح، ليظل الاعتصام بلا هدف و تعطى الضربة القاضية للثورة ....في الاخير اصدر الرفيق شكري بن عيسى بيانا ندد به بممارسات الاقصاء و بقناصة الفرص و المال المتعسفين على الثورة و المنفذين لبرنامج السلطة...فما كان من هذه الشرذمة الضالة المضلة من الثورجيين الا ان كالوا له التهم الكاذبة و الاشاعات المغرضة ، لكونه فضحهم و عرى اطماعهم و ممارساتهم، ثم هددوه ان لم يغادر الاعتصام ....و لم يكن المناضل شكري وحده في موقفه من الثورجيين بل كانت معه زمرة من المناضلين الشرفاء الذين كنا قد خضنا معا عديد المعارك...فاعلنوا انسحابهم من الاعتصام منددين بممارسات بيادق المصلحة و اللذائذ ....
ان المؤامرة التي يتعرض اليها الان المناضل الشريف شكري بن عيسى لن تزيده و لن تزيدنا سوى قوة و اصرارا على المضي في المسار الصحيح للثورة، و هي لا تعدو ان تكون سوى مؤامرة على كل الشرفاء و الشهداء، انها مؤامرة على ثورتنا المجيدة بعد ان افتضحت ولاءات هذه الشراذم من الثورجيين ....لا يصح ابدا ان نسدي التهم الكاذبة جزافا لرجل ترك حياته الشخصية جانبا و انغمس في حب الثورة و الوطن ....ان من يكره شكري بن عيسى لن يكون الا احد اثنين : اما جاهلا مغالطا او منافقا زنديقا و خائنا للوطن و الثورة .... فشكري بن عيسى لم يخن الثورة ابدا....و لن يخونها مستقبلا ....
عاشت تونس عاش شعبها المناضل المجد و الخلود لشهدائها الابرار و انها لثورة حتى النصر
--------------
وقع التصرف في العنوان الأصلي كما وردنا، كما وقع تحوير طفيف على إسم كاتب المقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: