(86) الحداثة: مخرج اليهود إلى ما يسمى بالإسلام المعتدل
د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7504
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
"الحداثة"، وما يُسمَّى بـ "الإسلام المتطرِّف"، وما يرتبط به من مصطلحات، مثل "الإسلاموية"، و"الإسلامويون"، وما يُسمَّى بـ "الإسلام المعتدل"، كلها مجموعة مفاهيم تفرض نفسها عند التعرُّض لعلاقة الإسلام بالغرب بصفة عامة، وباليهود بصفة خاصة، وهى تحتاج إلى بعضٍ من الإيضاح.
ظهر مفهوم الحداثة لأول مرة في عام 1945 مرتبطًا بفن العمارة؛ حيث كانت تعني الخروج على كلِّ ما هو نمطي ومألوف برؤية ثورية تعيد صياغة العمارة؛ باعتبارها نشاطًا فنيًّا وإنسانيًّا يتمتع بحرية تامة، ولا تحدُّه قيودٌ، فأن تبنى بيتًا - على سبيل المثال - تتقيد فيه بمبدأ انفصال الرجال عن النساء مثلاً، هذا أمر تقليدي، يختلف عن بنائك للبيت نفسه وأنت حرٌّ من هذا القيد، فهنا تكمُن الحداثة.
امتد هذا المفهوم كغيره من المفاهيم إلى ميادين الحياة الأخرى، فأعيد تعريفه ليعني: وجهة نظر خاصة تدور حول إمكانات الحياة الاجتماعية البشرية، تجد جذورها في التنوير، وتتأسَّس على الإيمان بالتفكير العقلاني، ومن ثَمَّ تنظر إلى الحقيقة والجمال والأخلاق كحقائق موضوعية، يمكن اكتشافها ومعرفتها وفَهمها من خلال التفكير العقلاني، والوسائل العلمية، وليس عن طريق الدِّين.
المجالات الثقافية المختلفة من المنظور الحداثي تتمايز، ويستقل بعضها عن بعض استقلالاً تامًّا؛ بحيث ينفصل كلُّ مجالٍ عن غيره، ويضع لنفسه معاييره حسب طبيعته ذاتها، وليس من أيِّ شيءٍ خارجها؛ بحيث يكون هناك تمايز واضح بين الثقافة العلمانية، والثقافة الدينية، وهذا يعني أنه لا ارتباط بين الدِّين من ناحية، والتعليم أو الفن، أو السياسة، أو الاقتصاد من ناحية أخرى، فلا يستطيع الدين أن يفرض معاييرَه على الفن أو السياسة أو الاقتصاد؛ ففي مجال الفن: يلزمك ألا تحكم على انتفاء الحياء في أدب "نجيب محفوظ" - على سبيل المثال - من زاوية الدين، بل على أساس أنه إبداع فنيٌّ يرسم صورة الحياة في عصر معيَّن، أما في مجال السياسة، فلا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، وفي مجال الاقتصاد: لا تحكم على التعاملات الاقتصادية من باب "أحل الله البيع وحرَّم الرِّبا"، ولكن من باب أن الرِّبا نظام عالمي تقتضيه الحداثة، ولا مَفَرَّ منه ... وهكذا.
ورغم أن الحداثة تهتم بالأخلاق، لكنها الأخلاق التي لا تستند إلى الدين، ولا يفرض الدين معاييره عليها؛ لأنها من المنظور الحداثي تقوم على قوانين الطبيعة أو العقل.
ومن ناحية أخرى تُعرِّف "الموسوعة البريطانية" الحداثة بأنها: حركة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، تدعو إلى إعادة تفسير التعاليم الكاثوليكية التقليدية في ضوء النظريات التاريخية والفلسفية والنفسية، وتدعو إلى حرية الضمير، وترى أن العهدين القديم والجديد مقيَّدان بزمانهما، وأن هناك تطورًا في تاريخ الديانة الإنجيليَّة.
تبنَّى المثقفون العرب هذا المفهوم للحداثة، واعترف بعضهم بعدم فصل الحداثة العربية عن الحداثة الغربية، ونظروا إلى الحداثة على أنها وحدة متجانسة مشعة عالميًّا من الغرب، ولهذا حاولوا إسقاط الفَهم الغربي للحداثة على الإسلام والقرآن؛ فقاموا بتفسير الإسلام في ضوء النظريات التاريخية والفلسفية والاجتماعية، التي تقوم أصلاً على أساس إلحادي فوقي للدين، كما نظروا إلى الإسلام والقرآن على أنهما مقيدان بفترة تاريخية معينة لا تمتدُّ إلى غيرها، وقام العديد منهم بإحداث ما يُسمَّى بـ"الإصلاح والتجديد" في الإسلام وَفْق هذه النظريات، مُطلِقًا لنفسه حرية التفسير دون أدنى التزام بأيِّ ثوابت عقدية، وتعبِّر "الموسوعة الأمريكية" عن هذا الموقف العدائي للحداثة من الدين بصورة أشد وضوحًا، فتقول: "إن الحداثة نظرة تقوم على الاقتناع بأن العلم والتقدُّم العِلمي الحديث يتطلب إعادة تقويم أساسي للعقائد التقليدية"، ومن ثَمَّ لا يُنظر إلى الدين على أنه صياغة دقيقة لسلطة جديرة باعتماد وقبول الحقائق المنزلة من الله، وإنما يُنظر إليه على أنه مقولات لمشاعر وخبرات دينية عاشها بعض الرجال عبر حقبة تاريخية معينة، وعلى هذا الأساس تكون الحقائق الدينية عُرْضةً لعملية تطوير مستمر كجزء من الخبرة المتقدمة للجنس البشري، وتستلزم هذه العملية إدخال مفاهيم عديدة وجديدة كشيءٍ ضروري؛ للتعبير عن الفكر والتقدُّم الحديث؛ فالوحي مثلاً في مفهوم الحداثة مجرَّد خبرة حِسيَّة لمجموعة حقائق عن "الله" أكثر منها موضع اتصال لحقيقة شاملة من الله.
أما موسوعة "نيو كولومبيا"، فهي ترى أن الله - تعالى - في "مفهوم الحداثة" ليس فوق الوجود المادي، ويقرُّ "جون ديوي" في "الموسوعة الأكاديمية الأمريكية" بأن مصطلح "الحداثة" في العصر الحديث اسْتُخْدِمَ لنقد الدين بصفة عامة، وإلى الفرار مما يُسمَّى "بالدوجما"؛ أي: العقيدة الراسخة التي لا يستطيع الإنسان أن يحيد عنها، وإلا اتُّهم بالكفر أو بمعاداة المجتمع، وتفتح المجال للعقل؛ للتمحيص والوصول إلى اليقين، كما تنطوي الحداثة على فكرة "نسبية المعرفة"، وترفض النظرة التي ترى أن العلم يقوم على أساس صُلب من الحقائق المتيقنة التي يمكن للحواس ملاحظتها.
ويرى "محمد الحارثي" في تحليله الدقيق لتأثير الحداثة الغربية على الخطاب الحداثي العربي: أن "طه حسين" هو المؤسس الحقيقي للخطاب الحداثي العربي، وواضع منطلقاته الفكرية، والعناصر الواضحة في أصول الخطاب الحداثي العربي عند "طه حسين" هي: التشكيك في المقدس الديني، والتشويش عليه، والدعوة إلى التحول من فِكر قديم إلى فِكر حديث يحكمه شرط المعاصرة، يقوم على نشاط العقل العملي، ويعتمد البرهان؛ مما يسهم في قطع الوشائج بين العلم والدين إذا أُريد للعلم أن ينجح، وإعادة قراءة النص الديني من خلال معطيات العصر؛ من حيث مواجهة النص الديني بالواقع.
كان "طه حسين" يقول نفس ما قاله الغربيون من أن الإسلام كان متأثرًا بالتوراة والإنجيل، فاتَّهم القرآن بأنه قد تعمَّد طَمْس ذِكْر الأديان السابقة، ورأى أن القصص القرآني يحتمل أكثر من فَهم، وأكثر من توجيه قرائي، ورأى كذلك أن العرب ليست لديهم القدرة على الابتكار، وأن غير العرب هم الأقدر على صُنْع المدنية، وأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا يصلحان أساسًا للوحدة السياسيَّة، ولا قِوامًا لتكوين الدول، وأن نظام الحكم، وقيام الدول وتكوينها يقومان على المنافع العملية قبل أيِّ شيءٍ آخر، وعلى هذا الأساس يكون الدين شيئًا والسياسة شيئًا آخر، وهذا هو ما تقوم عليه الحياة الحديثة في أوروبا.
كان "طه حسين" - كما يقول "الحارثي" - يعتدّ بالصوت الأحادي، ويصادر ما عداه، ويطرح كلَّ قيمة ثابتة، من هنا اكتسب مفهوم "الحداثة" شكلاً جديدًا غير ذلك الذي كان عند القدماء الذين نظروا إليها على أنها "التجديد"؛ بمعنى "تنبيه الناس لما غفلوا عنه من أمور دينهم"؛ كما جاء في الحديث: ((يبعث الله على رأس كل مائة سنة مَن يجدد على الناس أمر دينهم)).
حوَّل "طه حسين" مفهوم "الحداثة"؛ ليصبح "البحث عن طرائق التحول من معرفة إلى معرفة، ومن مدنيَّة إلى أخرى"، ويذكر "محمد قطب" أن "طه حسين" لم يتخلَّ عن آرائه هذه حتى عام واحد قبل وفاته.
وحين نقل الباحثون العرب مفهوم الحداثة الغربي إلى المنطقة العربية، لم يُفَرِّغوه من مضامينه الأيديولوجية المتمثلة في فلسفة التنوير الفرنسيَّة التي كانت ترى: "أن الهدم هو طريق البناء، وأن هذا الهدم ينبغي أن يبدأ من رفض المقدس الديني أيًّا كان مصدره، وتمجيد الحقيقة العلمية"، ولهذا كانوا يروِّجون لمضامين مَسَّت الْمُسَلَّمات، وهزَّت الخصوصيات اليقينيَّة، وتستَّر بعضٌ منهم وراء الأدب، والشعر، والنثر؛ لزعزعة ما هو يقيني في الذاكرة العربية، وتحويل الذائقة العربية عن تراكماتها الحسية التي تأصَّلت منذ أكثر من خمسة عشر قرنًا؛ فاعتبر بعضهم - كما يقول الحارثي - الكتابة القرآنية نصًّا لغويًّا خارجًا من كل بُعْد ديني، ويجب أن يُقْرأ كما يُقرأ أيُّ نصٍّ أدبي، وحاولوا إعادة الخطاب الشعري العربي؛ بحيث يتمرَّد على الماثل من القِيَم عن طريق الخروج على ضوابط البيان العربي، وقوانين اللغة المعيارية في نحوها، وصرفها، وبلاغتها، ثم تُستغل في تعضيد دعاوى التغيير في نمط التفكير، وفي أصول المرجعية العربية.
أصبحت "الحداثة" وَفْقًا لهذه الغايات رفضًا صريحًا للقديم عامة، والديني خاصة، وانقطاعًا عنه؛ فكل قيمة تراثية دينية، وغير دينية، لغوية، وإيقاعية، ومعرفية، وأدبية - لا بُدَّ من رفضها؛ للوصول إلى التغيير في الفكر وفي الحياة، وهو تغيير لا يقتصر على هدم تقاليد الأدب العربي، واستنبات تقاليد جديدة، ولكنه دعوة إلى تغيير شمولي في مناشط الحياة جميعها وفقًا لمبدأ "الهدم طريق البناء"، هذا هو خلاصة ما انتهى إليه "محمد الحارثي" في تحليلاته للحداثة العربية في علاقتها بالحداثة الغربية.
انظر مقالتنا: الأساس الإلحادي للمفاهيم الغربية:www.myportail.com/actualites-news-web-2-0.php?id
كان لا بد من هذا العرض التفصيلي لفكرة الحداثة؛ لبيان خطرها على عقيدة الإسلام، وقرآنه، وسُنَّته، ولغته، وأدبه، وكيف اعتمد أعداء الإسلام عليها كمدخل لهدم ذلك كله.
أما ما يُسمَّى بـ "الإسلام المعتدل"، فقد اهتمَّ الباحث الأمريكي اليهودي المعروف "دانييل بايبز" - وهو أحد المختصين في شؤون الشرق الأوسط - بمحاولة إيجاد حلٍّ لما يُسمَّى بمشكلة "الإسلام المتطرِّف"، وانتهى إلى أن إحلال ما يسمى بـ "الإسلام المعتدل" محل هذا "الإسلام المتطرف" هو أنجع الحلول، ولكن السؤال الذي اهتم به الباحثون اليهود الآخرون هو: من هم هؤلاء المسلمون المعتدلون؟ وأين يوجدون؟
تبنى الكاتب اليهودي "عساف روميروسكي" - عضو منتدى الشرق الأوسط، ومدير شؤون الشرق الأوسط وإسرائيل في الفيدرالية اليهودية "لفيلاديلفيا الكُبرى" - وجهة نظر "بايبز" السابقة، كما تبنَّى أيضًا تعريفه لما أطلق عليه "الإسلاموية" و"الإسلامويون"، يُعرِّف "بايبز" الإسلاموية بأنها: "هذه النسخة اليوتوبيَّة المتطرِّفة للإسلام، ويرى "بايبز" أن "الإسلامويين" هم الذين يتبنون هذه " الإسلاموية"، وهم في نظره جماعة ممولة جيِّدًا ومنتشرة، تحكمها أيديولوجية شمولية، وتسعى إلى تأسيس نظام إسلامي عالمي.
ومصطلح "الإسلاموية" - كما يراه الدكتور "عوض القرني" - مصطلح أطلقه غُلاة ومتطرفو العَلمانية في العالم الإسلامي على الإسلاميين، يقول الدكتور "القرني": "إن هذا المصطلح انعكاس للرؤية الغربية للدين النصراني، وبالتالي لكلِّ دينٍ، فالنصرانية في طبيعتها ديانة شعائرية، لا شأن لها بالجوانب الحياتية الدنيوية، وبالتالي فكلُّ مَن له رؤية ومذهب حياتي له تجلِّيات سياسية واجتماعية واقتصادية، وله منطلقات فلسفية حول قضايا الوجود الكبرى، فهو صاحب رؤية أيديولوجية مُعيَّنة، وحين أخذ الإسلاميون - في مواجهة الاجتياح الاستعماري الغربي - يطالبون بإعادة الاعتبار لدور الإسلام في الحياة على اعتبار أنه دين ودنيا، رفض المستغربون في العالم الإسلامي هذا الفَهم، وأصرُّوا على أن الدين شعائر فقط، وأن محاولة إعادة الاعتبار لدوره في الحياة هي أَدْلَجَة لا صلة لها بالدين، فأطلقوا على دُعاة الإسلام "إسلامويين"، وعلى برنامجهم "إسلاموية"؛ انظر: بدر الراشد؛ "الإسلاموية والإسلامويون بين إيجابية الدلالة وسوء الاستخدام"؛ موقع جسد الثقافة.
يرى "بايبز"، و"عساف" أن تطور الإسلام من إسلام متطرِّف إلى إسلام معتدل يتطلب الآتي:
أولاً: رفض الجهاد كوسيلة لفرض الحكم الإسلامي.
ثانيًا: رفض العمليات الاستشهادية.
ثالثًا: رفض أن يكون غير المسلمين مواطنين من الدرجة الثانية في بلاد الإسلام.
رابعًا: رفض عقاب الزُّناة بالقتل، ورفض عقاب الفتيات اللواتي وقعن في جريمة زنا بالقتل، أو ما يُسمَّى بالقتل من أجل الشرف.
خامسًا: رفض توقيع عقوبة القتل على مَن يسبُّون الدين، أو مَن يرتَدُّون عن الإسلام.
سادسًا - وهو الأهم -: أن يتبنَّى المسلمون نفس نمط الحداثة الذي يعيشه اليهود والنصارى؛ بمعنى أنهم لا يشعرون بالتناقض بين كونهم يحافظون على أداء شعائرهم الدينية، ويعيشون في مجتمع عصري مهما اتفقت أو اختلفت حياة هذا المجتمع مع مُسَلَّمات هذا الدين.
الواقع هو أن غالبية دول العالم الإسلامي تعيش في الواقع هذا النمط العصري من الحداثة، لكن "عساف" لا يعجبه ذلك؛ لأن الإسلام في أساسياته وما يسميه بـ "عدوانيته" لا تزال له اليد الطولى في هذه الدول، والمطلوب في نظره هو ألا تكون الغالبية في بلاد الإسلام لهؤلاء الذين يسمون بـ"الإسلامويين"، وإنما للمسلمين المعتدلين بالمفهوم الغربي.
المطلوب إذًا هو تطوير الإسلام الحقيقى المنبثق من كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يخافه اليهود والغرب، ويطلقون عليه "الإسلام المتطرِّف" إلى نوع آخر من الإسلام، وهو ما يُسمُّونه بـ"الإسلام المعتدل"، وأن أهم السُّبل لتحقيق هذا التطوير هو "الحداثة".
نعود للسؤال الذي طرحه "عساف": من هم هؤلاء المسلمون المعتدلون؟ وأين يوجدون؟
يحكي "عساف" أن رجل أعمال من أصدقائه يُدْعَى "جيري سوركن" كان يتجوَّل في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هو الذي لفت انتباهه إلى كَنْزٍ ثمين خَفِيٍّ كامنٍ في أحد بلاد شمال إفريقيا، يقول "سوركن": "لقد زرت هذا البلد منذ خمسة وعشرين عامًا، وهناك ركبت تاكسيًا، وضع السائق عداد الكيلومترات، وعند انتهاء جولتي معه دفعت له الأجرة، وأعطاني الباقي، أدركت بعد هذه الجولة أن شيئًا جديدًا قد حدث لم ألمسه من قبل في العديد من زياراتي السابقة لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لاحظت وجود تيار دائم من التناقضات في هذا البلد، سمح لي أن أقول: إن هذا البلد قد حطَّم التصور الذي كان سائدًا عند الشعوب الغربية عن العالم العربي والإسلامي، نحن في الغرب - وخاصة إدارتنا الحالية - يجب أن تنظر إلى هذا البلد على أنه - وإن كان بعيدًا عن الكمال - يمكن أن يكون جسرًا مدهشًا بين الأمريكيين والعالم الإسلامي، إن إنجازاته في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وانخفاض نسبة الأُميَّة والفقر فيه - يجعله صالحًا لأن يكون نموذجًا يمكن أن تطمح إليه سائر الدول الأخرى في المنطقة".
سافر "عساف" لزيارة هذا البلد الصغير الجميل على حدِّ وصفه، وأكد ما قاله صديقه "سوركن" من أن هذا البلد وإن لم يحقق الكمال بعد، فإن استقراره السياسي، وتركيبته العربية - الغربية، وسياسته الاقتصادية، تجعله نموذجًا يصلح أن تحتذي به دول الشرق الأوسط، يقول "عساف": "لقد حقق هذا البلد توازنًا، وأن الحفاظ على هذا التوازن يتطلب المزيد من التطور؛ ليكون نموذجًا تسير على هَدْيِه باقي دول شمال إفريقيا؛ لتصبح بوابة للحداثة، وإذا استطعنا تَكْرَار تطبيق هذا النموذج، ستكون هناك فرصة كبيرة لنرى المزيد من التغيرات في العالم الإسلامي.
إن على المهتمين بشؤون العالم الإسلامي أن يشدُّوا عَضُدَ هذا البلد المنفتح على الغرب؛ سواء من ناحية السلوك، أو من ناحية المشاعر، إن الشعب في هذا البلد سعيد بنمط حياته هذه، ولا يرغب أن يحمل دينه على علم يمثِّل أيديولوجية هذا الدين، إن هذا البلد يستطيع أن يقدِّم الكثير للغرب، وعلينا أن نحتضنه، إن على رئيس "الولايات المتحدة" أن يضع في اعتباره إذا أراد أن يكسب الحرب على الإرهاب، أن يبحث عن هؤلاء المسلمين المعتدلين الذين يريدون مواجهة الإسلام المتطرِّف، إننا في أشد الحاجة إلى مثل هذا البلد؛ لكي يتأكد العامة من الناس أن "الإسلامويين" ليسوا هم الغالبية".
يتضح مما سبق أن الهدف الأساس لليهود من تدعيم "الحداثة" في العالم الإسلامي هو ما عبَّر عنه "عساف" بقوله: ألا يحمل المسلمون دينهم على علم يعبِّرون به عن عقيدتهم، ولكن ما هي هذه العوامل التي يمكن عن طريقها منع ذلك الكابوس؛ بحيث تتحرك البلاد في نفس الوقت نحو الاعتدال والحداثة في منطقة مهددة على الدوام "بالإسلاموية" وعدم الاستقرار، والتي من شأنها أن تهدد أمن اليهود وإسرائيل؟
هناك عدة عوامل يمكن إيجازها على النحو التالي:
أولاً: أن سنوات من الدراسة والمعيشة في بلاد الغرب لقادة البلاد الإسلامية تجعلهم يتشرَّبون مخططًا تفصيليًّا للفكر والمنطق الغربي، يسمح لهم فيما بعد بتبنِّي فكرة أن "إسرائيل" قد أصبحت واقعًا يجب الاعتراف به والتعامل معه، وإلغاء فكرة إلقاء "إسرائيل" في البحر، ومن ثَمَّ الدفاع عن بقائها، والدعوة إلى ما يسمَّى: بالسلام العادل بينها وبين العرب، وهذا ما حدث واقعيًّا.
ثانيًا: أن قدرة القيادة السياسية العربية على مراوغة معارضيها بالتزاوج مع سياسة القَمع الأمني، والتحكُّم في الإعلام - يسمح لها بالبقاء في السلطة لمدة أطول، وهذا لصالح اليهود وإسرائيل.
ثالثًا: أن القيام بالعديد من الإصلاحات والإجراءات في البلاد، مثل: الفصل الحاسم بين الدين والسياسة، ومنع تشكيل أحزاب على أُسس دينية، واتِّخاذ إجراءات صارمة ضد الحركات الإسلامية الكُبرى وزعمائها، وكل مَن يحمل ميولاً إسلامية، وعلامة ذلك ندرة مشاهدة المظاهر الإسلامية؛ كإطلاق اللِّحَى، وارتداء النقاب، هذا بالإضافة إلى تعزيز حرية المرأة، وتوسيع حقوق النساء، وتعزيز قوانين الأحوال الشخصية، وإن تحدَّت التقاليد وعارضت الشريعة الإسلامية، كلُّ هذا يصبُّ في صالح اليهود وإسرائيل أيضًا.
رابعًا: التطوير الهادئ والناجح لبيئة تسمح بوجود تعايش بين اليهود والنصارى والمسلمين، تكون فيه الحداثة هى القاسم المشترك لهذا التعايش؛ بمعنى عدم تدخل الدين في مجريات الحياة اليومية للناس.
خامسًا: الاهتمام بالاحتفالات الوطنية التي مِن شأنها أن ترسي ما يُسمَّى بقِيَم التسامح الديني، وقبول الاختلافات الدينية والثقافية.
سادسًا: الاحتفاء بالتأثيرات الفينيقيَّة والرومانيَّة واليهودية والأوروبيَّة، بالإضافة إلى التأثيرات العربية التي ما زالت تؤثِّر على ثقافة البلاد.
أشار "عساف" إلى عِدة نقاط هامة تبرز إلى حدٍّ كبير نجاح هذه "الحداثة" في حماية اليهود وإسرائيل، يقول "عساف" مشيرًا إلى هذا البلد الذي يعتبر في نظره نموذجًا للحداثة في شمال إفريقيا: "الذي أدهشني هو أن هذا البلد شأنه شأن الدول الأوروبية فخور بمواطنيه اليهود، وبإرثه اليهودي، ولكنه يكره إسرائيل التي يرونها تجسيدًا للشرِّ، لكن هذا العداء لإسرائيل لم يمنع هذه البلد من أن يرى أن نموذجه في التعايش يساعد على إنشاء السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لا يمكن القول بأن هذا البلد يخلو من مشاعر معاداة السامية أو العمليات الإرهابية، فقد حدثت فعلاً مثل هذه العمليات، لقد ارتفعت أصوات معاداة السامية، ومعاداة إسرائيل خلال حرب الأيام الستة، لكنَّ زعماء هذا البلد تحركوا على الفور؛ لقمع العنف، ولضمان أمن اليهود، لقد وجد زعماء هذا البلد أنه من المنطقي الدفاع عن إسرائيل حتى بعد الانتصار الإسرائيلي في حرب الأيام الستة، بينما كان القادة العرب الآخرون يطلبون الانتقام من إسرائيل، إن الواقعية التي تميز بها زعماء هذا البلد كانت لها آثارها السياسة الخَلاَّقة، فقد كانوا يتعاملون مع قضية إسرائيل بمراوغة فائقة، يؤيدون حق إسرائيل في الوجود، في الوقت الذي أرسلوا فيه قوات تحارب إلى جانب إخوانهم العرب في حرب يوم كيبور".
الواقع هو أن هذه "الحداثة" ليست إلا مظهرًا من مظاهر الدعوات العالمية التي تروِّجها الصِّهْيَونية في الشرق والغرب؛ بقصد مَحو كلِّ أنواع العصبية؛ دينية كانت أو جنسية؛ حتى يتحول العالم إلى قطعان من الهَمَل لا تربطهم رابطة، فيسهل على القلة اليهودية أن تسوقه سوقَ الأغنام على حدِّ قول الدكتور"محمد محمد حسين".
انظرمقالاتنا:
(1) جرثومة اليهود وانهيار الأمة : صنوان لا يفترقان.
(2) الفلاحون والنوبيون المصريون: لماذا يخشاهم اليهود؟
(3) الدكتور المسيري: مع اليهود أم ضد اليهود؟
المصدر الأساس:
Asaf Romirowsky, Modernity Starts Here …… , Middle East Times , August 19, 2008
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: