البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

تجفيف المنابع

كاتب المقال د . محمد يحيى   
 المشاهدات: 9906



سمعنا عن مفهوم تجفيف المنابع منذ أوائل الثمانينيات، عندما أخذت السلطات في بلد عربي صغير نسبيًا في المغرب العربي في اتباع سياسة ترمي إلى تضييق الحصار، وخنق الأفكار التي تروج أو تتداول بين الجماعات الإسلامية، وذلك من خلال السيطرة على المساجد، وإغلاقها إن تطلب الأمر والرقابة الصارمة على المطبوعات، وتعديل المناهج التعليمية، وإلغاء المعاهد الدينية أو حصر نشاطها في مجرد تعليم العبادات دون المعاملات أو العقيدة، وما إلى ذلك من الإجراءات التي وصفت كلها بأنها تستهدف منع الأفكار من الوصول إلى الجمهور المسلم في ذلك البلد، وهي الأفكار التي وصفت بأنها متطرفة على رغم أنها أفكار تدور حول العقائد الإسلامية والعبادات والمعاملات والتاريخ الإسلامي، وقبل كل شيء تتصل بالشريعة وتتصل بموقف الإسلام من الحياة ومن الأمور الجارية.

وقد انتشر تعبير تجفيف المنابع بعدها ليعم بلدانًا عربية أخرى صارت في هذا المجال صوتًا أبعد إلى حد أنها تفوقت على البلد العربي الصغير الذي نشأت فيه هذه الفكرة أول مرة، ولكن المتابع لمجريات الأحداث يتبين له أن هذه الفكرة لم تنشأ أصلًا في هذا البلد العربي الصغير أو في البلدان العربية والإسلامية الأكبر التي صارت مساره حتى باكستان مثلًا، التي أصدر رئيسها السابق مشرف قرارًا منذ سنوات قليلة يمنع فيه المدارس والمعاهد الدينية، ولاسيما ما كان يتبع منها بعض الجماعات الإسلامية الكبرى.

إن فكرة تجفيف المنابع هي فكرة نشأت أصلًا في الغرب ومارسها الغرب بنجاح أو بتفوق منذ عهود بعيدة، ولعلنا إذا اكتفينا فقط بالعودة في الماضي إلى زمن الحرب العالمية الثانية سوف نجد العجب العجاب، فبعد هزيمة ألمانيا في تلك الحرب وأيضًا بعد هزيمة اليابان، جلس القادة العسكريون الأمريكيون وأقول القادة العسكريون، وليس الساسة، أو أصحاب الفكر أو غيرهم من القواد في الأمة الأمريكية.

جلسوا هؤلاء العسكريون لكي يبحثوا في طرق يتمكنوا بها من اقتلاع الأفكار التي وصفت بأنها متطرفة، والتي تدور حول القومية الألمانية أو القومية اليابانية، وفي البداية كانت الدعوة المعلنة من جانب هؤلاء العسكريين أنهم يريدون اجتثاث جذور النازية، أو القومية اليابانية العنصرية المتطرفة، ولكن مع تطور الوقت ثبت أن ما يفكر فيه هؤلاء القادة العسكريون إنما هو اجتثاث واقتلاع الهوية الألمانية واليابانية نفسها، وإحلال هوية أمريكية محلها حتى على حساب الهوية العريقة، وأقصد الألمانية التي غذت في السابق الهوية الأمريكية نفسها وساعدت في تكوين بعض جوانبها من خلال الأفكار الفلسفية والأدبية والسياسية والاقتصادية، التي انتقلت من ألمانيا إلى أمريكا على مدى القرن التاسع عشر وما بعده.

أما بالنسبة لليابان، فقد كان الأمر واضحًا، وهو أن مفهوم تجفيف المنابع لا يقتصر على منع بعض الأفكار القومية المتطرفة هنا وهناك، بل أنه يمتد إلى أمركة الحياة اليابانية بالكامل وأمركة الدولة والشعب، وإعادة صياغتهما على النموذج الأمريكي والغربي عمومًا في أشد توجهاته سوءًا نحو الاستهلاك، ونحو الرأسمالية الجامحة بلا ضوابط، ولم يتوقف مفهوم تجفيف المنابع عند ألمانيا واليابان المهزومتين في الحرب العالمية، بل إنه امتد في السنوات الأخيرة إلى الكتلة الشرقية السابقة، حيث بدأت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الاشتراكية عملية واسعة من أوربة وأمركة هذه البلدان حتى وصولًا إلى فرض مذهب ديني مسيحي عليها يخالف مذهبها الأصلي، وهو الأرثوذوكسي.

فبالتالي نشأت جماعات التبشير والتنصير التي تحول أتباع المذهب الأرثوذوكسي في روسيا وفي أوروبا الشرقية إلى المذاهب البروتستنتية المختلفة، بل وأيضًا إلى المذهب الكاثوليكي الذي نشطت كنيسته في هذا الصدد، وبالطبع فإن هذه الأنشطة التبشيرية لم تستطع أن تمتد إلى الكتل السكانية المسلمة في روسيا السابقة بل ترك أمر هذه الكتل للسلطات الروسية العسكرية لكي تقمعها وتكبتها رغم دعاوى روسيا الجديدة بأنها سوف تمارس الديمقراطية والتحرر حتى في الجمهوريات السابقة التي كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي.

والخلاصة هي أن مفهوم تجفيف المنابع الذي يمارس الآن وعلى مدى العشرين عامًا الماضية، على امتداد الساحة الإسلامية، والذي ما يزال هو السائد الآن على ساحة الفعل الاجتماعي والثقافي من جانب الأنظمة في تلك البلدان ليس كما يتبادر إلى الذهن هو مفهوم وليد تفكير بعض الأجهزة الأمنية ضيقة الأفق والمحدودة أو وليد تفكير بعض النخب العلمانية الطامحة في البقاء إلى السلطة والقضاء على الإسلام، وإنما هو مفهوم ألقي إلى هذه النخب، وإلى تلك الأجهزة من جانب الغرب ومن جانب القوى الصهيونية والصليبية السائدة في الغرب والناشطة على الأرض الإسلامية لكي تطبقه في بلادها بنجاح كما طبقه الغرب نفسه قبل ذلك.

وعلى مدى القرن العشرين، بل وربما قبله في بلدان غربية صميمة مثل ألمانيا وفي بلدان أسيوية وشرقية قوية مثل اليابان وفي بلدان أوروبية شرقية كبرى مثل روسيا ونجح فيها كلها إلى الحد الذي أصبح معه الآن يلاحظ وبفخر أن روسيا قد انتشرت فيها المظاهر الغربية بدأ من المافيا (أي العصابات والجريمة المنظمة) وصولًا إلى الاتجاهات الاستهلاكية بل ويلاحظ الغرب أيضًا وبنوع من الفخر أن أسلوب تجفيف المنابع أو اجتثاث الهوية الثقافية والاجتماعية قد أخذ يصل حتى إلى دولة مثل الصين كانت إلى أعوام قليلة تقاوم كل هذه التوجهات وتحاربها بشدة.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تجفيف المنابع، تونس، تغريب، تغيير مناهج، إلحاق بالغرب، الغرب الكافر، غزو فكري، غزو إعلامي،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 6-05-2009   almoslim.net / shareah.com

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمد علي العقربي، موسى عزوق، رحاب اسعد بيوض التميمي، أ.د. مصطفى رجب، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، أحمد الحباسي، صالح النعامي ، محمد يحي، حاتم الصولي، الناصر الرقيق، يحيي البوليني، عواطف منصور، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د - محمد بن موسى الشريف ، د. أحمد محمد سليمان، عبد الرزاق قيراط ، صلاح الحريري، عمر غازي، الهادي المثلوثي، طارق خفاجي، أبو سمية، عبد الله الفقير، أحمد ملحم، إياد محمود حسين ، محمد أحمد عزوز، محمد الطرابلسي، محرر "بوابتي"، ياسين أحمد، محمود طرشوبي، أحمد النعيمي، بيلسان قيصر، حسن الطرابلسي، د - عادل رضا، عزيز العرباوي، نادية سعد، د. ضرغام عبد الله الدباغ، سلام الشماع، د- هاني ابوالفتوح، محمد شمام ، محمد عمر غرس الله، إيمى الأشقر، رضا الدبّابي، د - شاكر الحوكي ، أنس الشابي، سيد السباعي، ماهر عدنان قنديل، الهيثم زعفان، د. مصطفى يوسف اللداوي، رافد العزاوي، د- محمد رحال، سعود السبعاني، سفيان عبد الكافي، د. عادل محمد عايش الأسطل، د. كاظم عبد الحسين عباس ، محمود فاروق سيد شعبان، تونسي، عراق المطيري، فوزي مسعود ، يزيد بن الحسين، أشرف إبراهيم حجاج، د - مصطفى فهمي، د - صالح المازقي، عمار غيلوفي، محمد العيادي، د- جابر قميحة، خالد الجاف ، منجي باكير، طلال قسومي، علي عبد العال، د. أحمد بشير، د - المنجي الكعبي، حسن عثمان، خبَّاب بن مروان الحمد، مجدى داود، صفاء العربي، فتحـي قاره بيبـان، كريم السليتي، سامح لطف الله، مصطفي زهران، محمد اسعد بيوض التميمي، علي الكاش، عبد الله زيدان، د - محمد بنيعيش، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د. طارق عبد الحليم، فتحي العابد، محمد الياسين، حسني إبراهيم عبد العظيم، د- محمود علي عريقات، ضحى عبد الرحمن، أحمد بوادي، صلاح المختار، د - الضاوي خوالدية، سامر أبو رمان ، عبد العزيز كحيل، د.محمد فتحي عبد العال، حميدة الطيلوش، إسراء أبو رمان، د. خالد الطراولي ، رافع القارصي، المولدي الفرجاني، د. صلاح عودة الله ، د. عبد الآله المالكي، عبد الغني مزوز، سليمان أحمد أبو ستة، سلوى المغربي، كريم فارق، رشيد السيد أحمد، صفاء العراقي، محمود سلطان، مصطفى منيغ، وائل بنجدو، مراد قميزة، العادل السمعلي، فتحي الزغل، جاسم الرصيف، رمضان حينوني، صباح الموسوي ، فهمي شراب، المولدي اليوسفي،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة

سياسة الخصوصية
سياسة استعمال الكعكات / كوكيز