يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يستند الإعلان الإسلامي إلى أطر مرجعية شرعية، تميزه عن سائر النماذج الإعلانية الأخرى، وذلك لأنه يركز أساسًا على المحددات الشرعية للإعلام الإسلامي، الذي انبثق -بدوره- من صميم الأطر المرجعية المقدسة للدين الإسلامي.
وعليه، فإن الإعلان الإسلامي ينضوي تحت دائرتين شاملتين هما الإعلام الإسلامي أولاً، ثم الأطر المرجعــية الديــنيــة الشرعيــة.. فهو -لا يعدو أن يكون- مجرد مجال حيوي من مجالات الإعلام الإســـلامي، يستـــمد منه أصــوله، ومنطــلقـــاته، ويستــــلهم منه طبيعة ممارساته، وعناصر رسائله، ونمطية أنواعه، وشرعية فنياته، ورموزه، وأهدافه.
وقد تبدى لنا من خلال استقراء النماذج الإعلانية ذات الطابع الإسلامي المبثوثة في بعض الوسائل والقنوات الإعلامية العربية والإسلامية، ضرورة توفر جملة من المبادئ الأساسية في الإعلان كشروط صحة ووجوب لإضفاء طابع الإسلامية عليه.
وهذه المبادئ الشرعية التي اشتركت في تشكيل الصورة الإسلامية للإعلان الإسلامي، هي من معين الكليات الأصولية الكبرى ومن القواعد الفروعية الفقهية الصغرى، تمازجت فيما بينها لتضفي خلفية شرعية -كلية وفروعية- مضمونية وشكلية على عملية الاتصال الإعلاني بكامل أركانها الرئيسة: (مصدر. رسالة. مستقبل. هدف. تأثير. استجابة)، وهي:
1- مبدأ تسخير الإعلان لإحقاق الكرامة الإنسانية.
2- مبدأ تسخير الإعلان لخدمة الدين.
3- مبدأ الدقة العلمية الشرعية.
4- مبدأ مشروعية الرسالة الإعلانية.
5- مبدأ مشروعية الرموز والفنيات.
6- مبدأ مشروعية الأهداف والغايات.
7- مبدأ البعد عن الإثارة والتهييج.
8- مبدأ مشروعية المعاملات.
وتوفر هذه المبادئ الشرعية الثمانية في الإعلان، يضفي عليه صفة الإسلامية أولاً، ويقيه مماثلة الإعلانات الوثنية العارية من القيم ثانيًا، ويميزه عن مشابهة الإعلانات الجزئية ذات الطبيعة المزجية، التي اختلطت فيها مبادئ الإسلام مع غيرها من العادات والتقاليد المحلية والمستوردة ثالثًا، كما هو حال الإعلانات في الكثير من القنوات والوسائل الإعلامية العربية والإسلامية.
وسنحاول -إن شاء الله- أن نحلل هذه المبادئ، ونبين دورها في إضفاء الإسلامية على الإعلان.
(1) مبدأ تسخير الإعلان لإحقاق الكرامة الإنسانية:
خلق الله الإنسان وأنزله على الأرض ليعيش فيها، وسخر له كل ما فيها من موجودات ومخلوقات وفق نظام تسخيري متناسق بينه وبينها. وقد أخبرنا المولى تبارك وتعالى عن تلك الحقيقة التسخيرية، وعن طبيعة الترابط السنني الحتمي بين الإنسان وسائر المسخرات في العديد من المواضع القرآنية، حيث قال سبحانه وتعالى مبينًا حقيقة ذلك التسخير: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) (النحل:14). كما عبر عن ذلك التسخير أيضًا في العديد من المواضع القرآنية، لتغدو حقيقة التسخير الإلهي سنة إلهية مودعة في جبلة الأشياء، ومنطق المخلوقات، وطبيعة الموجودات أثناء تفاعلها التسخيري مع الإنسان(1).
فإذا كانت المخلوقات والموجودات مسخرة لخدمة هذا الإنسان، فإنه من المنطقي والطبيعي أن تخضع سائر الإبداعات والمنتجات البشرية لخدمته أيضًا. وما الإعلان الإسلامي إلا مجالاً من مجالات الاتصال لتحقيق وظيفة الاستسخار الإلهي للإنسان في الأرض.
وإذا كان الغذاء والكساء والسياحة مظهرًا من مظاهر التسخير الإلهي المباشر للإنسان، وإذا كانت الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وسائر قوى الطبيعة مسخرات من أجل خدمة الإنسان وتذليل صعوبات الحياة له، فإن الإعلان لا يعدو أن يكون إبداعًا بشريًا ترتسم من خلاله معالم التسخير الإلهي لسائر هذه المسخرات في الحياة، وليضفي على نفسه -شكلاً ومضمونًا- طابع المشروعية بحمله لمسؤولية تذليل مواطن المسخرات للإنسان، على عكس ما يمارسه ويجسده الإعلان الوثني، الذي يتردى فيعكس منطقية المعادلة بين سائر المسخرات والمسخر له. وبذلك المنطق المعوج والمناقض للفطرة السليمة، يصبح الإنسان عنصرًا من عناصر الاستخسار بعد أن كان هو مناط ومآل الاستسخار.
ثم إن سننية التسخير الربانية، التي أودعها الله في صميم حياة الإنسان، تتأسس على مبدأ إلهي عظيم آخر، أودعه الله في سلم ترتيبه لسائر مخلوقاته، التي ينتظمها تسلسل وترتيب إلهي كامن في طبيعة تكوينها من جهة، وفي دورها المنوط بها تسخيرًا أو استسخارًا من جهة أخرى، والذي وفقه تتحدد درجتها ومكانتها وكرامتها، والتي تبوأها الإنسان فاحتل منها الموقع الأول. وقد عبر المولى تبارك وتعالى عن تلك الحقيقة التكريمية في الكثير من المواضع القرآنية، حيث قال: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ً) (الإسراء:70).
وانطلاقًا من تكريم المولى تبارك وتعالى للإنسان، ووضعه فوق سائر الموجودات والمخلوقات، فإن الوكالة الإعلانية الإسلامية مدعوة أثناء إنجازها وتصميمها للإعلان الإسلامي أن تجسد فيه -بدقة ووضوح- سنتي التسخير والتكريم الإلهي للإنسان، وأن تخالف صراحة المنطق الإعلاني الوثني الذي يجعل من الإنسان المكرَّم مجرد موجود من الموجودات أو شيء من الأشياء المادية المسخَّرة.
وإذا التزمت الوكالة الإعلانية الإسلامية أثناء إخراجها لمثل هذه الإعلانات الإسلامية المتميزة، فإنها تكون بتجسيدها لهذا المبدأ قد جعلت من الإعلان مجالاً حقيقيًا وطبيعيًا للتنمية المادية والروحية للإنسان وللإنسانية، على العكس من الإعلان الغربي والوثني الذي يسخر الإنسان من أجل الموجودات المادية فقط.
فالإعلان على سلعة من السلع كالعطور أو الصابون مثلاً، نجدها تختلف اختلافًا جذريًا بين الفلسفتين الإعلانيتين الوثنية والإسلامية، حيث تستخدم الفلسفة الإعلانية الوثنية الإنسان -ممثلي الإعلان من النساء والرجال- استخدامًا استسخاريًا، مسقطة من قدره ومكانته، بحيث تجعل من المرأة مجرد سلعة أمام سلع تروج لها من أجل دفع جمهور المستهلكين الحقيقيين والمرتقبين للإقبال عليها واقتنائها فقط. وفي حقيقة ذلك هبوط مخل بقدر ومكانة المرأة من جهة، وحط لكرامتها وآدميتها من جهة أخرى، وتحقير لكرامة الرجال المحيطين بها في عالم الإعلان أيضًا من جهة ثالثة.
وكــــــذلك الأمر في ســــائر الإعــــلانــــات عن السلع أو الخدمات أو التسهيلات أو المنشآت: إهدار لكرامة المرأة، وحط لآدميتها، وامتهان لمكانتها الرفيعة(2).
في الوقت الذي تتوخى فيه الفلسفة الإعلانية الإسلامية -أثناء تصميمها، وإخراجها الإعلاني- إبراز المعالم الكبرى لسنتي التسخير والتكريم الإلهي للرجل والمرأة على حد سواء.
(2) مبدأ تسخير الإعلان لخدمة الدين:
يسعى الإعلان الغربي الوثني عبر سائر نشاطاته الإشهارية، المحلية والإقليمية والعالمية، إلى نشر وتعميم وترسيخ القيم المادية المثيرة لعالم الغريزة الحيواني في الإنسان، وتشجيع رغبات الاقتناء المادي، وذلك بإغرائه -الفني- جمهور المستهلكين على الإفراط الاستهلاكي المحموم. وهو بمثل هذه الممارسات يدعوهم إلى الإيمان المطلق بالقيم والمفاهيم المادية، وإنكار القيم الروحية الدينية السامية، جاعلاً من فلسفته الدهرية في الحياة عنوانًا ملازمًا لسائر نشاطاته الإشهارية المادية. حتى عندما يريد أن يدفعهم لقيم العمل والكسب والكدح، فإنه يدفعهم من منطلق مادي كسبي بحت، وذلك عبرتقنيات وفنيات إخراجية تجسد -بوضوح- عالم الغريزة المحموم، وتستبعد عالم الفضيلة والقيم الدينية والأخلاقية العليا.
وفي مقابل هذا التردي المادي في عالم الغريزة والشهوة، الذي يمارسه الإعلان الغربي الوثني بشقيه المسيحي واليهودي صراحة، يسعى الإعلان الإسلامي عبر سائر نشاطاته الإشهارية إلى نشر وتعميم وترسيخ القيم الدينية الإسلامية الروحية الفاضلة.
فهو ينطلق لتجسيد ونشر تلك التعاليم عبر عالم الإعلانات، ليس من منطــلق معارضــة الفــلسفة الإعـــلانية الغربية الوثــنيـة فحسب -وإن كان هذا حتميًا- بل من منطلق نشر تعاليم الإسلام الخالدة التي ناط الله بالمؤمنين تبليغها للناس أجمعين، وحملهم مسؤولية وأمانة تعميمها. وقد صرح المولى تبارك وتعالى بهذه الحقيقة في العديد من المواضع القرآنية، حيث قال: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين ) (فصلت:33).
إن السلع، أوالخدمات، أو التسهيلات، أو المنشآت المعلن عنها، نِعَم من نعم الله وفضائله على الإنسان، هذا الإنسان الذي قد تنتابه حالات من الإغماء الروحي، والانفلات العقدي، والضياع القيمي، والنسيان المرجعي.. فيكون الإعلان -بهذ المبدأ- مظهرًا من مظاهر الإبداع التذكيري والدعوي الدائم لهذه القـيــم الخــــالدات، وطريــقة من طرق استعادة التوازن القيمي بين عالم المادة والروح المضطربة في نفسية الإنسان، وفي سائر عمليات إخراج الإعلان، وممارسة النشاط الإعلاني نفسه.
إن الإعلان الإسلامي الناجح والمؤصل شرعيًا، هو الذي يسعى لنشر تعاليم وثقافة الدين مع السلع أو الخدمات أو غيرها، لأن السلع والخدمات في فلسفة الإسلام وتعاليمه الربانية الصحيحة، مساربٌ تقرب العبد إلى ربه، وتكسبه رضاه والجنة.. وما عالم السلع، والمال، والأعمال، والخدمات، والمنشآت، إلا مجال تختزله حكمة النبي عليه الصلاة والسلام المتمثلة في قوله معرفًا بفلسفة مصارف المال في الإسلام: (ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت )(3).
إن الإسلام لا يمكن أن يخدم اليوم بالدعوة القولية، أو المسجدية، أو الصحفية، أو التربوية، أو التعليمية فقط، في عصر طغت فيه القوى الاستعمارية الصناعية على العالم. بل إن الدعوة في حقيقتها عمل متكامل مرتبط بالعمل المثمر، والإنتاج الصالح، والتنمية الناجحة، والاستثمار الفاعل، والرخاء الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي، والسياسي، والأمني.. والإعلان في حد ذاته، وإن كان إشهـــارًا لسلع أو خدمات أو تسهيلات أو منشآت، هو- في نفس الوقت- إشهار علني لواقع المسلمين الصناعي، والزراعي، والتقني. هو بالتالي إعلان صريح عن طبيعة الدين الإسلامي، وقيمه، وفلسفته، وتعاليمه الفاعلة، وعطائه المتميز.
ويمكن القول: إن الإعلان الإسلامي عن السلعة أو الخدمة، هو إعلان عن فلسفة الإسلام أولاً، وترويج لأمته، وقيمه، ومثله، ومبادئه ثانيًا، قبل أن يكون محاولة للترويج، أو التسويق، أو البيع بهدف جلب الأرباح وزيادتها.
(3) مبدأ الدقة العلمية الشرعية:
كثيرًا ما تعرض قنوات ووسائل الإعلام الغربية أو العربية برامج علمية تتناول الجانب الطبي، أو الصحي، أو البيئي، الإيجابي أو السلبي لسلعة من السلع، أو لخدمة من الخدمات، كعرض برنامج علمي عن مضار التدخين المتعددة، ثم يتلو ذلك البرنامج العلمي إعلان مناقض تمامًا لحقيقة تلك المعطيات العلمية المقدمة آنفًا، حيث نراه يزين التدخين، ويحبذه لدى جمهور المشاهدين. بل ويجعله مظهرًا من مظاهر الرجولة، وعلامة من علامات الفتوة والشباب، ومستوى راقيًا من مستويات الكمال والنضج، ودليلاً على سمو مستوى التحضر لدى الفرد المدخن.. فيفجأ مثل هذا الإعلان -الذي لا يراعي الحقائق العلمية- جمهور المشاهدين، ويسبب لهم تناقضات نفسية، وفكرية، وتربوية.
ونظرًا للوضعية السيئة التي آل إليها أمر الإعلان في الغرب، تحركت جمعيات التسويق، وجمعيات حماية المستهلك، وغيرها، لوضع حد لمثل هذه التناقضات، وقدمت شروطًا دقيقة عرضت في البرلمانات والمجالس النيابية، وبعد مناقشاتها أصبحت قوانين صارمة يلتزم بها المنتجون والمعلنون معًا(4).
والملاحظ أنه بعد الانزلاقات الخطيرة التي آل إليها أمر الإعلان في الغرب عامة، وخاصة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، تحركت المؤسسات الجمعية لوضع حد لكل محاولات العبث والتلاعب الإعلاني بالجمهور، وكان دافعها الرئيس هو ضمان القدر الأكبر من النجاعة والمردودية المادية فقط، وتجنب القدر الأكبر من الخسارة والانهيار المادي البحت. واستطاعت -بعد صراع ثقافي ونقابي مرير مع المنتجين ووكالات الإعلان- أن تسن القوانين الصارمة، التي تنظم شأن الإعلان والمعلنين والمنتجين.
ولئن توصل الغرب لوضع حد لعبث الوكالات الإعلانية والمنتجين مدفوعًا بإلحاح العامل المادي، فإن الأمر يختلف في الإعلان الإسلامي، الذي يجب عليه أن يتأسس على قواعد مرجعية وقيم ثابتة تحميه من التردي العبثي بالقيم والجمهور(5).
ولن يتأتى للإعلان الإسلامي ذلك إلا إذا استند إلى قواعد الإسلام الأصولية في هذا الجانب، لأن مبدأ الدقة العلمية الشرعية يقتضي منه أن يكون محكومًا بأخلاقيات الإسلام، وعلى رأسها التزامه بمبدأ ذكر حقيقة ما يعلن عليه بكل أمانة وصدق.
إن إظهار الحقيقة مبدأ أساس في الإعلان الإسلامي، وهي قبل ذلك مبدأ أساس في الديــن الإســلامي، الذي يقــوم على أصالة ووحدة الحقيقة، المستمدة من وحدانية الحق المطلقة. لذا وجب على الإعلان الإسلامي أن يلتزم بمبدأ ذكر الحقيقة، لأن الإعراض عنها إضرار متعدد الجوانب، فهو يضر بالمنتج أولاً، وبالجمهور المستهلك ثانيًا، وبالإعلان ثالثًا.
وعليه فإن الإعلان الإسلامي مدعو للالتزام ببيان ما يلي:
1- خصائص السلعة: نوعها، وحقيقة المواد المصنوعة منها، وأصلها الحقيقي، وموطنها الأصلي.
3- الخدمـــات المصاحبــة للشـــــراء: كالتــوصيل إلى المنــازل مجــانــًا، أو المبادلة، أو الرد، أو الصيانة ما بعد البيع.. وغيرها.
4- التوصية بالسلعة بواسطة شخص أو أشخاص معينين: ويجب عدم استعمال هذه التوصيات إلا إذا كانت حقيقية وواقعية في السلع والخدمات والتسهيلات والمنشآت..
ومبدأ ذكر الحقيقة، يترتب عليه الالتزام بمبدأ الصدق، لأن الصدق مبدأ أساس فيه وفي الدين الإسلامي، وقد فرض المولى تبارك وتعالى على المسلمين أن يلتزموا بخلق الصدق كمبدأ أصيل في جميع أحوالهم وشؤونهم الروحية، والمادية.
وقد ثار جدل كبير بين المعلنين والأخلاقيين في الغرب حول آثار الإعلان الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التربوية، وعن مدى نجاحه في التأثير في جمهور المستهلكين المحتملين، وقدرته في حملهم على الإقبال على السلعة واقتنائها، ومدى ارتباط هذا التأثير الإعلاني في مخيال الجمهور بمدى صدق المعلومات المقدمة في الإعلان أو كذبها. وأسفر ذلك الجدل عن تصورين رئيسين:
أحدهما يرى أن مبدأ الصدق غير مهم في التأثير على جمهور المستهلكين الحقيقيين والمرتقبين، لأن الجمهور يقبل على السلع وغيرها بدوافع كثيرة، وليس الصدق الإعلاني دافعه الرئيس.
فيما ذهب الأخلاقيون والاجتماعيون وقادة الرأي إلى أن الصدق الإعلاني هو العامل الرئيس في التأثير في الجمهور، لأن أساس الاتهامات التي يوجهها الجمهور إلى الإعلانات عادة ما يكون مصدرها اكتشاف حالات من الكذب، والابتعاد عن ذكر الحقيقة، ومجانبة الواقع كما هو، وبالتالي تفتقد الثقة في الإعلانات(6).
ويعتبر الإعلان غير صادق إذا احتوى على معلومات غير حقيقية ولو على سبيل الإخراج الخيالي أو الترفيهي بإحدى الطرق الفنية، وذلك لبعده عن الحقيقة والواقع. كما يعتبر الإعلان غير صادق إذا أوجد شعورًا مضللاً في أذهان المستهلكين المرتقبين، إن بالإيحاء المباشر إليهم أو بالاستنتاج الخاطئ من مقدمــاته، أو من فنياته الخاطئة. وذلك مصداقًا لحديث الرسول صلى الله عليه و سلم السابق الذكر: (من غشنا فليس منا )(7).
ومن هنا يجب على الإعلان الإسلامي أن يلتـــزم بمبدأ الصدق في كل ما يعلنه، وفي كافة تعاملاته الإشهارية داخل المجتمع المسلم وخارجه.
ثم إن مبدأ ذكر الحقيقية كما هي، لا يقتضي الالتزام بمبدأ الصدق المجرد فحسب، بل يقتضي التزام مبدأ الأمانة الشرعية. لأن مبدأ الأمانة الشرعي هو الضمان الأكيد لما تعلن عنه وكالة الإعلان الإسلاميــة، وذلك بتحملها التــام والكــامل للمسؤولية الشرعية لكل ما يحتويه الإعلان، كمرحلة ما بعد البيع، من نقل وإصلاح وصيــانة أو تبديل أو تعديل، إلى غير ذلك من أشكال الضمان.
لأن الملاحظ على جل المعلنين ووكالات الإعلان تقديم العروض المغرية لجمهور المستهلكين، ثم يعلق الجمهور الآمال الكبار على تلك الوعود الجميلة والمطمئنة التي حمتلها إليهم الإعلانات الساحرة، وسرعان ما يكتشفون خيانة المعلنين ووكالات الإعلان لما وعدوا به عندما يتخلون عنهم مباشرة -وبكل لؤم وخسة- بعد إتمام عملية البيع واقتناء السلعة، فيغررون بهم أيما تغرير.
وهذا ما يحرم على وكالة الإعلان الإسلامي ممارسته مطلقًا في كافة نشاطاتها الإشهارية، المحلية داخل نطاق المجتمع المسلم، والإقليمية مع المجتمعات المجاورة الإسلامية وغير الإسلامية، والعالمية.
(4) مبدأ مشروعية الرسالة الإعلانية:
يشكل ركن الرسالة الإعلانية في عملية الاتصال الإعلاني كلها عاملاً رئيسًا وفاعلاً، يتوقف عليه -إلى حد كبير- نجاح العملية الإعلانية كلها، أو فشلها كليًا أو جزئيًا. وعليه، فإن صياغة مضمون وشكل الرسالة الإعلانية عامل مهم وحاسم للمنتج المعلن، ولوكالة الإعلان معًا. فعليها يترتب إقبال جمهور المستهلكين أو نفورهم من الإعلان. لذا تحرص الوكالات الإعلانية والمنتجين معًا على إعداد دراسات مستفيضة ودقيقة عن الجمهور الموجه إليه الإعلان، وعن قيمهم، وديانتهم، وثقافتهم، ولغتهم، ومستوياتهم الاجتماعية، والاقتصادية، بغرض إتقان صياغة مضمون الرسالة صياغة جيدة، ضمانًا للفاعلية التأثيرية في جمهور المستهلكين الحقيقيين والمرتقبين.
ولذا يحرص المنتجون ووكالات الإعلان الغربية على صياغة وتوجيه أدق المضامين فاعلية وتأثيرًا في رسائلهم الإعلانية.. ومن أجل إنجاحها، ينطلقون من مبادئ وثقافة الفرد الغربي أولاً، ثم يضعون فيها -في نفس الوقت- مضامين موجهة للفرد المرتقب في العالم، الذي ينوون (تغريبه) بتعميم نموذجهم الثقافي عبر الرسالة الإعلانية.
ولئن كان الإعلان الغربي -كما نراه الآن- الموجه إلى المجتمعات الغربية وغيرها، لا يتورع عن الإشهار لكل أنواع المحرمات من السلع، والخدمات، والتسهيلات، والمنشآت... كإعلاناته عن جميع أنواع الخمور والمسكرات، ولحوم الخنازير، والمعاملات المصرفية الربوية والاحتكارية، والخدمات السياحية والترفيهية العارية عن القيم والمبادئ الأخلاقية، لانطلاقه أساسًا من فلسفة أيديولوجية وثنية قائمة على التحلل في كل شيء، وتأليه الإنسان، وشهوات الإنسان، في مبادئ صاغها منظرو الفكر الليبيرالي الوثني الحر دعت إلى : (دعه يمر، دعه يعمل، دعه يقول، دعه يكتـــب، دعه يسمع، دعه يعلن، دعه يفعل ما يشاء في إطار قانونه الوضعي...)(8).
فإن الإعلان الإسلامي على النقيض منه، يتورع عن ممثالة نفس الممارسات الإعلانية التي يقدمها الإعلان الغربي، وذلك عائد لتأسسه على تعاليم المرجعية الشرعية التي اختزلتها حقائق الدين الإسلامي المطلقة، والتي حوتها أصوله ومصادره الرئيسة من كتاب، وسنة، وإجماع، وقياس، واجتهاد...(9).
إن الإعلان الإسلامي محكوم بضوابط الدين، وممنهـــج وفـــق محدداته الشرعية، التي تضبط مساره الكــلي الأصــولي، والتي تكــيــف وتحــرك تفــاعلاتـــه ومكونـــاتـــه ونشـــاطه الجزئـــي الفــروعي، لا يتعــداها ولا يتخطاها مطلقًا.
وتأسيسًا على هذه القواعد الأصولية والفروعية معًا، فإن الإعلان الإسلامي لا يمكنه أن يحمل رسائل مناقضة لكليات الدين وفروعياته، مثل: ما تنشره الكثير من الصحف، وتبثه الكثير من القنوات السمعية والبصرية في الكثير من البلاد العربية والإسلامية عن العرافات والمنجمات، وقارئي وقارئات الكف والبخت.
هذا مثل عن بعض الخدمات التي يمارسها الإعلان العربي في البلاد العربية والإسلامية.. أما عن السلع مثلاً، فإن الإعلان الإسلامي محكوم خلال نشاطه الإشهاري بألا يعلن عن السلع المحرمة، مهما كان العذر أو الربح العائد، لتشديد المولى تبارك وتعالى على تحليل دائرة الحــــلال في الإســـلام، وتحــــــــريم د ائــرة الحرام أيضًا. يضاف إلى ذلك ما تنتظمه السنة والقواعد الأصولية والفروعية لفهم هذه الأحكام ودرجتها على المكلفين زمانًا ومكانًا.
كما يلتزم الإعلان الإسلامي أيضًا بحكم الشارع في الامتناع التام عن الإعلان لكل أشكال الخدمات المحرمة، كما هو حال الكثير من الصحف، والقنوات السمعية البصرية، التي تعلن عن ألعاب الميسر، واليانصيب، واللهو، والسياحة الخليعة، والحفلات المختلطة بين الجنسين، والسهرات الماجنة، لنهيه سبحانه وتعالى عن ذلك.
وعليه، فإن الرسالة ومكوناتها ومضمونها الإعلاني في الإعلان الإسلامي، محكومة -أساسًا- بتعاليم الدين الإسلامي، سواء من حيث مشروعية السلعة، أو من حيث مشروعية عناصر ومكونات المضمون الفكري للرسالة الإعلانية(10).
(5) مبدأ مشروعية الرموز والفنيات:
يحفل الإعلان الغربي بحشد هائل ومتحرك من الكلمات الجذابة الأخاذة. كما يحفل كثيرًا بالزخرفة والبريق، والأضواء، والألوان، والحيل الإخراجية، وتوظيف كل الأشكال الجميلة والمحببة لجمهور المستهلكــين... وذلك بغـــرض خلــب ألبــابهم، وتعريفــهم بالســـلع أو الخدمات أو التسهيلات أو المنشآت التي يعلن عنها، ودفعهم للإقبال على اقتنائها، أوالتعامل معها لتحقيق الربح السريع.
ويعود سبب توفر هذا الحشد الهائل من الرموز، والتزاحم المعقد في الفنيات، لأن الإعلان الغربي ينطلق أساسًا من الفلسفة الإعلامية والإعلانية الغربية، التي تسعى لإرساء أطرها الثقافية الليبيرالية الوثنية. فكل ما هو جميل أو غير جميل، أو مألوف أو غير مألوف، أو مقبول أو مستهجن، يحلو للوكالة الإعلانية توظيفه توظفه دون مراعاة للذوق العام المحلي، الذي فسد بفعل الكثير من التآكل القيمي لملكة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والذوق العالمي الذي اعتراه الكثير من التآكل والإفساد القيمي أيضًا.
والإعلان الإسلامي في جانبه الإخراجي التقني، والهندسي الفني، والمادي المجرد، صنو للإعلان الغربي، ولكنه من حيث الرسائل، والمضامين، والرموز (اللغوية، والثقــافية، والتراثية، والدينيــة، والروحية والاجتماعية، والأخلاقية، والتربوية...) يختلف اختلافًا جذريًا عن الإعلان الغربي. وذلك عائد بالأساس لكونه ينطلق من فلسفة إعلامية وإعلانية إسلامية، لها خصائصها، ومميزاتها، وتصوراتها الشرعية للرمز والصوت، واللون، والحركة، ولطريقة توظيفه، ولغاية ومقصد استعماله.
إن وكالات الإعلان الإسلامي مطالبة -من خلال نشاطاتها الإشهارية المحلية، والإقليمية، والعالمية - باستيفاء كافة التقنيات الإخراجية، واستخدام كافة الطرق الفنية الجميلة والمألوفة، وتوظيف كافة الرموز المتاحة فنيًا، بعد إضفاء الوجهة الشرعية على مكوناتها الفنية والرمزية، لدعوة الجمهور بعقلانية وموضوعية للتفاعل معها، وإيجاد التأثير الإيجابي في نفسية جمهور المستهلكين، وخلق الاستجابة المناسبة للإقبال على السلعة أو الخدمة. ولكن ليس بالطريقة الغربية الإخراجية المتوحشة، والفنية الصارخة، والتقنية الصاخبة، العارية عن كل القيم والمثل العليا.. ذلك أن المعلن المسلم معني بالدرجة الأولى بإضفاء خاصية المشروعية على الرموز التي يستخدمها، لكونه المسؤول الأول أمام الله تعالى، وأمام تعاليم دينه الإسلامي، وأمام المجتمع الإسلامي خاصة، والأمم المدعوة عامة.
وعلى وكالات الإعلان الإسلامي التأكد من صلاحية الرموز ومدى تلاؤمها مع الشرع الإسلامي، وذلك بالتأصيل الشرعي لها، ولطرقها الإخراجية، وفنياتها الإبداعية. فالكلمات، والألوان، الرسوم، والأصوات، والألحان، والأنغام، والإخراج الفني، وغيرها، يجب أن يكون مقيدًا بضوابط الشارع الحكيم، فلا يجوز مثلاً استخدام الكلمات الخبيثة العارية عن القيم الدينية الفاضلة، لقوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. .)(إبراهيم:24-26).
وهنا يتجسد بوضوح الامتثال الشرعي في اختيار الكلمات الطاهرة، التي يجب على الإعلان الإسلامي أن يوظفها في مضامينه ورســائله بمقابل سيل الكلمات الخبيثة التي تتدفق بها الإعلانات الوثنية الأخرى.
كما لا يجوز له على سبيل المثال استخدام الحركات الراقصة والمبتذلة التي يقوم بها بعض الفتيان والفتيات، لحرمة المؤدي إلى الحرام، حيث هو حرام مثله، ولإخلال ذلك بمبدأ الكرامة الإنسانية، ومبدأ مشروعية الرموز، والوسيلة، والمقصد(11).
(6) مبدأ مشروعية الأهداف والغايات:
يسعى الإعلان الغربي -عبر نشاطاته المختلفة- إلى التأثير في جمهور المستهلكين الحقيقيين والمرتقبين بهدف الإقبال على سلعه، وخدماته، وتسهيلاته، ومنشآته التي يعلن عنها، وذلك باستخداماته لطرق وفنيات شتى، وعلى رأسها طريقة تشخيص وتضخيم عيوب السلع والخدمات الأخرى، وإبراز مزايا ما يعلن عنه من سلع وخدمات، مستعينًا بحيلٍ إخراجية سمعية وبصرية، تخلق بطرق الاستنتاج الضمني لدى جمهور المستهلكين حالة من الخداع والإيهام وحسن الظن بمزايا ما يعلن عنه من سلع وخدمات، وإبراز عيوب ما تعلن عنه إعلانات الوكالات الأخرى.
ويعد هذ الأسلوب الإعلاني أحد طرق الإعلان الغربي والعربي الحالي محليًا وعالميًا، وهو -في شكله ومضمونه- يتنافى مع فلسفة ومبادئ الإعلان الإسلامي، الذي يجب عليه أن يتوجه بالأساس إلى مقاصد شرعية معينة، وأهداف إعلانية ودعوية واضحة، ومؤصلة شرعًا، من حيث المنطلق، والممارسة، والوسيلة، والغاية، لأن الدين الإسلامي يأمر المسلمين أن يتعاملوا ويتفاعلوا وفق مبدأ المقصدية الشرعية المقدس، الذي حددته التعاليم القرآنية في العديد من المواضع، منها قوله تعالى: (واقصد في مشيك )(لقمان:19).
إن من أوكد مبادئ الإعلان الإسلامي، التوجه المقصدي المباشر للتعريف بالسلع، أو الخدمات، التي يعلن عنها، وتزويد الجمهور المســلم وغير المســلم بالمعــلومات الإيجابية والحقيــقية فقــط، وليــس من مقاصده الرئيسة أن يثير لدى الجمهور بعض الشكوك والظنون حول مضامين الإعلانات الأخرى، مما يدفعهم إلى سوء الظن بها، وبالتالي التراجع عن الإقبال عليها واقتنائها إلا في حدود متطلبات النهي عن المنكر.
إن الإعلان الإسلامي في حقيقته المبدئية -وهكذا يجب أن يكون- توضيح وإشهار وإيضاح، لا تشويه وظن وقدح في إعلانات الآخرين. ونجاحه لدى الجمهور المسلم وغير المسلم يكون بمدى صلاحية وفائدة وجودة ما يعلن عنه من سلع، وخدمات، وتسهيلات، ومنشآت، وليس بمقدار تضخيم حجم العيوب للإعلانات الأخرى. وكذلك ليس بنوعية القذف الذي يكيله لوكالات الإعلان الأخرى.
إن الســلع والخــدمات والتسهيـــلات والمنشـــآت الجيــدة، لا ينقص من قدرها ومكانتها سيل التشويهات التي تكيلها لها الإعلانات التي تعلن عن المنتوجات ناقصة الجودة. بل ربما تتأثر بعض الشيء في بداية توجــه سيــل الحمــلات العدائية التشويــهية ضــدها، ولكنها سرعـــان ما تسترجع مكانتها، وتقف قوية في مواجهة الإعلانات المضادة، وكثيرًا ما يتجه الجمهور إليها بفعل الدعايات الإعلانية التشويهية المضادة لها.
إن الإعلان الإسلامي الذي ينطلق من فلسفة إعلانية إسلامية شرعية أصيلة، غير معني بتاتًا بتشويه صورة ومضامين ورسائل ومقاصد الإعلانات الأخرى في مخيال الجمهور المستهلك -مهما كانت الدوافع، والمنطلقات، والغايات- اللهم إلا أن تكون من المحرمات، أو المحظورات، أو المنهيات، أو المكروهات كراهة تحريم من المنهي عنها شرعًا، والتي تسعى الإعلانات الأخرى لتزيينها وترويجها وتحبيبها للفرد المسلم، ودفعه للإقبال عليها بهدف إفساده وإفساد المجتمع، وتقويض قيم الأمة الإسلامية الحضارية الأصيلة، وهنا يتصدى لها الإعلان الإسلامي التحذيري، والتنبيهي، والتوجيهي، ويفضح حقيقتها، ويظهر عيوبها، ومضارها.
إن الإعلان الإسلامي في ظل الفلسفة الإعلانية الإسلامية، مطالب بتعليم ونصح ودعوة الناس جميعًا أثناء قيامه بنشاطه الإعلاني مع السلع والخدمات.. كما هو مطالب بزرع الأفكار، والقيم النبيلة، والمبادئ الإسلامية الفاضلة، وغرس الصور الجميلة عن تعاليم الدين الإسلامي السمحة.
وهو مطالب أيضًا بالتأثير الإيجابي في جمهور المستهلكين، المسلمين وغير المسلمين، بغية جلبهم للإقبال على ما يعلن عنه، ولفت انتباههم إليه -بالطرق المشروعة- لجودته العالية في المنتج، وأصالته الراقية في الشكل والمضمون. وبهذا يكون قد حقق مبدأ المقصدية الشرعية، عاملاً بقوله تعالى: (واقصد في مشيك )(لقمان:19). لأن المشي هنا لفظ من ألفاظ العموم، ولا يعني به السير المقصدي على القدمين فحسب، بل هو مشي مقصدي هدفي في عالم السياسة، ومشي مقصدي هدفي في رحاب المجتمع، ومشي مقصدي هدفي في آفاق الاقتصاد، ومشي مقصدي هدفي في مجال القانون، ومشي مقصدي هدفي في ميادين الأخلاق، ومشي مقصدي هدفي منهجي، ومشي مقصدي هدفي في مجالات علوم الإعلام والإعلان.
ولا تلزمه الفلسفة الإعلانية الإسلامية الاشتغال بعيوب الإعلانات الأخرى اللهم إلا ما كان منها متوجهًا لإفساد الفرد والمجتمعات الإسلامية.
وبمبدإ الهدفية والمقصدية المشروعة للإعلان الإسلامي، يكون الإعلان قد استرشد غاية ومقصدًا، بعد أن استرشد منطلقًا، ومضمونًا، ورسالة، ورموزًا. وبه تكتمل عملية التقعيد التنظيري الشامل والعام لعملية الاتصال الإعلاني: [مشروعية الرسالة. مشروعية الرموز. مشروعية المقصد].
(7) مبدأ الفطرية والبعد عن الإثارة:
يسعى الإعلان الغربي خلال ممارساته لنشاطاته الإعلانية عن السلع والخدمات والتسهيلات والمنشآت، إلى إحداث موثرات فاعلة في دماغ الإنسان ومراكز اتخاذ القرار لديه (عقله، عاطفته، شهواته)، بدرجات متفاوتة الاستجابة والتأثير بين فرد وآخر ومجتمع وآخر، تبعًا لنوعية شخصية ذلك المستهلك، وطبيعة تكوينه التربوي، ومستواه الثقافي، وحقيقة إيمانه وتدينه، ومدى تمسكه بمبادئه، ودرجة انصهاره القيمي والأخلاقي.. فتؤثر بتقنياتها الهندسية، وفنياتها الإخراجية على الفرد والمجتمع -على تباين بين مستويات التأثير- فتحدث في جمهور المستهلكين الاستجابة المطلوبة -التي يرضى عنها المنتج والمعلن معًا- فيقبل مباشرة على اقتناء ما تعلن عنه.
وأقصى نجاحاتها الإعلانية الدعائية هو أن يصل الإنسان -في ظل تأثيراتها الفنية والإخراجية الساحرة- إلى درجة الاستسلام العقلي، والاسترخاء الفكري، ويصبح دماغه معطلاً عن ممارسة عملية التفكير، ويغدو مستعدًا لقبول إيحاءات عالم الإعلانات السحري المفروض عليه بواسطة ما تبثه الوسائل الإعلامية المختلفة(12).
ويعمل مصممو ومخرجو الإعلان الغربي -عند إعداد إعلاناتهم- على توظيف أكبر قدر ممكن من الفنيات التهييجية والتقنيات الإثارية التي تسلب عقول الجمهور المستهلك، وتشل مواطن القرار لديه، وتسلمه لشهواته، وعواطفه، وغرائزه، التي يراها محققة في عالم الإعلانات السحري فقط مما يضطره مستسلمًا للإقبال عليه.
ويركز مصممو الإعلان الغربي على غرائز الطمع، والرغبة، والطموح، وحب الاقتناء، وحب الدعة والاسترخاء، والتطلع إلى الراحة والمتعة، وغيرها من الرغبات، التي تحرك بقوة تطلع وطموح الشباب من الجنسين لحياة أفضل، وتدغدغ عواطفهم في العمق، وتثير أحاسيسهم الجنسية بشتى مظاهر الزينة الوقحة من ثياب وعطور ومظاهر ساحرة موجودة في عالم الإعلانات المغري، لغرض زيادة عدد المقبلين من الجمهور المستهلك على السلع والخدمات التي يعلن عنها.
والإعلان الإسلامي الذي يستند إلى مبادئ الإسلام السمحة، التي تعترف صراحة بحقيقة الغريزة الجنسية في الإنسان، وتقر بوضوح بتأثيرات دوافعها المختلفة فيه، وتدرك أهميتها الكبرى، ودورها الرئيس لتحقيق وظيفة الاستخلاف في الأرض، لا تستقذرها(13)، ولكن تنظمها وتضبطها وفق مسارب شرعية تكريمية ترقى بمستوى الإنسان، ويتم له من خلالها تصريفها والتمتع بها.
ومع هذا الاعتراف الصريح بأهمية وتأثير عالم العواطف والغرائز، لكنه محظور عليه مطلقًا بأدلة الشرع أن يوظفه توظيفًا استغلاليًا مثيرًا بغرض التنويع الإخراجي، والإثارة الإعلانية، لجلب الجمهور لاقتناء السلع أو غيرها.
إن الإعلان الإسلامي مأمور بالابتعاد كلية عن كل أشكال الابتذال، والخلاعة، والإثارة، وتهييج الشباب والفتيات من أجل الترويج للأحذية، أو الألبسة، أو العطور، أو الرحلات السياحية الماجنــة.. لذلك فهو يرفــض هذا الابتـــذال المســف بالقيم والمبادئ الدينية الخــالدة لتنــافيها المطلق مع حقائق التنزيل المقدسة، التي كرمت الإنسان وفضلته على سائر المخلوقات، وصانته بستره لعوراته، وفضلته بنعمة الحياة، وكرمته بفضيلة الارتقاء الغريزي عن ما هو عليه في عالم الحيوانات.
إن الإعلان الإسلامي خلال ممارساته الإشهارية، يعمد إلى تجسيد القيم الفاضلة، ويقربها إلى عقول الجمهور، ويرتقي بهم من حالة التردي والمتاجرة بعالم الغريزة والشهوات، لأن عواطف الإنسان ومشاعره وغرائزه في الإسلام ليست مجالاً مفتوحًا للمتاجرة الرخيصة مــن أجل تحقيــق الأرباح. وعلى الرغم من اعتراف الإسلام بعالم الغريزة في الإنسان، إلا أنه لا يعتبرها وحدها المحرك الرئيس في الإنسان العاقل الراشد.
وقد بينت نتائج الدراسات الإعلانية التي قامت بها مراكز البحث والدراسة المتخصصة في تقنيات الإعلان في الغرب، أن عنصر تأجيج الغريزة الجنسية لدى جمهور المستهلكين، عن طريق الاستعراضات العاطفية المغرية التي تقوم بها الفتيات العارضات، والتي تصاحب عرض السلع أوالخدمة، لم تعد مجدية، ولم تعد تشكل الدافع الحقيقي لتأجيج حمية الجمهور للإقبال على السلع والخدمات، وأن عنصر المرأة لم يعد الدافع القوي والحافز الحقيقي لجلب الجمهور نحو السلعة أو الخدمة..
لقد اكتشف الغرب مؤخرًا أن المرأة والغريزة الجنسية لم تعد تشكل عنصر جذب في نجاح الإعلان والحملة الإعلانية. ولذا فإنهم تخلوا عنها في الكثير من الإعلانات، ولم يصلوا إلى هـــذه الحقيــــقة إلا بعد التجريب الميداني لها في عالم الإعلان.
والإعلان الإسلامي، الذي ينطلق من الفلسفة الإعلامية الإسلامية، التي تنطلق بدورها من مبادئ الإسلام وتعاليمه الفطرية السمحة، لا يقف عائقًا في وجه هذه الغرائز، ولا يعمل على كبتها وقهرها، بل هو معني بتفهمها أولاً، ومعرفة مداخلها الفطرية الطبيعية ثانيًا، ثم الانطلاق إلى إعداد الخطة الإعلانية الشرعية المناسبة للتعامل معها ثالثًا.
إن عالم الغريزة والعواطف في الإنسان، مداخل طبيعية وفطرية للدخول إلى نفسية المواطن، المسلم وغير المسلم، وبوابات دعوية للغوص في أعماقه وفي سائر جوانب حياته وفق الضوابط الشرعية، بدءًا من الحاجة إلى الطعام والكساء والأمن، وانتهاءًا بالغريزة الجنسية، وفطرية التوالد والتناسل، وحب البقاء.
ومع الاعتراف الفطري المبدئي بها، لا يجوز له أن يثيرها، ولا أن يعمد إلى تهييجها السافر بهدف جلب الربح المادي فقط، منطلقًا وممارسة وغاية.
وهنا وجب التمييز بين الدفع الرقيق والمعقول للإعلان الإسلامي، الذي يمارسه برفق -وفق الضوابط الشرعية- للكشف عن العواطف وتفهم حقيقة عالم الغرائز، لإيجاد أيسر السبل لإشباعها على مبدأ: (إن في بضع أحدكم لأجرًا )(14)، وبين التهييج الإثاري الذي يمارسه الإعلان الغربي معها.
وكذلك وجب التمييز بين التعاطي الشرعي والمعقول لعالم العواطف والغرائز على مبدأ: (يا أبت استأجره أن خير من استأجرت القوي الأمين ) (القصص:26)، وبين استغلالها استغلالاً غريزيًا بشعًا على شاكلة ما يمارسه الإعلان الغربي.
ثم إن مبدأ الفطرية السمحة والبعد عن الإثارة والتهييج، يقتضي أيضًا الالتزام بمبدأ البعد عن كل أشكال المبالغة، لأن الإعلان الإسلامي محكوم عليه أثناء ممارساته الإعلانية -للجمهور المسلم ولغيره- بالبعد عن المبالغة والادعاءات الوهمية والصراخات التضخمية، ولو على سبيل الإخراج الفني التقني، حيث إن توظيف الحيل الفنية الإخراجية في الإعلان -وفق هذه الضوابط- تجعل من الأمور التي يعلن عنها سريعة الفاعلية، قوية التأثير، عظيمة النتائج، بعيدة عن كل أشكال المضاعفات والسلبيات، وغير ذلك.
إنه مأمور بتجنب كل أشكال الإثارة، والتهييج، والمبالغة، لما يعلن عنـــه، من أنها ســلع راقية، وسحرية، وفعالة، وذات مــردوديــة خيالية.. وسرعان ما يقبل عليها الجمهور المستهلك، ثم تخيب آماله وتطلعاته فيها(15).
وبالتزامه الفطرية في المنطلق، والبساطة في الطرح، والصدق في العرض، والدقة في الإخراج، والهدوء في الألوان، والاتزان في الأصوات، والمشروعية في الحركات والفنيات والأشكال، ينطلق الإعلان الإسلامي -بإذن الله- لكسب الجمهور المسلم، وغيره، عاملاً بالمبدأ الـقرآني الخالد في عالـــم العقائد، والأفـــــكار، والأشــــــياء: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (يوسف:108).
وبعرضه الهادئ والمتزن، يغدو الإعلان الإسلامي أحد وسائل التبشير الــدعـوي بالديـــن الإســلامي، عــلى الصعيد المحــلي والإقليـــمي والعالمي.
(8) مبدأ مشروعية صيغ المعاملات:
يتميز الإعلان الإسلامي -منطلقًا، ووسيلة، وغاية- عن غيره بتثبته من مشـــروعيــة ما سيــقوم بالإعــلان عنه، من سلع أو خــدمات أو تسهيلات أو منشآت، وذلك وفق صيغ الحكم التكليفي الموضوع لعامة المكلفين، وهي كالتالي:
1- سلعة حلال + إعلان مشروع + وسيلة مشروعة = إعلان جائز.
2- سلعة حـلال + إعــلان مشــروع + وســـيـلة غيـــر مشروعــــة = إعلان غير جائز.
3- سـلعة حـــلال + إعـلان غيـــر مشـروع + وسـيـــلة مشـروعــة = إعلان غير جائز.
4- سلعة حرام + إعلان مشروع + وسيلة مشروعة = إعلان غير جائز.
5- سلعة مـكـروهة تحـريمًا + إعــلان مشــروع + وسيلة مشروعة = إعلان غير جائز.
وهكذا ينطبق الأمر على سائر السلع والمعاملات والخدمات والتسهيلات والمنشآت.. ودون متابعة عملية الجواز والتحريم في نمطها الحسابي المنطقي المقدم آنفًا، الذي يختزل لنا في طياته جملة من الصيغ المحرمة الأخرى، نتبين -بوضوح- أن الإعلان الإسلامي أكثر تحر ودقة للمشروعية في أركانه الكبرى: (المنتج، الإعلان، الوسيلة) من غيره، وأكثر مضمونية لحفظ الحقوق، واحترام الحريات، وتوقير المحرمات والحرمات. وأنه معادلة بأركان رئيسة ثلاثة، إذا اختل منها ركن أصبحت باطلة، وغير جائزة القبول، ولو وقعت بالفعل فهي في دائرة الحرام.
وبهذه المبادئ الأصولية الشرعية، يضمن الإعلان الإسلامي مشروعيته، ويحقق إسلاميته. كما يضمن تميزه عن غيره من الإعلانات البشرية الوضعية (منطلقًا. وسيلة. غاية)، وتضمن الوكالات الإعلانية الإسلامية مشروعيتها، وولاءها لله رب العالمين، ولخدمة دينه، وهدي عباده الضالين.
------------
فصل: "الإعلان الإسلامي: محدداته وأطره المرجعية"، من كتاب "الامة" عدد 71، المعنون ب: "الإعــــــلان من منظــور إسلامي"
21-04-2008
Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /htdocs/public/www/actualites-news-web-2-0.php on line 785