علينا الخروج من ضيق الأهواء والوهم نحو وسع الفكر: العدو يمكن أن نلتقي معه في مساحات ما
فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 112 محور: المفكر التابع
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
البعض فهم ما كتبته أمس حول وجوب الفصل بين التناول الفكري والتناول السياسي (*)، فهما على غير دلالته
هم تصوروا أني أقف مع عبد الناصر والبعثيين وبورڨيبة، أو قريبا من ذلك، وهو فهم غير سليم لأنني لم أرد ذلك ولا دلالة ماكتبته تؤدي لذلك
ما كتبته لايعني مساندة ولايعني معارضة لهؤلاء لأن الموضوع لم يكن ذلك أصلا، إنما هو كلام يتحدث في مستوى آخر، إنه مستوى سابق عن الموقف من أولئك
أنا تناولت أهمية التعامل مع الحقيقة بأقصى الممكنات بغرض استيعابها ومن هناك الإلمام بالواقع الموضوعي لأن ذلك من مصلحتنا (هنا لا أفصل كثيرا بين الحقيقة والواقع)
أردت القول أنه لايصح اتخاذ المواقف قبل أن نفهم الحقائق، وأن المواقف التي تصدر من دون بناء وفهم مسبق، هي عبارة عن أهواء وأوهام، وعادة تكون تبعاً لمواقف الغير مما يحولنا لإمّعات لهم
-------
عموم الناس تتعامل بأساليب تنمّي الوهم والتحيّزات:
1 - هم يعتقدون أن الحقيقة لا توجد إلا في شكل ثنائية المعطيات وليست طيفا من المعطيات، لذلك هم إن رفضوا أحدا رفضوا كل مواقفه لأنهم يفترضون أنه إن كان سيئا في أمر ما فكل باقي أفعاله بالضرورة فاسدة، وإن كان جيدا في أمر فهو بالضرورة جيد في باقي الأفعال والمواقف، وهذا تصور غير صحيح مبني على فرضية سطحية بدائية الفهم
إذ معطيات الواقع تتنوع في أصنافها:
- فمنها المعطيات الثنائية، كحقيقة خبر حول موت أحدهم، فهو نعم أو لا
- ومنها المعطيات العددية، فعمر أحدهم أو قيمة ثروته معطى عددي كمي، وليس ثنائيا يحدد بقيمة تدور بين نعم و لا
- ومنها المعطيات السائبة المتحركة في طيف ممكنات واسع، إذ موقف أحدهم من قضية أخلاقية أو سياسية أو فكرية ما مثلا، مسألة يمكن الحديث فيها باتساع ولايمكن أن تضبط بحدين نعم و لا أو بحدود عددية معينة
2- لأنهم ينطلقون من توهم أن حقيقة الموجودات ثنائية، فإنهم يستخلصون من ذلك أن رفضك لموقف أحدهم يوجب رفض كل أفعاله، وأنه لايمكن وجود مساحات نتفق فيها معه
هذا تصور غير سليم، يمكن دحضه حينما ندرك أن الواقع ومكوناته ومنها الفرد لديه مجموعة من الجوانب وليس واحدا فقط، ذلك يعني أن عدم صلاح ورفض جانب منها، لايعني فساد كل الجوانب الأخرى
بالتالي إن رفضنا صفة أو فعلا ما لدى فرد، فذلك لايعني بالضرورة وجوب رفضنا لصفاته الأخرى لأنها ليست بالضرورة فاسدة
3- هذا مفاده أن من نختلف معه بل من نغالبه باعتباره عدوا، يمكن أن نتفق معه في ماقد يقوله في مواضيع معينة مما لاتدخل في مساحة التنازع
وأن نلتقي مع عدو في مساحات لايعني موقفا معياريا إيجابيا نحوه، وإنما يعني وصفا موضوعيا لحقيقة فعل واقع كما هي، إذ يمكن تعريف الحقيقة في أبسط مستوياتها أنها الموجود في حالته قبل أن يطرأ عليه تغيير يهدف لإخفاء عوامله الموضوعية
إذن اشتراكنا مع عدونا في مساحات هو تعلق بالحقيقة وليس تعلقا بذلك الطرف، أي أننا حينما نقر بصوابية موقف عدونا فنحن نقر الفكرة ونقره هو في تعلق بتلك الفكرة، لأن تلك الفكرة مستقلة في صوابيتها عنه
لذلك حينما ينصر القوميون ممن حكم، اللغة العربية، فنحن نوافقهم لأن نصرة اللغة العربية في ذاتها عمل صواب نوافق عليه ولا تعلق لتلك الصوابية بالقوميين
وأن يكون البعثيون عرّبوا العلوم فذلك فعل جيد نوافقهم عليه
وأن يكون عبدالناصر قام بخطوات اجتماعية واقتصادية رفعت مستويات المحتاجين، فذلك أمر جيد في تعلق بذلك الموقف الاقتصادي الاجتماعي
وفي كل الحالات هذا لايعني موافقة لا للبعثيين ولا لعبد الناصر في غير تلك الأفعال موضوع الاشتراك في الموقف
الآن أن تكون موافقتنا لهم ولأفعالهم الجيدة تلك يمكن أن تضيف رصيدا شعبيا لهم وينمي رصيدهم السياسي، مما يدفع البعض لإخفاء انجازاتهم تلك، هذا مستوى آخر وهو التقييم السياسي والمدخل للأهواء التي تبعد عن الموضوعية
انا لا أقول بعدم اتخاذ المواقف السياسية، وإنما أقول أن التناول الفكري الموضوعي إن اعتمد المسار السياسي في الفهم فإنه سيجعلنا نبتعد عن الحقيقة، وهذا ليس في مصلحتنا، اذ الإحاطة بالواقع والحقيقة فعل يجب أن يسبق اتخاذ المواقف وإلا تحركنا بمعطيات ناقصة
-----
(*) التناول الفكري يجب أن يختلف عن التناول السياسي: التجارب القومية، الجهاديون، بورقيبة..