فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 225 محور: المفكر التابع
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لاحظت وجود تصور لدى العديد مفاده أنه بغرض إثبات علمية تناول موضوع ما، فإنه يجب أن يحصل المرور من خلال الإحصاء ثم إثبات الفكرة أو نفيها، لا أدري من أين لهم بهذا الفهم للإحصاء، لأنه تصور غير سليم
في ما يأتي سأبيّن التالي:
- أن الإحصاء يصحّ في الكميات وليس في الكيفيات
- وأن الإحصاء لا يصحّ اعتماده في إثبات الوقوع
- وأن الإحصاء لايصحّ استعماله في ما لا يصح وجوده
----------
1- الإحصاء منهج كمّي في التناول، يتحرك في حقل معطيات موجودة ويسعى لتتبع متغيرات يمكن رصدها بالقياس الكمّي
إذن فكرة الإحصاء تنبني على التسليم بوجود الظاهرة / موضوع الدراسة، عكس الرياضيات التي تسعى الدالة فيها (fonction) للنظر في شروط تحقق وجود الظاهرة ومدى تواصلها
ثم إن الإحصاء يتتبع ما يمكن إخضاعه للقياس العددي، فكل ما يمكن قياسه نسبة للزمن أو نسبة لمتغير آخر، فهو عامل يقاس ويمكن إحصاؤه
لذلك الإحصاء يطال فقط الخواص الكمية للموجودات، لكن لا يمكنه تناول الخواص الكيفية للاماديات (ليس الموضوع هنا الإحصاء بمعنى دراسة الماديات)، لأن تلك الكيفيات ليست صفة نهائية أولا من حيث أنها وضع ذاتي يعتمد مرجعيات غير موضوعية مما لا يتفق حولها بالضرورة، فلا يمكن الإتفاق حول مسطرة قياسها وبالنتيجة لايمكن قياسها
وثانيا لأن كيفيات اللاماديات هي صفات تلحق الأفعال، فهي عبارة عن محور آخر يقيس الفعل إضافة لمحور الزمن الذي يقيس التحقق المادي، أي أنها تفصيل من الموجود الكمي مساحتها تنتهي عند صاحب الخاصية مما لا يعني بالضرورة كل الناس
مثلا الحزن والفرح والكرامة والجبن والأخلاق، فهذه صفات لايمكن إخضاعها للإحصاء الكمي لأنها عبارة عن محور إضافي يقيس كيفية التحقق المادي الزمني
2- الإحصاء يتحرك بمسلمة وجود الموضوع أي تحقق الظاهرة، فالإحصاء لاينظر لما قبل ولما بعد وجود الظاهرة موضوع الدراسة، فهو ليس كالدالة الرياضية (fonction) التي تدرس التغير الزمني للظاهرة وتنظر في مجال صحة الوجود (domaine définition) وأي النقاط تتقطّع فيها (continuité) وتغيب الظاهرة موضوع المنحني الممثل للظاهرة (courbe)
والإحصاء ليس كالمنطق الذي ينظر في الشروط التي تنتفي فيها الظاهرة
إذن إن أردنا تناول وجود أمر ما، لا يمكننا ولايصح اعتماد الإحصاء، وانما علينا إعتماد شرط منطقي
3- لما كان الإحصاء لايعنيه التناول الكيفي، فإنه لايفرق بين ما يصح وجوده وما لايصح، لأن تقييم صوابية (*) الوقوع قياس كيفي ينظر فيه لشروط منطقية وليست إحصائية
لذلك قبل المرور للتناول الإحصائي علينا المرور بالتناول المنطقي الذي ينظر في مدى صوابية الوقوع، بالتالي ما لايصح وجوده لا يصح تناوله إحصائيا
والحكم بصوابية الوجود، لا يستند للإحصاء وإنما للمنطق المتفرع من مسطرة معيارية تقول بذلك وعدمه
-----------
أقدم مثلا:
في كتابي "الربط اللامادي" الذي رفضت فيه استعمال الفرنسية لغة متسيّدة في كل مساحات الواقع والفعل في تونس، انتقدني البعض حول غياب إحصائيات لتأكد تلك الفكرة
وهذا نقد غير سليم لأنه يعتمد فهما قاصرا لدور الإحصاء، حيث الإحصاء ينظر في التفاصيل مع تسليم بصوابية الوجود، بينما أنا أرفض أصلا وجود الظاهرة وتحوّل الفرنسية اللغة الأجنبية للغة طاغية، فلا معنى للبحث في التفاصيل مادمت أرفض الوقوع ابتداء
أي أن مشكلتي ليست في درجات ونسب استعمال الفرنسية، وإنما كيفية استعمالها
فهذا نظر في الوجود وشروطه وليس في التفاصيل
بالمقابل لو كنت من الذين يقبلون بالتبعية وبأن تتسيّد لغة أجنبية المجال في تونس، لكن مشكلتي فقط مع نسب استعمال الفرنسية في مجالات معينة، ساعتها سأنظر في التفاصيل وأقدم إحصائيات حول كون استعمال الفرنسية بتلك النسبة وفي ذلك المجال لا يصح لكنه يصح بنسبة كذا وكذا مثلا
الخلاصة إذن أن الإحصاء لايجب أن يعتمد كل مرة وأنه ليس دليلا أو شرط علميّة التناول، وإنما الإحصاء لا يصح إستدعاؤه إلا في حالات البحث في تفاصيل ظاهرة مع التسليم بصحة وجودها، لذلك فإن التناولات التي تنظر في الظواهر والواقع في مساره العام لا يُستدعى فيها الإحصاء ولايجب ذلك، لأنه سياق يبحث في شروط التحقق قبل الدخول للتفاصيل
--------
(*) تستعمل عادة الصوابية والصحة بنفس الدلالة، لكن لو أردنا الدقة فإن الصوابية غير الصحة، إذ الصوابية تقييم معياري منطقي، بينما الصحة قياس كمي لخاصية