ضعف قدرات التجريد لدى "النخب"، هو الوجه الآخر لمشاكلنا
فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 126 محور: المفكر التابع
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تصوّر مجموعتين من الأفراد، إحداهما تتكوّن من أطفال روضة وضعتهم معلمتهم في مكان مغلق ثم أمرتهم بعدم مغادرته، وقد شغلتهم بألعاب
المجموعة الثانية تتكوّن من شباب وكهول، وُضعوا في نفس المكان الذي وضع فيه أطفال الروضة، وقد أمروا أيضا أن لا يغادروا ذلك المكان، وقد يكون تمّ شغلهم بألعاب وغيرها من الملهيات
لو رجعنا بعد فترة تقاس مدتها بما يكفي لإجراء التجربة، فالأرجح سنجد أن أطفال الروضة لم يغادروا المكان المغلق وبقوا منشغلين بملهياتهم ولم يفكروا أصلا بالمغادرة
بينما سنجد على الأرجح أن البالغين من المجموعة الثانية، حاولوا الخروج من المكان المغلق ولم يقتنعوا بأدوات التلهية
-------
قد يبدو هذا المثال بديهيا، لكني أريد أن أخرج ببعض دلالات الفرق ببن المجموعتين، والفرق كما سيقال يعود لاختلاف قدرات الإدراك والنضج بين المجموعتين وغيرها من العوامل، وكلّ ذلك سليم من بعض الزوايا، لكن الأمر من ناحية أخرى يعود للفروق في قدرات التجريد
التجريد يمكنني تعريفه من بعض الزوايا، أنه قدرات تكوين المعنى بالإنفصال عن المدركات الحسية، فهو قدرة التمثّل الذهني للمعنى باستقلال عن عينات الواقع
إذن التجريد هو الوجه الآخر لما نسميه النضج وتطور القدرات الذهنية، لذلك فقدرات التجريد يفترض أن تنمو مع النضج العقلي للأفراد
بهذا المعنى، يدرس الأطفال في أول تعليمهم المفاهيم الأولى للموجودات من خلال المحسوسات (الأعواد، الأقراص، الصلصال...)، لأن قدرات التجريد أي تمثّل المعنى للعدد "واحد" مثلا، باستقلال عن الموجود، تكون ضعيفة
والنضج يفترض أن تنمو معه مساعي التعالي عن الواقع وعيناته، بالتوازي فالتجريد يفترض أن ينتج دواعي التخلص من تحديدات الواقع وتحكماته، لكي نرتقي من حالة أطفال الروضة نحو حالة كهول المحلّ المغلق
بالمقابل فإن ضعف التجريد يجعل الفرد ملتصقا بالتحديدات الواقعية للمعنى، أي أن معنى المفهوم يكون مرتبطا بنماذجه الواقعية ويخلو من ممكنات أخرى محتملة تصوريا
لذلك يتحول الواقع للمساحة الوحيدة للمعنى، وتنعدم ممكنات أخرى للمعنى من خارج ما يقدمه سادة الواقع
إذن ضعف قدرات التجريد يحوّل الواقع لحقيقة أنه المجال الوحيد للمعنى الممكن، وهذا يجعل الأفراد أُسارى تحكمات منظومات التوجيه الذهني إذ ما يقال أنه المجال الوحيد للتحرك مما لاتجب مراجعته يتم التسليم به، وما يقال لهم أنه المعنى المعتبر لمفهوم ما يقفون عنده، ومايقال لهم أنه جيّد وقدوة ومقدس يقبلون به
بعض سبب ذلك أن الفرد لايملك طاقة إدراك معاني من خارج الواقع وتحديداته لضعف تصوّري لديه أي ضعف قدرات التجريد عنده
--------
منظومات التحكم الذهني تؤدي دور إضعاف قدرات التجريد لدى الفرد من خلال التشويش أو الصدّ عن التفكير خارج تحديدات الواقع، أي أنها تريد إبقاءه كأنه طفل برَوضه من حيث قدراته التجريدية
من زاوية أخرى فإن القبول بالواقع في عيناته وعدم مغادرتها نحو البحث في تاطيراتها التصورية هو إحدى نماذج ضعف القدرات التجريدية لدى عموم الفواعل المفكرة (النخب) التونسية، حيث نلاحظ عجزا غير مفهوم عن الخروج من أسر أحداث الواقع (*) وكيفياته
لسبب ما يوجد عجز تجريدي كبير لدى هؤلاء يجعلهم يرفضون التعالي التجريدي عن تفاصيل الواقع نحو البحث في أسباب وجود واقعنا الحديث وسلسلة أسبابه وبداياته ومنظوماته التصورية، وهذه كلها مسائل تجريدية منفصلة عن الواقع المباشر
لذلك يغرق هؤلاء النخب في البحث في سؤال الكيفية (كيف) الذي ينظر في عينات الواقع، لكنهم لايبحثون في أسئلة إيجاده التي تتطلب القدرات التجريدية (من، متى، لماذا..)
ونتيجة لهذا العجز التجريدي يقع بيسر نسبي التحكم في التونسيين كل مرة بإغراقهم في تفاصيل أحداث لايصنعونها وإنما هم مستهلكون لها
------
(*) الواقع المقصود هو مسار تونس الحديثة منذ عقود، حيث لايتمّ النظر في بداياتها وتأسيساتها الأولى، ويتم التسليم بالموجود في قدسية غريبة تقرب لقدسيّة عَبَدة الأبقار مع أبقارهم