كريم السليتي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1586
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
حصلت تونس بالأمس على المرتبة 12 عالميا من حيث عدد الوفيات اليومية بفيروس كورونا، وهي مرتبة متقدمة جدا خاصة وأن عدد سكان تونس لا يتجاوزون في أقصى الحالات 12 مليون نسمة. هذه المؤشرات الخطيرة يجب أن تكون صادمة لنا بكل المقاييس خاصة ونحن بلاد "الكفاءات العالمية النادرة" و بلاد "الذكاء الذي لا نظير له" و بلاد "المادة الشخمة".
إذا، لم تنفعنا المصحات الخاصة ولم ينفعنا الطب العمومي ولم تنفعنا ترسانة "الكفاءات التونسية" في مختلف المجالات في التعامل مع أزمة منتظرة، سبقتنا إليها دول عديدة وخرجت منها بأخف الأضرار. لقد أثبتت الأزمة الصحية والاقتصادية والسياسية الراهنة مرة أخرى أن مقولة "تونس تزخر بالكفاءات" هي مجرد أوهام ومجرد "خرافة وأكاذيب" للاستهلاك الداخلي، يتداولها الساسة ويُصدقها العامة. وحتى ان وجدت قلة قليلة من الكفاءات الحقيقية هنا أوهناك فهي إما مهمشة ومضطهدة وإما غارقة في حجم الأعمال البيروقراطية التي تقع على كاهلهم في ظل ركون الآخرين لعشرة الحاكم في أداء العمل.
لطالما حاول السياسيون خلال (65) سنة الأخيرة بعد الاستقلال أن يوهموننا أن تونس هي منجم للذكاء ومصنع للكفاءات وأننا أفضل من أشقائنا الأفارقة والعرب في كل شيء تقريبا، بل تمادى البعض في نرجسيته لوصف المُتعلمين التونسيين بأنهم الأفضل والأذكى على مستوى العالم. 65 سنة وهم يبيعون لنا الأوهام وبمجرد أن تغادر مطار تونس قرطاج الدولي لأول مرة، تكتشف كم نحن بؤساء وكم كنا نعيش في أكذوبة كبرى وكم نحن بعيدون جدا عن العلم والتكنولوجيا والتحضر وكم نعاني من شح في الكفاءات الحقيقية.
لا يجب أن يجرح هذا الكلام كبرياءك و"اسمع الكلام اللي يبكيك وما تسمعش الكلام اللي يضحكك" وقبل أن تحتج على كلامي الصادم لك، عليك أن تدرك و تقتنع أننا كنا كلنا مغفلين أو على نيتنا نصدق كل ما يقال لنا في الإعلام الأحادي الذي يروج لهذه الخرافة لإرضاء كبريائنا، بل إن هذه الأكذوبة أصابت أغلب التونسيين بنرجسية واستعلاء على بقية شعوب العالم، حتى أنك تسمع مثلا من شخص ركب البحر سرا (حارق) ليصل إلى شواطئ أوروبا تنظيرًا في "كيفية أننا نحن التونسيون أفضل منهم في كذا و كذا..." طيب يا حبيبي إذا كنا أفضل منهم لماذا خاطرت بحياتك لتهاجر إليهم.
إن مفهوم الكفاءة في تونس مختلف تماما عن مفهومه في بقية دول العالم، في تونس بمجرد أن يتقن التونسي كلمين باللغة الفرنسية العتيقة أو يحصل على شهادة جامعية أو حتى ديبلوم مهني يظن نفسه قد دخل في عالم الأكفاء ويصبح أستاذا في التنظير حول الذكاء التونسي والكفاءات التونسية النادرة في العالم. هل سمعت يوما تونسيا إعترف بأنه ليس كفاءة ؟!
إن الأزمات الحالية و ما وصلت إليه البلاد دليل على ضعف الكفاءة في كل المجالات، وقد يحتج البعض ويقول الكفاءات موجودة ولكن الأزمة سياسية أو أخلاقية أو بسبب البيروقراطية أو لهذا السبب أو ذاك، والحقيقة أنمفهوم الكفاءة هي القدرة على النجاح في إحداث التغييرفي بيئة غير مثالية (مضطربة)، الكفاءة ليس إتقان المصطلحات الفنية باللغة الفرنسية التعيسة و ليس تذكر بعض النظريات و القواعد العلمية أو الأكاديمية أو القانونية، و ليس القدرة على التنظير و العيش في برج عاجي من المُثل، الكفاءة هي القدرة على تحقيق نتائج إيجابية و احداث مسار من التطوير و التحسين المستمر والاطلاع و تطبيق الممارسات والاجراءات الريادية و المتابعة المستمرة لرضا الحرفاء والمتعاملين أيًا كانوا. غير ذلك لا يعتبر كفاءة بل مجرد معرفة فنية ضيقة.
دعونا نكن واقعيين ونراجع أنفسنا وخاصة نكن صادقين في تقييمنا لواقعنا خاصة بعد مجزرة الكورونا في بلادنا، (إذا لم نراجع أنفسنا الآن فمتى سيكون ذلك) و لنطرح هذه الأسئلة الحقيقية:
هل البنية التحتية الحالية في تونس تعكس وجود كفاءات وراءها؟
هل القطاع الصحي العمومي وحتى الخاص الذي فشل للأسف في هذه الأزمة دليل على وجود كفاءات؟
هل تعاطي الإدارة العمومية مع الأزمة ومستوى خدماتها للجمهور يعكس وجود كفاءات؟
هل الإعلام السمعي والبصري والمكتوب يعكس وجود كفاءات؟
وقس على ذلك في كل المجالات تقريبا...
اليوم في كل دول العالم تقريبا تعتمد الإدارات والمؤسسات على أساليب التصرف والإدارة الحديثة (حديثة في تونس لأن عمرها في العالم أكثر من 30 سنة) وتستغل الثورة التكنولوجية في تقديم خدماتها بكل سهولة وعلى مدار الساعة، لكن أنظر وضعنا في تونس اليوم صفوف أمام البلديات و البنوك و الإدارات و كأننا في ثمانينيات القرن الماضي.
في تونس تجد كل إدارة مدججة بالخطط الوظيفية والمسميات الكبيرة (رئيس مصلحة، كاهية مدير، مدير، مدير عام، مستشار، مكلف بمهمة...) لكن كم من إدارة لديها تخطيط إستراتيجي وعملياتي strategy & business plans، كم من إدارة لديها مؤشرات أداء رئيسيةKPI’s و أهداف كمية قابلة للقياس Smart objectivesبحيث تتم مساءلة المسؤولين فيها على أساسها، كم من إدارة لديها جرد عوامل النجاح الرئيسة Key Success Factors كم من إدارة لديها جرد للمخاطر Risk register ، كم إدارة فيها وحدة تدقيق داخلي مستقلة Internal audit unitو وحدة لإدارة المخاطر Risk management Unitأو الجودة، كم من إدارة تطبق قواعد إدارة المشاريع أو Six sigma أو lean management، كم من إدارة تقوم بتقديم كامل خدماتها عبر تطبيقة على الجوال أو موقعها على الانترنت، كم من إدارة تقوم بسبر آراء الحرفاء والمتعاملين لقياس مدى رضاهمSatisfaction Survey وتنشر النتائج دوريا بشكل شفاف.
ما تحدثت عنه في الفقرة السابقة يعتبر من بديهيات الإدارة و التصرف في أغلب دول العالم، لكن للأسف في تونس تجد أن التصرف رعواني كل يوم و يومه، حيث تجد أن المسؤول له دكتوراه في التنظير و الحديث الفلسفي المثالي لكن على أرض الواقع لا يحسن إعداد جدول على برنامج excel و لا حتى إعداد عرض تقديمي على PowerPoint حيث يقوم بقطع ولصق من Word إلى Powerpoint بحيث يكون العرض مجرد قراءة لكلام أدبي لا يغني ولا يسمن من جوع دون تحليل إحصائي ولا مؤشرات و لا أرقام وسط تثاؤب وضجر المُستمعين.
علينا إذا أن نعترف بواقعنا المؤلم وأن ننتقد ونحاسب أنفسنا ونحدد مواقع الخلل، عوض التكبر والبهرج الفضفاض. علينا أن نتواضع ونقر بالنقص الذي لدينا ونُقبل على التعلم ونطور من مهاراتنا وقدراتنا على التكيف مع الثورة التكنولوجية واستخدامها فعليا في خدمة المواطن والمستثمر. علينا أن نتخلى عن البيروقراطية وعن تعقيد الإجراءات الإدارية، وعلى الدولة أن تغير من عقليتها القائمة على تكبيل المواطن وإذلاله ومحاصرته بالإجراءات والأوراق ومعاملته على أنه قاصر أو مذنب مفترض. يجب أن تكون العقلية مبنية على الثقة والشفافية وعلى الردع في حال التدليس أو استغلال المنظومة بشكل احتيالي.
------------
كريم السليتي
خبير في الاصلاح الاداري
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: