يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تعيش تونس اليوم على وقع عواصف برلمانية لا تنتهي إذ تحول مجلس نواب الشعب المنتخب إلى حلبة للصراع والشتم والتطاول بشكل أصاب التونسيين بالصدمة وأسبغ على الممارسة السياسية في البلاد ثوبا قاتما من الرداءة والتعفن. وصف الملاحظون المشهد بأنه سقوط حرّ في مستنقع "ترذيل الحياة السياسية" وخيانة عظمى لملايين الناخبين الذين وضعوا ثقتهم في مجلس منتخب وضع مشاكلهم المتكدسة جانبا وغاص في الابتذال وتصفية الحسابات الشخصية.
هذا المشهد على السطح يُخفي في باطنه رسائل عديدة ويحيل على مشروع أخطر من "ترذيل العمل النيابي" وضرب مؤسسة البرلمان ليصيب السلطة التشريعية في المقتل. فلماذا يُستهدف برلمان الثورة؟ وما هي الأطراف التي تقف خلف هذه الجريمة؟ وما هي الاستتباعات الأساسية لذلك؟ وكيف يمكن إيقاف النزيف وإفشال المخطط وإنقاذ مكسب مكاسب الثورة؟
في البدء كانت الثورة والبرلمان
أطاحت ثورة كانون الأول (ديسمبر) في تونس بنظام "بن علي" أو بتعبير أدقّ أطاحت برأس النظام وبقمة جبل الاستبداد لكنها لم تقتلع الجذور الأخطر لنظامه وشبكاته الإعلامية والمالية والسياسية. في تلك اللحظة كان ذلك ممكنا بفضل السقف العالي للموجة الثورية وبسبب الرعب الذي أصاب الدولة العميقة وأذرعها السطحية الظاهرة. صحيح أن أخطر مكونات الاستبداد هي ثقافته ووعيه ونمط السلوك والتفكير الذي فرضه على الفرد والجماعة خلال عقود من حكم الطاغية بورقيبة ومن بعده بن علي.
بعد مسار انتقالي صعب وعسير نجحت الثورة في تحقيق مكاسب عظيمة رغم السياق الدولي والإقليمي المشتعل ورغم كل الاغتيالات والعمليات الإرهابية التي استهدفت التجربة التونسية بهدف إلحاقها بالتجربة المصرية أو الليبية أو السورية. انتخبت تونس مجلسها التأسيسي الذي صاغ دستور الثورة ووضع الأسس الأولى للبناء الديمقراطي ووضع لبنات المؤسسات الدستورية وصاغ نظاما شبه رئاسي توزعت فيه السلطات بين رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة.
يمثل البرلمان قلب نظام الحكم في تونس ويشكل أهم المكاسب الثورية لارتباط أعضائه بالانتخاب المباشر من الشعب على قوائم حزبية أو مستقلة. ويكون رئيس الجمهورية بذلك محدود الصلاحيات حتى لا تتغوّل مؤسسة الرئاسة ونعود إلى الحكم الرئاسي وطغيان النظام الفردي في ممارسة السلطة السياسية، أما رئيس الحكومة فيكون رأس السلطة التنفيذية والمباشر الأساسي لسياسة الدولة بتزكية من البرلمان أولا ومن رئاسة الجمهورية ثانيا.
استهداف السلطة التشريعية
رغم كل المآخذ ورغم كل النقد الذي يمكن أن يوجه إلى المُنجز البرلماني فإنه يبقى أعظم المكاسب الثورية في تجربة ديمقراطية هي الأولى من نوعها في المنطقة العربية كلها. مرّ برلمان تونس بعديد الهزات وكادت الدولة العميقة تُجهز عليه خلال أوج المحاولات الانقلابية إثر الاغتيالات التي عرفتها تونس بعد نجاح الانقلاب العسكري في مصر في صيف 2013.
لم يكن البرلمان في تونس منذ انتخاب أعضائه ثوريا محضا بل كانت الدولة العميقة وبقايا النظام القديم حاضرة فيه وممثلة بكتل وأحزاب عديدة. لكنه نجح رغم ذلك في تجديد نفسه وفي إنقاذ المسار من كل المحاولات والمشاريع الانقلابية.
اليوم يعيش البرلمان حالة من الصخب الحاد والتجاذب الشديد بشكل مثير للريبة والتساؤل، لأن الأطراف التي تقف وراء هذه العملية لا تقتصر على بقايا النظام القديم والكتل الممثلة له في البرلمان والمدعومة إماراتيا وخليجيا بل تشمل كذلك عناصر جديدة تمتد أذرعها إلى خارج المجلس.
التراشق البرلماني ظاهرة صحية بل هو أرقى مظاهر التجارب الديمقراطية مادام ملتزما بالدستور وغير منخرط في المشاريع الانقلابية والأجندات الخارجية. فقبة البرلمان لم تعد ساحة الصوت الواحد ومنبر الحاكم بأمره، حيث يكتفي النائب بدور المهرج الذليل لتمرير القوانين التي لا تهدف لغير حماية النظام ودعم الاستبداد كما هو الحال في أغلب البرلمانات الصورية العربية.
لكنّ الجديد في المشهد وهو جوهر هذه المقاربة الموجزة إنما يتمثل في سعي أطراف بعينها إلى ضرب السلطة التشريعية تمهيدا لعملية أكبر. هذا المخطط لا يمثل الطرف المشاغب والمهرج داخل البرلمان فيه إلا أداة رخيصة في يد منظومة عربية ودولية تعمل على إجهاض التجربة وضرب مصداقيتها.
"ترذيل البرلمان" إنما هدفه ضرب مصداقية المؤسسة الدستورية التي تمثل قلب نظام الحكم وجوهره في أعين التونسيين تمهيدا للانقلاب عليها أو عزلها. هذا المخطط هو الذي يفسّر سبب التصعيد الأخير تحت قبة المجلس وتضافر جهود المنصات الإعلامية التابعة للدولة العميقة من أجل تشويه المجلس والهجوم على أعضائه.
المستهدفون والمآلات
لا تستهدف أذرع الدولة العميقة ممثلة في رجال النظام القديم من إعلاميين ورجال أعمال وسياسيين حركة النهضة المحسوبة على التيار المحافظ بعد أن أعلنت مصالحتها مع المنظومة القديمة وقبلت بمشاركتهم في الحكم. وهي لا تستهدف حزب ائتلاف الكرامة وهو القوة الصاعدة الجديدة في البلاد والتي تحظى باحترام وتقدير جزء كبير من الجمهور التونسي. فرغم ما يتعرض له نواب الائتلاف من تشويه متعمد ومدروس إلا أن الحملة ضدهم لم تنل منهم بل ضاعفت من شعبيتهم بشكل سيجعل منهم قوة سياسية يحسب لها ألف حساب في الانتخابات القادمة إن هي نجحت في تفويت الفرصة على المتربصين.
تستهدف الحملةُ الثورة التونسية برمتها وتعمل على إجهاض مسارها من خلال تقويض عمل البرلمان تمهيدا لانقضاض الرئاسة على السلطة لكن بشكل تدرجي سلس. فالرسائل القادمة من قصر قرطاج لا تبشر بخير خاصة تلك التي يرسلها المقربون من الرئيس والمحيطون به وهم يعملون على مشاريع تكون بدائل لنظام الحكم والمستهدف بها هو برلمان الشعب. صحيح أنه من المبكّر الحديث عن تورط الرئاسة في مشروع ضرب البرلمان لكن تصريحات الرئيس الأخيرة ولقاءاته الحصرية بضيوف تونس التي توجب بنص الدستور حضور رئيس الحكومة ورئيس البرلمان تعزز ما ذهبنا إليه.
لا يمكن الانقلاب على التجربة التونسية من الداخل دون إضعاف البرلمان أو الحدّ من سلطاته، ولا يمكن ذلك دون تشويهه ونزع الشرعية عنه في عيون التونسيين. هذا المخطط المحتمل يبقى واردا ما لم تتوقف الأطراف المتورطة في هذه العملية أو الساكتة عنها والمستمتعة بفصولها عن دعمها سرّا أو علنا.
الخاسرون من الثورة كثيرون وعلى رأسهم رجال أعمال كبار يملكون الإعلام والسلطة ويديرون شبكات كبيرة تجمع بين الجريمة والتهريب والفساد والتشويه وصولا إلى تنفيذ العمليات الإرهابية كما ظهر ذلك من خلال "شبكة الوردانين" التي نجح الإعلام في دفنها وطمس جرائمها. وهي شبكات مرتبطة بأجندات خارجية ومشاريع انقلابية عربية دولية تستهدف جميعها التجربة التونسية التي تراها خطرا عليها وعلى النظام الرسمي العربي والنظام الإقليمي بشكل أعمّ.
بناء على ما تقدّم فإن المسار التونسي يبقى مهددا في حال بقاء المؤسسات على ما هي عليه وفي حال لم تسارع النخب السياسية إلى تجنب السقوط في الفوضى والانحباس الذي يستهدفها جميعا ولا يستهدف طرفا واحدا مثلما توهم بذلك منصات الدولة العميقة وأذرعها الإعلامية والفكرية.
من جهة أخرى سيكون المقامرون بالتجربة الديمقراطية في تونس أمام مشهد خطير في صورة تواصل العبث بمكتسبات الثورة ومسارها لأنه سيخلق بدائل قد تكون أشد عنفا وتطرفا. وهي بدائل لن يقتصر تأثيرها الخطير على المجال التونسي بل سيضرب سالبا كامل الإقليم كما حدث ذلك إيجابا خلال الانفجار التونسي الكبير في مطلع سنة 2011.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: