البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

آن أوان العدالة المائية في تونس

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 3889



أعادت مدينة جلمة (وسط غرب تونس) أزمة المياه في تونس إلى سطح النقاش، لكن النقاش الجدي لا يبدأ، فالحكومة تعرف فقط أن تردم المشاكل تحت قنابل الدخان، فتونس تعيش أزمة مياه رغم سياساتها المائية المتقدمة على نظيراتها في المنطقة، للأزمة المائية وجهان بارزان وتفاصيل فرعية خاصة بكل منطقة جغرافية: الوجه الأول هو ندرة المصادر المائية خاصة في ظل الانحباس الحراري الآخذ في التفاقم محليًا وعالميًا والثاني هو سياسات سوء التصرف في المتاح من الثورة المائية فوق الأرض وتحتها.

وقد أثارت مدنية جلمة في الوسط التونسي المشكلة بوجهها وسنكتب في الموضوع رغبة في إعادة النقاش إلى السطح خاصة بعد الانتخابات البلدية التي ستمنح نظريًا للمدن سياسات مستقلة قد تصل - وهذا أمل - إلى تدبير سياسات مائية محلية تعالج الأزمات المتكررة بشكل جذري؛ فتخرج تونس من قائمة البلدان المهددة بالعطش.

سوء التوزيع الطبيعي للثروة وسياسة سوء التصرف

الخريطة المائية في تونس ليست متوازنة وهذه معطيات طبيعية لا دخل للحكومات فيها، ففي الشمال الغربي نقترب من منطقة ألف مليمتر في السنة بينما في الجنوب ننزل تحت منطقة 200 مليمتر كمعدل سنوي، لكن الجنوب والجنوب الغربي يسبحان فوق بحيرات مائية عميقة قادرة على تعويض النقص في التساقطات.

تمت تعبئة موارد مياه الشمال في شبكة من السدود بنسبة تفوق 80% من الكميات المحتملة سنويًا وهذا نجاح تراكم عبر سنوات طويلة، ظل خط المدن الساحلية فقيرًا إلى المياه الجوفية ومياه الأمطار، ومن هنا بدأ سوء التصرف في الثورة المائية.

الطلب المرتفع على مياه الري في منطقة الساحل الممتدة من نابل (الوطن القبلي) إلى أقصى الجنوب (جربة) وخاصة نتيجة الاستثمار الكثيف في السياحة الساحلية جعل الحكومات منذ الاستقلال تعتمد على مياه الشمال فتنقلها إلى الساحل وخاصة بعد سنة 1980 (تاريخ إطلاق مشروع مياه الشمال عبر قناة مجردة الوطن القبلي والتي تم تمديدها عبر السنوات إلى ولاية المهدية)، بدا هذا ضروريًا كحل وحيد متاح لمشكلة نقص المياه في الساحل لكن هذا التبرير يغطي ما يمكن تسميته بفضيحة تنموية، فمناطق الشمال التي يخرج الماء من تحت أقدام أهلها (السدود قديمها وحديثها) بقيت بلا أي استثمار سياحي أو زراعي يعوض أو يقابل غياب كل بنية صناعية فيها.

حدث شيء مماثل في الوسط والجنوب، إذ تم استنزاف مياه المائدة الجوفية العميقة الباردة والساخنة لصالح مدن ساحلية صفاقس وقابس خاصة، فصفاقس تمول بمياه الحوض الأوسط من تحت القصرين وما جاورها وآخر الآبار التي أثارت المشكل بئر حديثة بمنطقة جلمة حفرت لتزويد صفاقس رغم أن مطالب أهل المنطقة في الماء رفعت قبل ذلك بوقت طويل.

في الجنوب الشرقي وبموازاة مشروع مياه الشمال أطلقت حكومة محمد مزالي 1980 مشروع مياه الجنوب الذي نقل مخزون 6 آبار عميقة (أكثر من 2500 متر عمق) إلى مدينة قابس لإحياء الواحة القديمة وغسل الفسفات ولاحقًا لري المدينة بعد إنشاء محطة تحلية.

كل مناطق تصدير (أو تحويل) المياه هي مناطق فقيرة جدًا وبها نسب بطالة عالية وفقر مدقع كما أنها تمتلك أكبر مساحات زراعية غير مستصلحة (أو قابلة للاستصلاح)، لكن النتيجة أن الأرض بارت والسكان (خاصة الشباب) انتقلوا للبحث عن العمل في مدن الساحل (و/أو هاجروا سرًا إلى أوروبا) ومن بقي منهم وصل مرحلة العطش وهذا سبب تمرد أهل جلمة على المزيد من ضخ المياه من منطقتهم نحو صفاقس في حين أنهم يعطشون وتعطش أشجارهم القلية ودوابهم التي تهاجر للشمال هربًا من الجفاف المتكرر.

الفضيحة التنموية

هي أنه عبر الزمن تحولت مناطق الشمال والوسط الغربي والجنوب الشرقي إلى مناطق مصدرة للمياه ولليد العاملة، فالعمالة تولد في الشمال كما يسقط المطر ثم تلتحق بمياه الأمطار للعمل في مصانع الساحل ونزله وينتهي بها الأمر بتعمير الساحل الذي كلما ازداد عدد سكانه ازداد طلبه على الماء فزاد من تفقير الشمال وإقفار أرضه، وقد كشفت إحصاءات السكان لسنة 2014 أن مدن الشمال تفقر سكانيًا بأسرع مما ينتج عن ارتفاع نسب الوفيات وانخفاض نسب الولادات الطبيعي.

التصدي الخشن لتحركات جلمة الأخيرة كشف شعور الحكومة الحاليّة وريثة تاريخ السياسات القاصرة لما قبل الثورة بالعجز أمام معضلة المياه وعدم قدرتها أو رغبتها (وهو ما أرجحه) على معالجة المشكل بشكل جذري يعيد توزيع الثورة على قاعدة الإنصاف بين الجهات.

لقد كان يمكن نظريًا زرع إمكانات تنموية صناعية في مناطق إنتاج الماء لتعويض الخلل بالنظر إلى فقدان مدن الساحل لإمكانات مائية، ولكن الذي حصل أن مدن الساحل استحوذت على السياحة والصناعات القليلة واستنزفت الماء من الشمال والجنوب فوسعت الشرخ التنموي بشكل غير قابل للإصلاح.

عملت الحكومات وتعمل على إبقاء مناطق فقيرة وضعيفة مصدرة لليد العاملة الرخيصة وغير قادرة على الاستفادة من الثورات الطبيعية التي تحت أقدامها، وهذا أسهل لدى الحكومات من وضع سياسة مائية جديدة لا تقوم على استنزاف الموجود بل خلق الثورة المائية من البحر وهو مصير محتوم يتأخر التفكير فيه بالنظر إلى كلفته العالية الآن وبالنظر خاصة إلى أنه يمكن أن يؤدي الى توازن جهوي يفقد السلطة السياسة ذات القاعدة الجهوية القدرة على السيطرة على أطراف البلد التي لا تحتاج أن تتسولها للعمل.

العدالة في الماء هي عدالة في التنمية

ليس من مصلحة أي حكومة أن يتركز سكانها في منطقة واحدة وتفقر بقية المناطق خاصة إذا كانت غنية وقابلة لمزيد من إنتاج الثروة، إن ما جرى في جلمة من كسر شوكة الاحتجاج على العدالة المائية لا ينتج حلاً دائمًا، إنه إخماد حق بقوة العصا، لكن الألم كمن تحت القشرة الهادئة وسيتجدد لأنه كلما تقدم الزمن استنزفت المائدة وعطش من فوقها وانتهت فرص النزوح إلى المدن، وجب إذًا البحث عن سبل العدالة المائية (وقد نص عليها الدستور بإرساء الحق في المياه حقًا دستوريًا) وهناك مؤشر يمكن البدء به والنسج على منواله، إذ يجرى الآن إنشاء محطة تحلية مياه البحر بجربة وهي جزيرة فقيرة إلى المياه العذبة وتستهلك بحكم السياحة أكثر من حاجة ساكنتها الأصلية.

وجب إذًا أن يثمن موقع تونس على البحر 1200 كيلومتر من الشواطئ النظيفة وأن يكون ماء البحر بابًا للعدالة المائية ليبقى ماء الشمال في الشمال وماء الجنوب في الجنوب، فهناك احتمالات تنمية واستقرار سكاني ضروري في قادم الزمن حتى لا تميل سفينة التوزيع الديمغرافي وهنا سيكون على المجالس الجهوية أن ترسم هذه الخرائط الجديدة وأن تضع برامجًا للعدالة المائية تكون قاعدة انطلاق لعدالة تنهي الميز والحيف، ساعتها سيمكن الحديث عن الميز الإيجابي ولن يرد على احتجاجات العطش في جلمة بالغاز المسيل للدموع لأن جلمة لن تحتاج إلى تحرك تحتمي به من عطش السنين.



 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، الماء، الثروة المائية، التفاوت بين الجهات، الإقتصاد،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 20-05-2018   المصدر: نون بوست

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
وائل بنجدو، محمد عمر غرس الله، سعود السبعاني، أبو سمية، صباح الموسوي ، د. عادل محمد عايش الأسطل، محمد يحي، سفيان عبد الكافي، سلوى المغربي، محمد العيادي، ضحى عبد الرحمن، حسن الطرابلسي، رافع القارصي، د- محمد رحال، عزيز العرباوي، أحمد الحباسي، د - عادل رضا، بيلسان قيصر، د. صلاح عودة الله ، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، د. أحمد محمد سليمان، د - المنجي الكعبي، د. طارق عبد الحليم، رافد العزاوي، منجي باكير، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د- محمود علي عريقات، إسراء أبو رمان، حسني إبراهيم عبد العظيم، د- جابر قميحة، عبد الغني مزوز، صلاح المختار، حاتم الصولي، طلال قسومي، الناصر الرقيق، مجدى داود، سليمان أحمد أبو ستة، يزيد بن الحسين، إياد محمود حسين ، نادية سعد، علي الكاش، رشيد السيد أحمد، أحمد النعيمي، صلاح الحريري، المولدي اليوسفي، محمود طرشوبي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، المولدي الفرجاني، د. مصطفى يوسف اللداوي، د - محمد بن موسى الشريف ، طارق خفاجي، سامر أبو رمان ، ياسين أحمد، كريم السليتي، حميدة الطيلوش، محمد الطرابلسي، يحيي البوليني، د. أحمد بشير، عواطف منصور، علي عبد العال، أنس الشابي، فتحي الزغل، د. خالد الطراولي ، صفاء العراقي، محمد الياسين، عمار غيلوفي، سلام الشماع، عبد الله الفقير، أحمد بوادي، رحاب اسعد بيوض التميمي، حسن عثمان، عمر غازي، ماهر عدنان قنديل، صالح النعامي ، محمد أحمد عزوز، أحمد ملحم، أ.د. مصطفى رجب، محرر "بوابتي"، فهمي شراب، محمود فاروق سيد شعبان، د. ضرغام عبد الله الدباغ، مصطفي زهران، جاسم الرصيف، محمد شمام ، محمد اسعد بيوض التميمي، د.محمد فتحي عبد العال، د- هاني ابوالفتوح، محمد علي العقربي، إيمى الأشقر، د. كاظم عبد الحسين عباس ، عبد الرزاق قيراط ، سامح لطف الله، فتحـي قاره بيبـان، مصطفى منيغ، تونسي، فوزي مسعود ، العادل السمعلي، عبد الله زيدان، الهادي المثلوثي، د - شاكر الحوكي ، رضا الدبّابي، سيد السباعي، د - الضاوي خوالدية، فتحي العابد، أشرف إبراهيم حجاج، د. عبد الآله المالكي، عراق المطيري، رمضان حينوني، مراد قميزة، عبد العزيز كحيل، خالد الجاف ، كريم فارق، الهيثم زعفان، د - مصطفى فهمي، د - محمد بنيعيش، د - صالح المازقي، صفاء العربي، خبَّاب بن مروان الحمد، محمود سلطان،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة

سياسة الخصوصية
سياسة استعمال الكعكات / كوكيز