د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3329
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نال جائزة الملك فيصل العالمية لهذا العام في الدراسات الاسلامية بموضوع تحقيق المخطوطات، المحقق العراقي الأردني الجنسية، بشار عواد معروف، الذي يعمل منذ سنوات طويلة بمؤسسة آل البيت الهاشمية بعمان، في مشروع التفسير الكبير للقرآن الكريم، والذي تخصص في نشر كتب الحديث الشريف، المعروفة بكتب الرجال. وهو من علماء السنة البارزين بحكم انتمائه للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في بغداد، وبه يلقب الأعظمي، وعمه المؤرخ الكبير الدكتور ناجي معروف.
فله التهنئة وخاصة حين تأتيه ممن ترشحوا لهذه الجائزة أو ممن كلّت كلاكل مؤسساتهم عن ترشيحهم لها بالطرق المطروقة لنيلها. إذ أن هذه المؤسسة، مؤسسة الملك فيصل للدراسات، تمنح جائزتها فقط لمن ترشحهم المؤسسات العلمية والبحثية التي تتوجه اليهم الدعوة منها. ولا تجيز من تؤهلهم شروطها لها، بعد تبويب المقبولين منهم عن طريق لجنة، الا لمن ترى هيئتها المركبة من أبناء الملك فيصل رحمه الله منحه إياها. طبعاً للاعتبارات التي تحقق أهدافهم من الجائزة؛ فيكون التقدير العلمي أسبق لا محالة، ولكن يجبّه تقدير أصحاب الشأن في اختيار من تراه لها.
وربما تتعدد قصداً المؤسسات في البلد التي تكون هذه الجائزة قد استهدفت سلفاً مؤهلاً للجائزة فيه، لرفع الحرج، إن كان الاستهداف في الأصل للبلد، أو للمواصفات الشخصية المطلوبة لصاحب التكريم فيه بهذه الجائزة؛ تحقيقاً لأهدافها في خدمة العلم ولكن خدمة سمعة الجائزة قبل كل شيء.
واستهدفت الجائزة هذا العام العراقي بشار عواد. حتى قال عنه الاعلام عنه السعودي في تقديمه بعد تكريمه إن«هذا الرجل الأردني الجنسية العراقي الأصل كانت له أياد بيضاء على سنّة العراق فقد كان يقاوم أهل البدع والشعوبية ووقف لهم بالمرصاد، وعمل عمل أمة لوحده». وفي العام الماضي استهدفت اللبناني رضوان السيد، المصري الألماني بحكم تكوينه المخضرم في الأزهر وجامعة تونبغن. وهو كذلك معروف بما يسمونه مواقفه الحريرية، نسبة لآل الحريري السعودية اللبنانية.
وكلاهما مشهور بتنويهه بالأستاذ إبراهيم شبوح عندنا بتونس، وعمله الذي نقدناه طويلاً على ابن خلدون، في الأجزاء التي نشرها من كتاب العبر، وهما المقدمة والتعريف. تنويهٌ له، بالمقال أو بالقبول بإشرافه لتحقيق جزء من أجزاء تاريخ ابن خلدون، الى حدّ وصَف أحدهما الأستاذ شبوح بأنه أحيى ابن خلدون أكثر مما كان يستحق. فعجبنا بعد أن قرأنا آثار عملهما على جهود الأستاذ شبوح على هذا الكتاب، وقرأنا ما أسبغه عليه من تنويه الدكتور رضوان السيد، عجبنا أن يكون أحدهما إما أخلصَه القول أو أخلصه النعمة، والآخر إما أخلصه العمل أو أخلصه الجزاء.
وحتى لا أطنب، لإعادة تقدير أحدهما أو الآخر لابن خلدون من خلال ما قدماه من مساعدة يشهد لهما بها الأستاذ شبوح في مقدمة الكتاب، أُلقِي جانباً بكل ملامة عن الرجلين ولكني استجمعها باليدين لإلقائها على صديقهما الأستاذ شبوح، لأنه وضع من قدر ابن خلدون، لإرضاء تودد الرجلين اليه أو تودده لهما، فأفضى لنا من سوء تقديرهما لعلامتنا بما أفضى به في مقدمته لعمله في النشرة المسمّاة بالتكريمية لتراث ابن خلدون؛ فأظهره لنا مريضاً بالعصاب وكثير الأخطاء النحوية وكثير التكرار، وشديد تقلب المزاج وشديد التصابي، وأنه لم يكتب شيئاً ذا بال في مقدمته ولا تاريخه الا لما جاء الى المشرق، وإلا لما غادر موطنه الى القاهرة هارباً بجلده. وأن أحد المجمعيين العراقيين من أطباء القلب اكتشف مرض ابن خلدون واهتزاز مزاجه وغرابة معشره.
ونحن نعرف من العلماء الذين استخلصهم الأستاذ شبوح لعمله على ابن خلدون في المشرق، الدكتور إحسان عباس، وكيف جازاه بعد ذلك بادعاء أن عمله معه على المقدمة ذهب بوفاته وافتقده، ومع ذلك تكرّم بذكر اسمه على الغلاف وفاء لروحه، لا استخلاصاً لحقوق ورثته من عمله معه؛ وكيف أن الدكتور ناصر الدين الأسد الذي تكرم واصطفاه لإدارة مؤسسة آل البيت بعمان تحت إشرافه، انتهى أمره معه الى لفظه من ذاكرته والتبرء من أعماله على ابن خلدون بالمؤسسة التي كان يديرها على معنى الإخلاص لمهامه أولاً بها لا لاقتناص الفرصة لأغراضه من مخطوطات ابن خلدون التي استقاها من بيت الحكمة بتونس وأفشل مسعى إدارتها هناك طيلة سنوات لنشرها بإشرافها وفريق من الباحثين بها.
ولا نريد هنا التعكير على الأستاذ الدكتور بشار عواد جائزته، ولكن لرفع المظلمة على ابن خلدون في الجزء الذي حققه من العبر (وهو المجلد الرابع من الكتاب الثاني) نقدم عدداً من تسطيراتنا عليه، لنضع تحت عين القارئ نماذج من تصويباته للنص ومدى احترامه لعلم ابن خلدون وذكراه. وكيف أنه استحال نص هذا الجزء على يديه كله الى أخطاء نحوية ونقص وجب تسديده والى تحريف وتصحيف في الأسماء والأعلام.
ونرثي لحال نصوصنا التراثية على يد من لا يترددون في تصنيف أنفسهم بالبروفيسور عواد أو العطوفة شبوح، أو أصحاب الجوائز الفخمة. وكل همهم أن يعرف ابن خلدون بهم ولا يعرفون به.
وهو العمل رقم 185 من الأعمال التي عددها من مؤلفاته وتحقيقاته البالغة 189 مجلداً. أي بمعدل مجلد لكل ساعة عمل من عمره الافتراضي في المؤسسة التي كان يعمل بها. أو إذا شئت الدقة فلتراجع ترجمته لنفسه وتعديده لأعماله؛ إذ حرص فيها على ذكر عدد صفحات كل مجلد حققه بما يفوق حجمه خمسمائة أو ستمائة صفحة. وحتى لا نبخسه حقه في حرصه على تصحيح لغة ابن خلدون وأخطائه النحوية التي لا يتردد في كل صفحة تقريباً على تصويبه فيها، أنه متخرج أصلاً من قسم التاريخ من جامعة بغداد وتخصص في كتب الحديث وعلم الرجال.
ومنه جاءت تهمة الاستاذ شبوح لابن خلدون بكثرة الخطأ النحوي عنده. وربما كنا نتصور أنهما لو لم يكن أحدهما خريج علم الآثار والآخر خريج علم التاريخ، بل من خريجي قسم اللغة العربية وآدابها، لرأينا كل عبارة لابن خلدون خاطئة في كتابه وكل تعبير سقيم يجب أن يصحح ويصوّب، وهو ما دأب على فعله الاستاذ بشار عواد طوال 700 صفحة من المجلد الذي حققه من كتاب العبر لابن خلدون؛ كأن المرحوم ابن خلدون أعجزه تصحيح كتابه بنفسه على نسخة من نسخه التي أهداها أو كتبها له ناسخه المفضل ابن الفخار لمن بعثها لخزائنهم من علماء زمانه أو أمرائه أو ملوكه.
وأول ملاحظاتنا على منهج الدكتور بشار عواد، الذي له بالمناسبة كتيب في كيفية تحقيق النصوص، أهدانا الأستاذ شبوح نسخة منه كالتسويق له ليقنعنا في تونس أننا فقراء الى إخوتنا في المشرق على علاتهم لما يكتبونه عن كيفية تحقيق المخطوطات.
أول ملاحظاتنا قلت هو أنه اعتمد ثلاثة أصول مخطوطة من هذا الجزء دون أن يفصل في أهميتها أو يعرفنا بنسبتها الى سائر مخطوطات الكتاب، كالتذكير بما كتبه الأستاذ شبوح في أول المقدمة، واكتفى بالرمز لثلاثتها بالحروف كالاتي ظ ، ق ، ب. وجعل يأخذ من هذه النسخة ليقحمه في الأخرى، دون أن يلتزم بأصل ويستأنس بغيرها في التعليق عليها منه بأسفل النص لبيان وجوه الاختلاف أو التصحيح، استناداً الى المصادر التي كانت بين يدي ابن خلدون وهو الأفضل أو غيرها. وصار كل همه أن يقدم قراءة ما يجده في المصادر التي ذكرها ابن خلدون ليصحح لفظه أو أسلوبه على مقتضاها. وهذا من الحيف وعدم الأمانة في التحقيق. لأن ابن خلدون كان أعلم بما يأخذ ويترك من المصادر التي كان يستقي منها وكان يتخير لفظه وأسلوبه عليها أحياناً وهذا من حقه. وليس لأحد أن يعارض كلامه بما في المصادر المطبوعة لأنها كلها متأتية من مخطوطات ونُسخٍ لها متعددة وبعض المحققين أو الناشرين يتصرفون فيها بما قد لا يحقق الثقة المطلقة في اجتهاداتهم لإخراجها على الوجه الأكمل، الذي يعكس التأليف كما انتهى على يد صاحبه أو نقحه في مراحل حياته. وكأنه عول على تلك المخطوطات الثلاث من نسخ الكتاب لأن الاستاذ شبوح انطلق في اختيارها لنشرته لاعتبارات غير علمية بالمرة، كأن تكون إحداها عليها خط ابن خلدون، وأن أهمها كان أهداها المؤلف لخزانة الظاهر برقوق سلطان مصر، وهي التي رمز بالحرف ظ. وهذا تقدير خاطئ لأن النسخ لا تتفاضل بالمهدى اليه أو بمناسبة نسخها لخزانة هذا أو ذاك من الأمراء. بل بالقيمة الذاتية لصحة نصها بعد عرضه على قوانين اللغة والبيان وأسلوب صاحبها في ضوء المصادر الأساسية التي كانت وحدها بيد المؤلف وليس بعرضها على مراجع متأخرة أو لم تكن بيد المؤلف، ليصبح كتابه مجرد ظرف لزيادات من هنا وهناك كالتصحيح والتكميل له أو التخطئة لاختياراته. والحال أن مهمة المحقق هو القراءة الصحيحة للنص في أفضل نسخه لديه أو من جملة مقابلاته على نسخه المخطوطة والمطبوعة ولكن ليس له أن يقف عند كل اسم أو علم ليتثبت في مختلف تلفظه أو صيغه في عدد من المصادر والمراجع ويصحح النص الذي بين يديه على مقتضى تلفظ أو رسم لم يختره المؤلف أو تُثْبته نسخة من نسخ كتابه. فهذا دور الباحث والمؤرخ والجغرافي وعالم الأنساب والسلالات ونحوهم. ويجب الاعتقاد أن ابن خلدون كان يعرف ذلك ويميز ما يكتبه، وما يغفِل أمره من تلفظات أخرى لاسم شخص أو قبيلة أو بلد.
وثاني ملاحظاتنا أنه لم يرجع الى الطبعات المختلفة من كتاب العبر أو بعض أجزائه كما حققها أعلام المصححين والمحققين القدامى من أيام مطبعة بولاق في مصر من أمثال نصر الهوريني وغيره في علماء تركيا أو المستشرقين ككاترمير ودي سلان في باريس أو ابن الشنب في الجزائر.
والملاحظة الثالثة أن التأدب مع أعلام المؤلفين كابن خلدون أو الغزالي وأساليبهم في الكتاب والتأليف تحتم تقدير نسبة الخطإ اليهم في النحو ضئيلة إلا ما يكون سبق لسان أو سهواً، وإلا فإن باب الإعراب على التقدير واسع وأساليب الإيجاز في الكلام تحتمل الربط والاستئناف والتعْدية بالحروف على اختلافها لمعاني مقصودة في استعمال اللغة، وما هو جائز اشتقاقاً أو شهرة من ألفاظ اللغة وأساليب الكتاب، دون التسرع أو الترصد لهم أو لنساخهم، والايهام بأن تصحيحهم واجب أو سد النقص في عباراتهم واجب، فقد يكون ذلك من باب الحشو أو الاطناب أو عدم التقدير الصحيح لمقاصدهم. ولنا أمثلة على ذلك مما فعله الاستاذ بشار عواد في هذا الجزء الوحيد الذي حققه من ابن خلدون.
فقد يكون لم يدارس أو لم يزامل ابن خلدون مدة لمراعاة منهجه وأسلوبه. أو لم تكن بضاعته من علوم اللغة والنحو والبلاغة أو علوم الدين والفلسفة يؤهله لمضاهاة ابن خلدون في علمه وأسلوبه ولغته وبيانه. فليس المحقق كالمؤلف أو بالمنزلة التي تقاربه منه، إذا كانت تعوزه بعض أدواته العلمية أو الفنية أو الشهادة له من أقرانه أو أمثاله من العلماء في سائر الأزمان والأمصار، كابن خلدون.
رابعاً من ملاحظاتنا أن المحقق لكتاب بعينه، سبقه غيره الى تحقيقه، عليه أن يقدر أن التحقيق بتعاقب الأيدي عليه يُغني تصحيح النص وليس العكس. ولذلك فتجاهل الطبعات الجيدة التي ظهرت منذ أكثر من مائة عام على كتاب العبر لابن خلدون لا يمكن لأي كان، لا شبوح كما فعل، ولا عواد، أن يتجاهلها، ويشرع من صفر كأن لم يكن جهد سبقه لتصحيح مأثرة ابن خلدون الكبرى عبر العصور، بل على مدى ستة قرون في مئات النسخ وربما أكثر، وعشرات الطبعات المختلفة تجويداً وإتقاناً؛ بأيدي أعلام كمن سميناهم قبل قليل من العارفين بالخطوط القديمة وحيثيات النسخ وتفاضل النساخ، والعدة العلمية واللغوية والتعاطف مع المؤلف قبل ذلك كله، لإنتاج تأليفه بأقرب ما يكون من الصحة لما خلّفه بعده في أفضل نسخه أو تعديله قبل وفاته.
حتى إننا توصلنا بعد ممارسة طويلة لهذا الفن وهو تحقيق المخطوطات الى استحداث علم يمكن أن يطلق عليه علم إحياء المخطوط، لا بالمعنى المعروف سابقاً من الإحياء القائم على النشر والتحقيق، مرة أو أكثر، ولكن بإحياء التأليف نفسه عبر النشرات المحققة التي تكون قد صدرت منه مع مراعاة الأصول التي انبثقت منها، لتصحيح كثير من الخطأ واللبس الذي توالى عليها في الطبعات التي ظهرت منها، وكادت تنسي الأصل تماماً، ولكنها مقصّرة عنه بدليل تلك المراجعات التي تقع من طرف أقلام خبيرة بالتصحيح والاستدراك.
فالخوف أنه بتوالى الأعصار وافتقاد الأصل ونسخه جميعها أو إهمال مراجعتها لصعوبة الوصول اليها تقع الاستعاضة بالمطبوع المتداول، ويفقد الأصل شيئا فشيئا أهميته، مع أنه يبقي وحده القمين بتصحيح الكتاب كما خلّفه صاحبه قبل أن تتداوله الأقلام بالزيادة أو النقص أو الإهمال أو النسيان أو التحريف لسبب أو لآخر، كما في عدد من النشرات المحققة من الكتاب الواحد. ولدي من مؤلفات الغزالي وابن رشد المنشورة وكذلك ابن خلدون وغيرها ما تكاد تأسف على ما تتداوله مطبوعاتها هنا وهناك من تحريف لمعاني المؤلف ومقاصده بسبب جهل أو تسرع أو ادعاء فهم وتصويب. وكله مخل بالتأليف على حقيقة ما خلفه صاحبه بعده.
ويحتاج هذا الإحياء للمخطوط الى جمع كل المطبوعات منه، لتصفيتها من آثار الأفهام السيئة او الأقلام السيئة التي حرفتها دون أن تَقصد أحياناً، ولكن لغفلة أو تسرع أو ادعاء أو تعالم؛ ومقابلتها بالنسخ المخطوطة الباقية من التأليف ذاته، واستخدام الاليات الحديثة والتطبيقات الالكترونية المتطورة على الجهاز الحاسب للتعرف على النصوص ومقابلتها واكتشاف وجوه الاختلاف بينها وعرض ذلك كله على لجنة من الخبراء لاستصفاء ما هو أقرب للتأليف الأصلي للمؤلف كما يجب أن يقرأ بصورة صحيحة أفضل مما تقدم الى أن نصل الى حكم بأن النص الأول أصبح هو الغالب في المطبوعات المتداولة منه مستقبلاً.
ونمر في حلقات قادمة الى أخطاء هذه الطبعة للجزء الرابع من الكتاب الثاني من العبر لابن خلدون، الذي حققه الدكتور بشار عواد. وهي مجرد نماذج ولا تستوعب ما توصلنا اليه مما يملأ مجلداً بمائتي صفحة.
تونس في ٦ فيفري ٢٠١٨
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: