يجانب الصواب من يظن أنَّ الكتاب السماوي الأخير لم يأتِ لكي يؤثر في مسار العلم. صحيح أنَّه أتى بمنطق الإعجاز لكي يتسنى للقارئ أن يستلهم أنواره المرتبطة بعوالم الغيبيات العقدية والتشريعية والعرفانية عن طريق دليل المعجزة، ولكي يستنير الإنسان ببصائره في خوض آفاق التجربة الإنسانية بعمقها الروحي الذي لا يقبل التفسير السطحي للإنسان[1]؛ لكن الكتاب المبين ينبه العلم وأهله إلى أخطر قضية يمكن أن تلحق الضرر بمسار العلوم، ألا وهي قضية الوهم الذي يحصل بسبب غياب نظرة صحيحة لنظام الأنفس والآفاق الذي هو محل الفعل العلمي من خلال تكريس تجزيء تعسفي للحقيقة العلمية.
إنَّ القرآن الكريم وهو يدعو إلى القراءة العلمية إنما يريد أن ينبه القارئ إلى قضية أساسية سيحتاجها لكي يهتدي في طريقه نحو البحث عن الحقيقة، وهي أن يرى اكتشافاته علامة دالة على الله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[2]، وهي الآية التي تريد الإفراج عن القارئ من وهم المكوث في عالم المادة والانغماس فيها طلبًا لكل الحقيقة، في حين أنَّ هناك عالمًا أكبر يُحجب عن معرفة الإنسان بسبب ذلك الانغماس، صحيح أنَّه يؤدي إلى الاكتشاف وإلى الشعور بلذة المعرفة المادية الجديدة؛ ولكنه قد يخلق جهلًا كبيرًا بعالم الروح الذي يهب قوانين الحياة للمادة.
القرآن الكريم هو المصدر العلمي الموثوق الذي يُعْلمنا أنَّ صنميّة الإنسان وترابيّته لم يتخلص منها إلا "باسم ربك الذي خلق" بالنفخة من روح الله، ثم بعدها كرِّم الإنسان بتعلم الأسماء {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[3]. إذن فالعلم أتى بعد الإحياء أي بعد الإنسان؛ ولذلك يمكن القول إنَّ الفطرة سبقت العلم لكي تكون حجة عليه وموجِّهة لمقاصده، وهذا لا يعني أنها تضاد حقائقه، ويَهِمُ من يظن أنَّه لكي يعود للفطرة صفاؤها ينبغي أن نلعن العلم، لأنَّ العلم يكمل إنسانية الإنسان "وعلم آدم الأسماء كلها"؛ وإنما المشكل يكمن في ترتيب الحقيقتين المتعاضدتين: الحقيقة الفطرية والحقيقة العلمية، "اقرأ باسم ربك الذي خلق" ثم "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم"؛ حيث تصبح الحقيقة الفطرية التي خُلق الإنسان عليها ابتداءً والسعي إلى دركها ذا أولوية، وهذا ما يفسر اعتبار القرآن العالم المادي وسيلة لا غاية {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}[4]، لكن الإنسان هو مركز العملية الاستخلافية؛ لذلك اعتبره القرآن "خليفةً" والخليفة ينبغي قبل أن يكون عارفًا بأسماء الأشياء يجب أن يعي أنَّه إنسان بالمقام الذي أراده الله له ابتداءً وإلا فلن يقدّر مقام إنسانيته الذي لن يمنحه إيّاه إلا الذي خلقه وكرّمه {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[5]، حيث تصبح الأسماء (العلوم والمعارف) في خدمة الإنسان وليس العكس كما يتصور العلم المنفصل[6].
عندما نزل القرآن لم يلغِ ما تعلمه الإنسان ودوّنه بالقلم لتقييد انتقاله من غياهب الجهل إلى أنوار المعرفة؛ بل ذكّر به الإنسانَ كنعمة أكرم بها الله مخلوقه المكرم، وأتى بالذكر على القلم كأداة ترمز إلى وسائل المعرفة المادية التي تختزل الجهد الفكري والعلمي للإنسان من خلال عملية تدوين ما تصوّره عن حقائق المعرفة في وقت معين، وليتمكن بعد ذلك من أن يطور معارفه ويتعلم ما لم يكن يعلم {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلّمَ الإنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[7].
لكن القرآن الكريم أتى لكي يقول لكل قارئ متأمل في هذا العالم الفسيح إنك في رحلتك البحثية الاستكشافية لن تعرف إلا بعض الأدلة المادية، وإنك لا تستطيع أن توظفها مع معرفتك بها إلا في جانب محدود لا يفي بحق هذا الإنسان الذي تميز بنفخة خاصة من روح الخالق تعالى، وبسبب هذه النفخة الغائبة الكنه امتلك هذا الإنسان الحرية والإرادة والقدرة على الاختيار واكتسب الجرأة على السؤال {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}[8]، {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}[9]، والانطلاق نحو رحلة الاكتشاف والتجربة بدءًا من تجربة النظر {أَفَلَا يَنْظُرُونَ}[10] وتجربة تفسير الكون والتاريخ والحياة {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}[11]، ولكن دون إعراض عن تجربة البحث عن الهداية إلى الحقيقة الأولى التي خلق البشر لأجلها {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[12].
"اقرأ" خاصةٌ بك أنت أيها الإنسان:
هل يعرف الإنسان أنَّ "اقرأ" شرفته أيما تشريف؛ لأن الخالق عندما خاطب السموات والأرض قال {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[13]، مع العلم أنَّ خلقهما أكبر وأعقد {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[14]، وعندما خاطب الخالق مجتمع النّحل، ذاك المجتمع العجيب، قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}[15]؛ لأنَّ الأمر يتعلق بالجماد والحيوان والنبات المسخر لا المخلوق المخير الذي وُهب الإرادة والقدرة على الاختيار واستثناه الخالق من تِلْكُم الجبْرية المطلقة. ألا ترى أنَّ الصيغة الأمرية التي تتصدر هذا الخطاب "اقرأ" قد عدَلتْ عن صيغة الكونية الجبرية "كن" إلى الاختيارية القرائية "اقرأ" وذلك تكريمًا للإرادة الإنسانية.
إنَّ خطر القراءة باسم غير الله لا يهدد سيرورة الكشف العلمي في عالم المادة فحسب؛ ولكنه يهدد ما من أجله يريد الإنسان أن يعلم ويعرف: بلوغ المدى في السعادة، سعادة الاهتداء إلى الحقيقة. لكن الخطاب المبين يعترض بقوة على إمكانية تحقيق الغاية المنشودة والسعادة المأمولة من دون التزام منهج مسدد من عالِم أسرار الغيب والشهادة {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أن رآه اسْتغنى}[16]، فأمام ذهول الإنسان أمام ما توصل إليه من اكتشافات سيصيبه الغرور ليس لأنَّه صنع ما يمكن أن يؤدي إلى دمار الإنسان وخراب إنسانية الإنسان فقط؛ بل والأدهى أنَّ الإنسان راوده شعور بالاستغناء عن القراءة "باسم الخالق" فاطمأن إلى ذلك. والمعنى: كيف تريد أن تستمر في الاكتشاف ورحلة البحث عن الحقيقة وأنت لا تريد الاعتراف بمن رباك (من الربوبية) "باسم ربك" والذي خلقك "الذي خلق"، والدليل هو أنك أيها الإنسان حينما ستسخّر وسائل المعرفة المرصودة لأجلك التي ستكتشفها مع مرور الزمن سيظهر لك أنَّ خلْقك كان "من علق" وهو عيْنُه ما تخبرك به رسالة الله كي تنبهك إلى وجهة القراءة الصحيحة "باسم الله"، فأنت أيها الإنسان ستكتشف وستعرف وستتعلم كما فعلت ذلك من قبل بل وأفضل، ولكن لأنك محكوم في آخر المطاف بالرجوع إلى الذي رباك {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}[17] كيف يمكن أن تصرَّ على إغفال المعرفة العلوية التي يمنحنا إياها الرب عن طريق الوحي والرسالة، كيف ستواجهه؟ أي مبرر ستقدمه بين يديه وأنت الذي كنت تقبل جميع المراجع والموارد وقرّرْتَ الإعراض عن أقْوم المصادر، خاصة وأنَّه يريد أن ينقذك من الجهل بحقيقة الإنسان ويريدك أن تبلغ المقام بتخليصك من درك الانغماس في المادة قبل أن يفوت الأوان بانتهاء تجربتك في الحياة مع الذين {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الحَيَاِة الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون}[18].
في المختبر يريد الباحث أن ينتهي بالتجربة إلى نتيجة كي يحصل على الاعتراف بالذات من خلال نشوة الانتصار على الجهل والتمثل الخاطئ للظواهر؛ لأنَّ العلم الحق لا يمكن إلا أن يورّث السعادة[19]، لكن حقيقة علم الإنسان وكشفه أنَّه لم يكن مخترعًا؛ بل فقط استطاع أن ينظم المعارف والأشياء ويرتب الشروط الظاهرة لنجاح التجربة دون الانتباه إلى الباطنة الخفية التي تسهر على سيرورة النظام. إنَّ رسالة القرآن هنا إليك أيها المكتشف جد صريحة بل وصادمة، وهي أنَّ المادة التي تشتغل عليها قد تفوقك معرفة في العالم الذي تجهله، فهي توقن بواجب الوجود {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[20]، فالذرة تَنْجح تجربَتُك عليها؛ لأنها مضطرّة إلى الانتماء إلى نظام "الذي خلق"، وخروجها عن هذا النظام سيعقّد الأمر وسيجعلك غير قادر على لمس المادة والسيطرة عليها {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[21]؛ ولذلك الجاهل بأنَّ لعالم المادة قوانينه وسننه لا تنفعه أماني الفوضى والهوى واللانظام {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[22].
إنَّ الانتقال من وضعية مُجرّب إلى وضعية عيش التجربة الإنسانية في ظل نظام الخلق الذي تريده أن يبقى لكي تنجح تجربتك على الذرة لا يتحقق إلا بالاعتراف بسيد هذا النظام والاصطفاف إلى جانب ذرات المادة ذكرًا وصلاة وتسبيحًا.
من تجربة الكشف إلى تجربة السجود:
إنَّ الذي ربّاك يخبرك أنَّ التجربة الإنسانية لا يمكن أن تعيشها من دون التعرف إلى الله؛ فهو نفسه الذي وضع نظام المعرفة وشروط نجاح التجربة، التجربة المادية والتجربة الإنسانية. لا فرق بين الرب والله هنا، إنَّه الواحد الأحد والنظام سيد الشهداء {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[23]، ولأنَّ "ربك الذي خلق" وهو "ربك الأكرم"؛ فبدهيّ أن يخبرك بصيغة التأكيد {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}[24]؛ لأنَّه الوحيد الذي يحيط بتفاصيل تجربة الإنسان الاختيارية {أَلَمْ يَعْلَمْ بأنّ الله يَرَى}[25]، تمامًا - لتقريب الفهم - كما يفعل العالم عندما يتحدث بكل ثقة ويؤكد قانونًا معينًا، مع فارق كبير بين عُويلِمنا المجازي الذي يصف الأعيان الخارجية والعالمِ الحق الذي يؤكد لنا الأمور كخالق عالم للغيب والشهادة .
أنت تُخضع المادة لشتى أنواع النظر والرؤية بالعين والمجهر والمنظار ولكنك أنت أيضًا تحت المجهر؛ لأنَّه تعالى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[26]، فقد أُعطيت الحق في التجريب والتسخير لكن لا يمكن أن يكون ذلك خلقًا ولا اختراعًا. والأصل أن تحترم أيها الإنسان حقوق وشروط العقد الأول حينما قلت "بلى" في عالم الذر في الأزل، وهو ليس سرًّا؛ لأنَّ القرآن يمدك بقصّته، ويُعْلمك بأنَّه تشريف وتكليف وآية دالة على أنك لست كباقي المخلوقات، وأنَّ فيك شيئًا من عالم الغيب يفوق مخلوقات المحيط، فهذه مسخّرة وأنت المجرب الفاعل، والعقد الأول أول ما ينبهك إليه هو هذا النظام الذي أنت فيه نفسًا وآفاقًا أينما يمّمت النظر لا تجد غيره شاهدًا ومشهودًا، وإذا حاولت ادعاء العكس {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[27]، إلا في عالم الإنسان فقد تجد العكس؛ لأنَّه فاعل مختار حر مريد حتى في الوفاء بالعقد الذي أمضاه أزلًا حينما قلت يا هذا "بلى" مُقرًا بتوحيد الرب {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[28]، وهذا يعني أنَّ بإمكانك أن تحدث بعض الفوضى عندما لا تريد الاعتراف بالتوحيد وبالتالي بنظام بديع السموات والأرض وما بينهما، لكن هذا لا يحصل لك إلا في الجزء الاختياري الذي يجعلك مسؤولًا محاسبًا، فكثير من كيانك لا يستطيع أن يخرق النظام؛ لأنَّ الخلايا توحد اضطرارًا كي تستمر إلى غايتها وبقي الجزء الاختياري لديك هو المتمرد الذي يمكن أن يحدث الفوضى ولكن لا إرادة تعلو على إرادة الخالق. ولذلك فإنَّ العقاب الذي توعّدك به الخالق من علق كان بسبب الظلم الكبير الذي ترتكبه في التمرد على النظام الذي تريده لنفسك في حياتك العامة وتجاربك الخاصة، ولكنك لا تريد وبكل أنانيّة أن تعيشه كإنسان، ذاك الذي يُناقض نفسه عندما يقبل رسائل نظام الكون ويفرح بتسخيرها، ولا يريد أن يصغي إلى رسالة خالق الكون ونظامه، وهكذا القرآن الكريم لا يبالغ حينما يثير انتباهنا إلى الفساد الكبير الذي يكاد يحدث في الكون الفسيح بسبب إصرار أولئك على الإعراض عن توحيد العظيم الذي يجدونه في كل هذا النظام ويرونه في النفس والآفاق، فالكل يصطف علامات دالة على الله {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[29] فالغرض هو توكيد الحق كي تطمئن القلوب وإلا فإنَّ الإعراض عنه يكاد يسبب الاضطراب الشديد للنظام كله {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[30]. أما الذين اتخذوا الأنداد - ولكل زمان أنداده - وادعوا له الأولاد فإنَّ النظام آيل إلى الاضطراب لولا لطف الرحمن {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}[31]؛ ولذلك المنطق السليم يقتضي أن ينتظر الإنسانَ يوم للفصل كي يسأل عن طغيانه ثم تقام الموازين بالقسط لمحاسبة المعرضين عن حقيقة الله التي تناديهم من باطن الفطرة ومن ظاهر الخلق المتناسق.
وبعد أن تجد نفسك محاطًا بنداء الفطرة الجواني "بلى" وآيات نظام الخلق الملكوتي "في الآفاق وفي أنفسهم" يحاصرك التوحيد من كل المداخل، حتى عندما تجرؤ على افتراض أكثر من إله تواجهك صورة مرعبة للصراع تهدم كل هذا النظام الذي به تتذوق معنى الحياة {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[32]، وحتى الذين يصيبهم الشك الأعمى وينسبون النظام البديع إلى الصدفة واللاأدرية بقولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[33] يأتيهم الجواب عجيبًا سريعًا عن جهلهم بسر النظام وبداياته وتعاليهم عن الاعتراف بوهم العقل وقصوره {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[34].
اسجد واقترب
ولما كان الله يرى الظواهر {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[35] ويطلع على البواطن {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[36]؛ علم قدر إقبالك أيها الإنسان بصدق على التجربة الإنسانية المكرّمة بالمعرفة العلوية التي أتى بها الكتاب المبين، وهل تريد فعلًا أيها الفاعل المستخلف أن تعلم وترتقي في مدارج المعرفة بالفرار إلى واهب العلم وجميع النعم، أم أنك فاعل كاذب يدعي علم ما لم يكتشف سوى ظاهر نظامه، ثم عندما يُدْعَى إلى العلم الأكبر يريد أن ينسلخ من منطق العلم نفسه الذي لا يقبل أي مبرر لتضييع الظفر بالحقائق الكبرى التي ترشده وتُجلّي له العوالم الخفية. فكيف يقبل بالانغماس الكلي في هذا المعلوم المادي ولا يفسح لنفسه مجال الانغماس في تجربة مصاحبة العليم الخبير الموصلة إلى مقام المحبة {الَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[37] ومقام الخشية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[38]، إنَّه معيار صدق حبه للتجربة.
وإذا كنت أيها الإنسان فقط بسبب معرفتك للأسماء قد كُرّمت وبسببك عوقب إبليس لرفضه السجود لك ثم عندما تؤمر بالسجود ليكتمل علمك بأسرار التوحيد وبلوغك المقام العلمي الرفيع تجادل وتماري {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}[39] فكيف بك تريد أن تتعلم لكي تعرف الخطأ فتزيله من طريق العلم ولا تريد أن تتعلم التوحيد لتزيل الحجب المظلمة المحجمة عن الوصول إلى الفقه الأكبر. وَلِتَيْنِكَ السبب فقبل أن يذكرك في سورة العلق بأنَّ "الله يرى" حذرك من خطر التكبر الذي يعمي البصيرة {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}[40] إنها صراحة القرآن في مخاطبة الروع الواعي بالحقيقة فلا داعي للإنكار والجحود، والتظاهر بأنَّ سؤال التوحيد لا يطرق فؤادك وسمعك وبصرك {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[41].
أما إذا أصر القارئ المكتشف على غيه وضلاله فإنَّه يعاقب روحيًا بالإضلال والزيغ بسبب الحجب التي يفضل أن يبرر بها جحوده وطغيانه {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[42] ثم بعد ذلك تعاقب الناصية بسبب كذبها وجحودها للحق وإنكارها وتناقضها حينما تقبل العيش في النظام الإلهي ولا تريد الاعتراف به في الوقت نفسه {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}[43] أين فريق العمل؟ أين المستشارون؟ أين المصفقون؟ {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}[44].
إنَّ القراءة باسم الرب الذي خلق تدل صاحبها على الطريق الموصل إلى الحقيقة الكبرى في الوجود وتجعله مذعنًا للانخراط في تجربة الاتصال بمقام القرب. هذه التجربة التي لا يمكن عيشها دون رفض تلكم الازدواجية العلمية بكل صراحة وقوة {كَلَّا لَا تُطِعْهُ}[45] ثم التواضع بين يدي الحي القيوم فَالسَّير للاقتراب من الحقيقة الكبرى بالاستسلام لأمره {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}[46].
هكذا أراد الواحد الأحد الفرد الصمد: عندما تسجد له خاشعًا تريد العلم به يُكْرمك بقربه وفتح أبواب عطائه والبدء في مناجاته، وهو عين ما يخبرنا به الرسول الكريم المبعوث رحمة للعالمين عليه الصلاة والسلام بقوله: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء"[47].
[1] نذكّر هنا ببعض الكتابات التي تبرز عمق الشخصية الإنسانية ومدى حاجاتها إلى مصدر خاص يفسر خصوصياتها وأبعادها: كتاب "جدد حياتك" لمحمد الغزالي، و"الإنسان ذالك المجهول" لألكسيس كاريل، و"دع القلق يرحل" لديل كارنجي.
[2] سورة العلق، الآيتان: 1و2.
[3] سورة البقرة، الآية: 31.
[4] سورة لقمان، الآية: 20.
[5] سورة الحجر، الآية: 29.
[6] أي المنطق الوضعي الذي يريد أن يستقل بإدراك كل الحقائق، وفي هذا الصدد يقول محمد محمد أمزيان: "العلم الوضعي يمارس نشاطًا ضد الموضوعية التي قام أساسًا لتحقيقها؛ فهو أولًا يسير في نفس الطريق التي سار فيها الأسلوب اللاهوتي حينما أراد أن يستقيل وحده بإدراك الحقيقة. وهو ثانيًا في المجال الإنساني على العكس من الأسلوب الديني اللاهوتي الذي كان يختزل الحقيقة في جانبها الميتافيزيقي وبعدها الغيبي وحده، يختزل الحقيقة الإنسانية في حدودها المادية الواقعية وحدها". منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد محمد أمزيان.
[7] سورة العلق، الآيات: 3و4و5.
[8] سورة البقرة، الآية: 260.
[9] سورة الأعراف، الآية: 143.
[10] سورة الغاشية، الآية: 17.
[11] سورة العنكبوت، الآية: 20.
[12] سورة الصافات، الآية: 99.
[13] سورة فصلت، الآية: 11.
[14] سورة غافر، الآية: 57.
[15] سورة النحل، الآية: 68.
[16] سورة العلق، الآيتان: 6و7.
[17] سورة العلق، الآية: 8.
[18] سورة الروم، الآية: 7.
[19] يقول ابن تيمية: "ولا ريب أنَّ لذة العلم أعظم اللذات، و"اللذة" التي تبقى بعد الموت وتنفع في الآخرة هي لذة العلم بالله والعمل له وهو الإيمان به". مجموع الفتاوى (14/162)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1995.
[20] سورة الإسراء، الآية: 44.
[21] سورة فاطر، الآية: 41.
[22] سورة المومنون، الآية: 71.
[23] سورة الأنبياء، الآية: 21.
[24] سورة العلق، الآية: 8.
[25] سورة العلق، الآية: 14.
[26] سورة غافر، الآية: 19.
[27] سورة الملك، الآية: 4.
[28] سورة الأعراف، الآية: 172.
[29] سورة فصلت، الآية: 53.
[30] سورة المومنون، الآية: 71.
[31] سورة مريم، الآيتان: 90و91.
[32] سورة الإسراء، الآية: 42.
[33] سورة الجاثية، الآية: 24.
[34] سورة الجاثية، الآية: 24.
[35] سورة آل عمران، الآية: 5.
[36] سورة الأنفال، الآية: 43.
[37] سورة البقرة، الآية: 165.
[38] سورة فاطر، الآية: 28.
[39] سورة لقمان، الآية: 20.
[40] سورة العلق، الآيات: من 9 إلى 14.
[41] سورة الأحقاف، الآية: 26.
[42] سورة الصف، الآية: 5.
[43] سورة العلق، الآيتان: 15و16.
[44] سورة العلق، الآيتان: 17و18.
[45] سورة العلق، الآية: 19.
[46] سورة العلق، الآية: 19.
[47] صحيح مسلم، باب ما يقال في الركوع والسجود.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: