نوال زويدي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3038
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تأتينا عديد المفاهيم والمسلمات بتعريفات عدة تقدم لنا صورة للشيء المراد تذليل فهمه، ويعد تعريف هذه المفاهيم والمسلمات من الأمور أدقها الحرجة والدقيقة. غير أن علماء اللغة والمعجمين لم يتركوا لنا في اللغة نفسها ما يمكن أن يفيد الدراسات اللغوية والأدبية إلا وكان لوجدهم أثر فيها.
وبما أن نتحدث عن اللون فإننا سنكون بحاجة ملحة لشرح هذه الكلمة، فنعود بذلك إلى ابن منظور الذي عرفه في لسان العرب:
‘ لون’ اللون: هيئة كالسوداء والحمرة ولونية فتلون ولون كل شيء: ما فصل منه وبين غيره وجمعه ألوان ، والألوان : الضروب.
واللون: النوع: فلان متلون أي لا يثيب على خلق واحد واللون: الدقل وهو ضرب من النخل. واحدتها لينة. كل شيء من النخل سوى العجوة فهو من اللين، واحدته لينة وقيل هي الألوان الواحدة لونة فقيل لينة والجمع لين ولون وشبه الألوان بالتلوين وشبه ألوان الظلام بعد المغرب يكون أولا أصفر ثم يحمر ثم يسود بتلوين البسر يصفر ويحمر ثم يسود. ولون البسر تلوينا إذا بدا فيه أثر النضج.
وفقا لما تقدم من هذا التعريف، فاللون هو صفة أو صفات تطلق على الشيء كذلك هو التنوع والتعدد ونستطيع القول أنه الكثرة ما يلبث على شيء.
تتواتر المفاهيم في سياقات تحديد معنى واضح لمصطلح اللون، ولنا أن نقول هو كلمة تفتح لنا العديد التأويلات والآراء، تختلف في تحديدها لكننا حتما نؤول إلى شيء ملموس نمد به العالم. ولا نخفي ما قد أل إليه بعض الحكماء القدامى إلى أن اللون في ذاته حقيقة قائمة واعتبره البعض الأخر أنه لا حقيقة له بل هو شيء متخيل يبعث على التفكير والبحث في الشيء المفقود في حضوره.
تمثل الألوان عوالم خاصة تنعكس في ذواتنا كإحساس يؤثر في العين وذلك عن طريق الضوء. فهي ليست إحساسا ماديا ملونا، ولا حتى نتيجة التحليل الضوء الأبيض. إنها إحساس مدرك مرسل إلى العقل وذلك عن طريق رؤية شيء ملون ومضيء.
وكي نذكر حقيقة اللون يجب إدراك ثلاث عوامل هامة يقوم عليها اللون:
- النظام البصري والمستقبل
- طبيعة الشيء
- الضوء الذي يعكسه
هذه الثلاث عوامل يقوم عليها اللون حتى أنه يعد من مكونات الإطار الطبيعي لحياتنا مما جعله ميدان مثيرا للانتباه من قبل العلماء والباحثين الدارسين لشؤون الطبيعية المحيطة، وما قد تعكسه من أثر جسمي ونفسي على حياتنا وشد الانتباه الرسامين والأدباء والفلاسفة، ليكون مآل البحث الاهتداء إلى ملونات الضوء وهي البنفسجي- الأحمر- البرتقالي- الأصفر- الأخضر- الأزرق والنيلي كمكونات ألوان قوس قزح ومالها من تأثيرات نفسية فيزيائية وكميائية.
أصبحنا وفق ذلك نتحدث عن الألوان كمادة فلسفية فنبحث في الأصل، النوعية، الإحساس، الحقيقة، التكامل. فكانت مادة دسمة للغوص أكثر في غمارها وخباياها ومالها من تأثيرات نفسية عميقة تشهد أنها أي هذه الألوان مهما اختلفت درجاتها لها تأثير جلي في المشاعر الإنسانية فتستجيب النفس لأثر دون أخر. وتبقى ميولات الذات وتجيد لون عن أخر واستجابة النفس والتفاعل معه مرتبط ببعض الميولات الفردية كسرعة التأثير والتأثر نوعية اللون المعبر عنه درجة تتفاعل الإحساس مع غيره والقدرة على الجذب والتفاعل.
والواقع أن التباين النفسي للألوان هو وليد مخزون ثقافي حضاري وتاريخي كالمستوى الثقافي والاجتماعي للشخص، بعض الذكريات الخاصة والعامة كذلك ظروف التربية والنشأة إلى غيرها من إحساسات النفس البشرية.
تثير إذن الألوان عدة خصائص تعبيرية لما قد تبعثه في النفس البشرية تتفرد بعضها عن الأخر فيعمل الإنسان على استغلال ما تجود عليه الألوان من تغيرات ليستثمرها في حياته اليومية فيهتم بملاحظة الألوان وتحليل التي تحيط به يشعر بطبيعتها، يجد لها في نفسه وقعا مثير تستجيب لتأثيرها النفسي، فهي تبعث إحساسا بالحياة والحيوية الشاحبة الدقيقة واللينة هي كلها ألوان تحسسنا بالطمأنينة والهدوء.
هذا التباين في حياة الألوان هو ما يظهر في تحبيذ الإنسان للون دون غيره لما قد يبعث من انطباع سوى تعلق الأمر بالهدوء أو عكسها.
تتفاعل الألوان فيما بينها لينمو لون عن غيره، هذا بارد وهذا حار وذلك في تدرج متناه من الشدة إلى الضعف. مما يستدعي إلى التعبير عن كل حالة بلون معين و يستدعي أيضا استجابة معينة يمكننا حينها التعبير عن شيء معين بوضوح. غير أن ذلك لا يخفي عجزنا أحيانا عن وصف حالة أو إحساس توجهاها.
كما أننا نجد أنفسنا أحيانا أمام أحكام مسبقة كأن نقول هذا اللون الباهت القاتم يثير حزنا ورتابة في مقابل لون فاتحا زهريا ورديا نقول عنه أنه حياة فرح دون معرفة الأسباب المنطقية وراء هذا الحكم. من هذا المنطلق الألوان الفاتحة أكثر فرحا وحياة. أما القاتمة هي أشد وقعا لأنها تثير حزنا. كما أن الألوان الساخنة هي ألوان مثيرة وأكثر ديناميكية.
غير أن البارد منها ألوان هادئة ومريحة. فهذا التعدد في عالم الألوان إنما هو يعكس طبيعة هذه الكائنات، فمهما اختلفت مسميتها في اللغة، نجد عشرات الأسماء للتعبير عن اللون الواحد والتي تختلف باختلاف درجاتها قد نقول عنه هو إتباع اللون وتأكيده وهذا كله عائد إلى الحقل الدلالي الذي يرد فيه النص اللوني.
ونستدل هنا إلى عالم الألوان بالاستعانة بالتصنيف والتبويب إلى ألوان أولية رئيسية تتصدرعن الأخرى لتعرّف بنفسها. و تنقسم الألوان إلى الأحمر والأزرق والأصفر والأبيض والأسود ونجد في مقدمة الألوان لونان شهيران الأبيض والأسود، يتضادان ليرتبطا بالليل والنهار والظلمة والنور.
القيمة الضوء:
يتباهى اللون الأسود بظلمته وقتامته ليتنافى مع اللون الأبيض بنوره الساطع يتنافيان في درجة الإضاءة. وهذا ما يحملنا إلى القول أنهما ( الأبيض-الأسود) ليس من عائلة الألوان وإنما هما من مصنفات القيم الضوئية. تغيب كل الإنارة في حضور الأسود وتغيب كذلك كل الألوان. لتحضر في المقابل كل الألوان بإنارة اللون الأبيض لسقفه تستنير كل درجات اللون وتستفيق. لندخل هنا في مرحلة موالية الألوان الرئيسية الأحمر منها له مكانة جليّة لما ارتبط عند الشعوب بالحروب والقتال ثم الأصفر اللون المستقر يمثل حالة من حالات الحياة كما له انعكاسات واضحة من جفاف وشحوب إلى حالة جني ثمار والحصاد وترجع أهمية هذا اللون إلى العصر الجاهلي لاقترانه بالشمس. يليه اللون الأزرق الذي يمثل أقل شيوعا في الموروث الإنساني لاسيما العصر الجاهلي حيث اقترن هذا اللون بالسماء.
ونظرا لعلاقة السماء بالمطر والأرض فإن هذا اللون ارتبط باللون الأخضر وهذا جعل اللون الأخضر يعد من الألوان الأولية التي يتأكد حضورها بأنه لون ثابت لارتباطه بالحياة والماء والخصب.
وفي مدلولات الألوان وما تحيل إليه فهي تثير مسألة أخرى تتعلق بطبيعة الصوت ودلالة اللفظ. ورجوعا إلى الأسود فهو لفظ فيه إثارة للغموض والدخول الأعمق في الذات حيث الظلمه والعتمة، ومن حيث دلالة الصوت فهي تتأتى من حدة حرف الدال واتساع حرف الواو في حين يدل الأبيض على الانطلاق والاتساع بمعنى الانطلاق لما فيه من التقاء بين الياء الدالة على الاتساع والضاد الدالة على الانفلات من شيء معين. وهو ما يتضاد مع الأسود من حيث الصوت واللفظ فنقول عنه الأبيض المقابل الصوتي للأسود دلالة وصوتا
أما اللونان الأخضر والأصفر فهما قطبان مختلفان، تدل الصفرة على الذبول والجفاف لما في الفاء من خفة وما يصدر من تكرار حرف الراء وهذا يدل على استمرار الصفة الصوتية المتكررة. فيما يكون اللون الأخضر باعثا للحياة والنقاء والصفاء لما تحويه الخاء من ليونة وسخاء ولما في الخضرة من ماء باعث للحياة مما يساعد تكرار صوت الراء على استمرارية صفة الحياة فيه. أمّا الأحمر فهو لون الدم والمسرّة على حد السواء لما هو لون حار يبعث الحرارة وذلك من خلال حرف الحاء.
إذن تشترك هذه الألوان الثلاثة في الصفة والاستمرارية كل حسب صفته وذلك من خلال تواتر حرف الراء في النطق وإخراج الصوت وهو ما يعكس أن لكل لون طبيعة صوتية ودلالة لفظية.
تتفاعل الألوان في عواملها من دلالات لفظية ومخارج صوتية، لتعكس اهتمام الإنسان بها. ركزّ في لفظها وفي صوتها ليترجم بها مختلف عاداته وعباداته وطقوسه، فظهرت أثواب مكرسة للصلاة يغمرها لون أحمر يعكس حب الإنسان وتوهج مشاعره للعبادة، واللون الأزرق السماوي والأصفر الفاتح كانعكاسات للتجدد الحياة. وتحولت فيما بعد الألوان لتزين جدران المعابد والأماكن المقدسة فأصبح كل يحتل رمز ومرتبه. في بلاد ما بين النهرين، صنفت الألوان صنفين: أحدهما ترتديه الأسرة المالكة، وترفرف به قصورها ومقتنياتها، والأخر لعامة الشعب أي بمعنى التميز الطبقي بالألوان.
و يعود هذا التمييز الطبقي للألوان إلى ترفع لون عن أخر في دلالته ورمزيته وما يوجد به من معان لمستعمليه.
وفي العموم تواتر للألوان تعريفات جاهزة مستوحاة من الثقافة والبيئة المعيشية، الأسود حزن و كآبة، والأبيض طهارة وصفاء والأخضر سلم والأحمر حب. وفي حديث أخر وفي اقتران الألوان بمعان الزهور يصير الأصفر باثا للغيرة والأحمر حب والأبيض صدق ووفاء. ويبقى اللون الأزرق منفيا من الثقافة الشعبية لاقترانه بالقتامة والغموض.
يصبح إذن اللون فعلا جوهريا تكمن فيه اللغة والرمز ذلك لما في الكلمة من قوة كامنة تستطيع أن ترفع مستوى تفكيرنا من العادي إلى اللاعادي. فالكلمة تجر الفكر وتجرفه إلى متاهات كثيرة وتلقيه في معان خفية فيفتح لنا ذلك إمكانية التأويل. فتكون الكلمة في تواصلها مع اللون منتجة وسائلها وطرائقها وحتى تصوراتها، فتتجوهر الأشياء لتنطبق على الوعي وتتماهى مع الواقع فترنو به من سياقها وتقحمه في نسجها ليصير الواقع ضلالا لتأويل.
---------
تقديم نوال زويدي، قفصة.
جامعية باحثة في الفنون التشكيلية، الحضارة واللغة العربية وآدابها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: