د.مثنى عبدالله - باريس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3327
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في منتصف الشهر الجاري بثت المواقع الإلكترونية الإيرانية، وغيرها من المسبّحات بحمدها، صورا ثابتة ومتحركة لبحارة عسكريين أمريكان، راكعين على ركبهم ورافعين أيديهم دلالة الاستسلام، بينما يدقق بعض العسكريين الإيرانيين بأوراقهم الثبوتية، وبوثائق الزورقين الأمريكيين اللذين احتجزتهما قوات الحرس الثوري الإيراني، بعد أن دخلا مياهها الاقليمية بالخطأ .
المفارقة أن الحادثة وقعت عشية البدء بتنفيذ الاتفاق الذي توصل إليه الغرب وأمريكا مع إيران، بموضوع البرنامج النووي الإيراني، كما تزامن مع خطاب الرئيس أوباما في الكونغرس، الذي حمل كلمات ذات معان ودلالات يؤكد فيها لشعبه التفوق الامريكي في العالم، وأنهم يعيشون في كنف دولة لا تقهر، وأن الفناء مصير كل من يجرؤ على تحديها. فهل جاوزت الغطرسة الايرانية الحدود المتوقعة منها؟ أم أن الامريكان وضعوا ضوابط تعامل خاص مع إيران تفوق خصوصية التعامل مع الحلفاء؟ وهل هنالك سيناريو تخادم ينفع الطرفين؟
يقول جورج فريدمان، كبير الباحثين في مركز ستراتفور للدراسات الإستراتيجية والأمنية الامريكي، «إن مشكلة أمريكا مع إيران هو أن طهران أثبتت أنها تستطيع التفوق في المنطقة من دون التحالف مع أمريكا، وبوسعها الاشتباك معها». هذا العامل هو الذي أسال القبضة الأمريكية الحديدية، وجعلها طرية إلى الحد الذي تقدمها إلى الايرانيين كي يلوونها أمام أنظار العالم، وهي بالمناسبة ليست المرة الأولى التي تسلك فيه الإدارات الامريكية هذا السلوك، مقابل تصرف عدائي من طرف دولة أخرى، ففي عام 1972 اقترح البنتاغون على الرئيس الأمريكي نيكسون، القيام بعمل عسكري ضد الصين لأنها أصبحت خطرا، فجاء الرد الامريكي أن زار الرئيس نيكسون الصين. وكما غيرت تلك الليونة الامريكية مع الصين المعادلات الجيوسياسية في العالم كله آنذاك، ترى الولايات المتحدة أن فتح صفحة جديدة من العلاقات مع إيران، سوف يغير المعادلات الجيوسياسية في منطقة الشرق الاوسط كله، ويخلق موازين قوى جديدة لا تدخل فيه القوى التقليدية القديمة كعوامل فاعلة في معادلاته، بل سيجبرها هذا الوضع على التأقلم معه حتى في حالة اضطرارها لدفع ثمن، لأن التهميش سوف يأتيها راكضا وليس ماشيا، بعد أن انطلقت العلاقات الامريكية الإيرانية بسرعة لم يتوقعها الكثيرون. وقد حصل هذا بالفعل في المنطقة وأصاب السعودية وتركيا وإسرائيل، إلى الحد الذي شلت فيه حركتهم وباتوا في موقف الدفاع وخارج اللعبة الامريكية الايرانية، يقابله اطمئنان أمريكي بوجود فاعل جديد توازن به المنطقة عن بعد، بعد أن أنهكها الحلفاء القدامى الكسالى، الذين كانوا يطلبون منها كل شيء، بينما هي لديها مصالح ومسؤوليات أخرى، لا تقل أهمية عن مصالحها في الشرق الاوسط. وقد يحتاج المقاول الرئيسي أن يتعاقد مع مقاولين ثانويين يمسكون الملفات الاقل أهمية. هذا هو دور إيران الجديد، الذي قبلته بعد أن وصلت في تحقيق أهدافها إلى نقطة الذروة وجني الثمار. فهل يعقل أن تفرط بالفرصة وتهدم بيتها بيدها؟
لقد أعطى الامريكان دورا جديدا لإيران بث فيها روحا دينامية جديدة، وكرّس كل مكاسبها التي حققتها في العراق وسوريا ولبنان وغيرها من نقاط التماس الأخرى. إنهم يثقون بقدرتها لأن لديها قابلية الانتحار، ومن يروم الانتحار لا تستطيع السيطرة عليه أي قوة في العالم، والافضل هو استثماره . كما أنها حليف تاريخي انفرط عقد التحالف معه لأسباب سياسية يمكن العبور من فوقها، لكن الأهم ليس لديه عقدة الثأر القومي والامبراطوري وعقدة الارض السليبة مع إسرائيل. فلا يوجد عداء حقيقي متجذر في المنهج السياسي الايراني تجاه إسرائيل، بل إن عداءها مع المحيط العربي، خاصة السعودية يفوق ما تدعيه من عداء مع إسرائيل.
هذه كلها عوامل مهمة تجعلها نموذجية في حمل السوط الامريكي براية إسلامية في المنطقة. من جهة اخرى يريد الامريكان أن يُكبّلوا الصين بمنجنيق ناري أحجاره اليابان وفيتنام والهند، وعندما تنظم إيران إلى هذا التحالف يصبح فاعلا أكثر. إذن صانع القرار الامريكي أمام مصالح أمريكية يمكن تحقيقها بالراية الايرانية، وإن لم يتحرك يحسب تصرفه في خانة الغباء. لكن المشكلة هي في إيران بعد تفصيل هذا الدور عليها ولبسها له. المشكلة الكبرى هو أن جيل كامل نشأ في المجتمع الايراني وقد تربى على مفهوم الشيطان الاكبر، وشعارات الموت لامريكا واللعنة على اليهود، وأن المدارس والجامعات والمساجد، والمعممين وغير المعممين، إصلاحيين ومتشددين، ضخوا على مدى عقود من السنين، تيارا ثقافيا يقوم على تحريم التعامل مع الامريكان، وأن التطبيع معهم خيانة للثورة الإسلامية. صحيح أن المرشد الاعلى رفع شعار الليونة البطولية في موضوع الملف النووي، لكن كيف سيتم اقناع هذا الجيل بالمعادلة الجديدة؟ ثم أن المرشد نفسه يعاني اليوم من شرور الدور الايراني الجديد الذي أفتى بقبوله، لأن رفع الحصار وإسقاط العقوبات يعني دخول الرساميل الاجنبية والشركات العالمية، وهذه كلها فيها كلف سياسية ستدفعها إيران شاءت أم أبت، لأن الانفتاح الاقتصادي يتطلب حرية الاتصالات والانترنت والتواصل والاحتكاك بالكوادر الإيرانية، وبعثات دبلوماسية نصفها عناصر مخابرات، وبالتالي ستتحرك حرية التعبير والقدرة على إيصال الصوت إلى الخارج أكبر مما كانت عليه، بينما كان النظام في حصن حصين من كل هذه المنغصات طيلة زمن الحصار. هنا لابد أن يتحرك صانع القرار الإيراني لإثبات استمرارية المنهج والسلوك وتصدير الثورة، بفعاليات سياسية وعسكرية، لتطمين من صدّقوا بكذبة الشيطان الاكبر، بأن المسيرة مازالت على ثوابتها.
في هذا السياق المُظلل جاءت عملية احتجاز البحارة الامريكان، لتبعث برسالتين مهمتين إلى المحيط الاقليمي، أولها، أن إيران دولة مساوية بالمقدار المادي والمعنوي لأقوى دولة في العالم، وقادرة على تركيع جنودها. هذه الرسالة كانت موجهة مباشرة إلى الدول العربية الخليجية، التي تحرس سواحلها في الخليج العربي القوات الامريكية، مفادها أن من يحميكم قادر على كسر هيبته وتركيع جنوده، وأن اعتمادكم عليه لا ينجيكم من غضبنا وجبروتنا. وقد أشار محسن رضائي رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام إلى ذلك قائلا، على السعودية أن لا تنسى بأن هنالك قوة قريبة منها، وأن على دول المنطقة أن لا تلعب بالنار. أما الرسالة الثانية فقد كانت موجهة إلى الداخل الإيراني، ملخصها أن عنجهية تصدير الثورة مستمرة، وشعار الموت لامريكا لازال ساري المفعول حتى لو أكل الامريكان والايرانيون طبق العسل معا، وأن الاوساط التي تراهن على أن رياح التغيير مقبلة بقدوم الرساميل والشركات ورجال الاعمال هم واهمون.
يقينا أن البيت الأبيض يفهم مشاكل واستحقاقات الاتفاق النووي على المرشد الاعلى، ويعلم جيدا أن استفزازات ستظهر هنا وهناك، وأن دعم الميليشيات سيستمر، لكن لن يرقى أيا منها إلى مستوى تهديد المصالح الامريكية. إنها مجرد تنفيس عن عنف ثوري كاذب، لذلك قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في مؤتمر دافوس الأخير «أعتقد أن بعض الأموال الايرانية التي تم الافراج عنها ستنفق على دعم الإرهاب والجماعات المتشددة»، مشيرا إلى أن «واشنطن لا يمكنها اتخاذ موقف الآن» لعدم وجود أدلة تثبت ذلك كما يقول.
------------
د.مثنى عبدالله
٭ باحث سياسي عراقي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: