كتابة المادة و منطق البناء البصري في أعمال نجيب بالخوجة
شريفة بنزايد - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5102
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تمخّضت حركات فنية في تونس عقب تغيّر في البنيّة الفكريّة و الجماليّة لدى بعض الفنانين خاصة منهم من احتكوا بالتجارب الفنيّة المعاصرة حيث أرادوا تغييرا و إختبارا أسلوبيّا جماليّا جديدا بعيدا عن النّزعة الفلكلورية التي كانت سائدة آنذاك، و لقد استطاع بالخوجة لفت الأنظار إليه في الداخل و في الخارج و ربط إسمه بإدراج مفهوم التّجريد الفني في تونس، فكانت أعماله و بعض الأطروحات و التساؤلات موجهة و ناقدة لبعض التّوجهات الفنيّة المتواجدة، فالفنّ التشكيلي لا يقتصر بمشهد ‘المدينة العربي’ و ‘المشموم التونسي’ أو ‘الجبّة و الشاشيّة’، أو في الممارسات الساذجة و السطحية لمفهوم التجريدية، و لئن نعت بالخوجة بتأثره بالرسّام الإيطالي فابيو روكشجياني في إستعماله للحروف و في الطبيعة الاختزالية التي ميّزت أعمال ‘مون دريان’، فإنّه استطاع أن يبني منهجا خاصا به نابعا من ذاته، فالفنّان الأصيل يمكن أن يتأثر و يستفيد من التجارب التّي حوله، و لكن أيضا أن يبني مساره الخاص، الذي يحدّد مصيره الفنّي.
ناهيك أن اللّعبة الفنيّة لكباري الفنانين التجريديين الغرب كانت بمثابة صدمة فنية لغيرهم خاصة العرب منهم، حيث وجدوا في الفنّ العربي الإسلامي الجوهر التجريدي الذي يمكن إستغلاله في فلسفة فنيّة عميقة في أسلوب فنّي ذكيّ، إستطاعوا من خلاله طرح إشكاليات فنيّة جديدة منها مسألة الفضاء و اللّون و المنظور، و لعلّ هذا الطرح بعث في نفس الفنّان العربي روح المغامرة، مغامرة غير بعيدة عنه، أي البحث في تراثه، و سؤاله لما لم يتفطّن هو بهذا المسار الفنّي؟ لماذا لم يرى ما رآه الفنّان الغربي في الموروث الفنّي؟
و لعلّ هذه التساؤلات قد غامرت ذهن و مخيلة بالخوجة و الحال أنه لم يأخذ فنّ العمارة و الخط ضمن حيّزهما الجمالي المعروف، بل تناول العلاقة المخصوصة التي تجمع بينهما و خاصة من الناحية الشكليّة و التركيبيّة، و استطاع أن يفعّل المخزون الفنّي فيهما من نظرته الفنيّة الخاصّة، فالمتأمل في البنيّة التركيبيّة التي تقام عليها لوحاته، يلاحظ قيامها على مفهوم الشبكة التربيعيّة للفضاء، أي أن المربع هو الوحدة التي يقام عليها البناء بعكس ما حاول بعض العرب استبعاده، فالمربع في الذهنيّة الإسلاميّة يرمز بالأساس إلى الكعبة التي أصبحت نموذجا فريدا و مخصوصا لا يمكن أن يقوم بناء المسلمين على شاكلته، حيث يدرج ‘يحي وزيري’ في كتابه ‘العمارة الإسلاميّة و البيئة’ درجة تعظيم هذا الرمز الديني و كيف أنّه غير الذهنيّة البنائيّة لدى المسلمين و هكذا يدخل المعتقد الروحي في التعايش الواقعي لنعود بالضرورة إلى ميزة الفنّ الإسلامي حين تتماهي ذاتيّة الفنّان في مبتغاها الروحي إلى حين اضمحلالها . حيث أصبح المسلمون في تلك الفترة يبنون بيوتهم مدورة خاصة و أن من يتجرّأ على تقليد نموذج الكعبة مصيره يتأرجح بين الحياة و الموت: ‘و قد وصل تعظيم العرب للكعبة إلى أنّهم كانوا يبنون بيوتهم مدورة و أنّ أول من بنا بيتا مربّعا في مكة هو حميد بن زهير فقالت قريش ربّع حميد بيتا أمّا حياة إمّا موتا و قيل أن شبيّة بن عثمان كان يشرف فلا يرى بيتا مشرفا على الكعبة إلاّ هدمه تعظيما للبيت من أن يتطاول عليه البنيان’ ، و وفق جملة من الدراسات فإنّ هذا المنطق غير محسوم أو نهائي فالمعمار العربي يقوم على شتّى الأشكال الهندسيّة التي تبنى وفق سلسة ذهنيّة تركيبيّة، مثلها مثل الخط خاصة الكوفي المربّع، و هو ما يجعلهما تحت خانة منطق بنائي موحّد و إن اختلف المظهر الشكلي لكل منهما.
إنّ تطوّر السّجالات النقديّة (مباحث دي سوسير - بارت - بيرس) كشفت أنّ اللّوحة تتجاوز غلافها البصري لتنفذ إلى أبعاد فكريّة و حضاريّة و إيديولوجيّة و فنيّة كثيرة و هو ما يضطرّنا إلى البحث و التّحليل العميقين عن الدّال و المدلول و هذا المبحث السيميولوجي لم يكن بمعزل عن بعض المقاصد الفنيّة التي خرجت في ثوب أشكالها و خاماتها الماديّة و لعلّ اللّوحة تسمع كلاماتها عن طريق ما إحتوته، ألم يشعرنا كاندنسكي بموسيقاه المرسومة، ليصبح التزاوج بين الفنون أكثر شرعيّة داخل المنظومة السيميولوجيّة للّوحة التشكيليّة: ‘إذ الشعر تصوير ناطق، و التصوير شعر صامت’ ، هذا الصمت الملغوم بالكلمات، ألم يختزل ماليفتش في مربعه الأبيض الفضاء اللاّنهائي، و بالخوجة يمنح الشّكل بالإضافة إلى اللّون قراءة و حضور آخر فيها دعوة للعين لتقرأ اللّوحة قراءة تشكيليّة، يتحوّل فيها مسار العين للإلمام بالشّكل و اللّون، فإلى جانب متاهة الأشكال التي تنطلق من صورة المدينة و الخطّ، و الّتي تحوي داخلا عجيبا فإنّها تطرح مجموعة من التوازنات اللّونيّة عبر التوزيع المدروس فتضيء مساحة و تظلم أخرى ليكون هناك العتمة المتدرّجة تنيرها أحيانا مساحة فاتحة و أخرى داكنة و كأنّك تقف أمام شيء غامض يتطلب جهدا لفك رموزه، عالم من العتامة و الضوء...
لقد كانت العمليّة الإبداعيّة الّتي اعتمدها بالخوجة ترتكز على سلخ الخطّ و العمارة من وجههما الصوري و إن كان قد حافظ على جوهرهما داخل لوحاته حيث سلّط سحره الخاص و ناقض بذلك جملة الدراسات الّتي تناولت أعماله على الأساس المعماري و الخطي للمدينة العربيّة و الخطّ الكوفي ليتجاوزها إلى منظور تشكيلي يعنى بقضيّة اللّون و الشكل فالنّظام البنائي في أعماله يتسم بالتداخل لشكيّل نوعا من المتاهة الفنيّة تجمع بين الامتداد اللاّنهائي للأشكال الهندسيّة، عالجها بالخوجة بأسلوب تلويني مدروس، تطفو على سطح اللوحة خريطة أشكال هندسيّة، قباب أنصاف دوائر، نوافذ و بيوت قد أخرجها بالخوجة و شكّلها بأصابعه فتضيع العين و تتيه في النّظر أين المخرج من المدخل ، داخل هذه اللّوحة؟
ولئن كان بالخوجة أوّل الفنّانين التجريدييّن في تونس، فإنّ مادّته الخام في ذلك هو التّجريد بذاته، فأهمّ ما يميز الفنون الإسلاميّة صفة التّجريد فيها، و لا ندري ما الذّي ساعد على انبعاث هذا المفهوم في الأعمال الفنيّة العربيّة المعاصرة و هو السّؤال الذّي طرحه عمر الغدامسي في مقاله بمجلّة الحياة الثقافيّة ‘هل كانت التجريدية التي ظهرت في الغرب كوريثة للتكعيبية و ما سبقها من تيارات فنية هي التي نبهت هذه الأجيال المجدّدة في الساحة التشكيليّة العربيّة إلى ثراء مخزونها التراثي ‘التجريدي’ أم إنّ الأخير هو الّذي جعل تلك الأجيال تلتقي بالتجريدية’ ، و يقرّ عمر الغدامسي في مقاله أن استلهام كبار الفنانين في الغرب هو الّذي حقّق المصالحة بين الفنّان العربي و تراثه، و بالتّالي إعادة النّظر فيه بجدية.
لم يخف بالخوجة تأثره بكبار التجريديين في الغرب و لكنّه أيضا اعترف بأن تجربته تمخّضت من واقعه الملموس إذ يقول ‘بعد بداياتي الأولى المتأثّرة بمون دريان و دلوني و كاندنسكي انتبهت إلى ضرورة البحث عن أفقي الخاص، و بما أنّني لست إلاّ ابنا لمدينة تونس فقد انطلقت من رسمها... إنّ الفنّان لا يعمل أبدا باستقلاليّة عن محيطه فهو يتبنى واقعه الّذي يحفّ به، الواقع المحسوس الّذي يعيش ضمنه و يعمل من خلاله و هو ما يتجلّى في تجربتي في مدينة تونس’ فلم يكن نتاج بالخوجة إلاّ وليد عملية إبداعيّة واعية حدّدت آلياتها من قبل مبدعها، و إن كانت إثر عمليّة مخاض لمختلف التجارب الفنيّة المتأثّر بها أو من خلال بيئته و واقعه، و لكنّها في النّهاية أثمرت أعمال فنيّة فريدة و مخصوصة تبعا لما رسمه الفنّان لنفسه، لتكون تجربته لها مسارها الخاص و إن تأثّرت بالآخرين.
حيث انطلق بالخوجة في رحلته باحثا عن معاني فنيّة خالصة متبنيا مفهومه التّجريدي الّذي تولد من عناصر مجرّدة بطبعها بكلمات و حروف كوفيّة كامنة داخل ثنايا الأشكال الهندسيّة، و لكن ليس بالصورة الّتي عهدناها لهذه الأشكال المجرّدة و هو بذلك يجرّد المجرّد في عمليّة ذهنيّة و أن تمثّلت داخل متاهة أشكال تتدفّق من وحي الماضي تبدو في أحيانا كثيرة ملغزة لعصيان فهمها، خطوط ، دوائر، مستطيلات، مربّعات، اتجاهات عدّة، فضاء ممتد، درجات لانهائية من الألوان مظلمة و منيرة تتوالد و تتراكب و تتراكم أشكالها تبدو تارة مستقلّة كل على حدة و طورا متشابكة و متراصة و متصلة متحركة و ساكنة تهندس الفضاء و تجعله مبنيّا وفق نظام معيّن إنّه غموض يدفع المرء على تتبعها و ربّما تسحبه داخلها و هو ما أراده الفنّان من عدم الاستسهال في الفهم أو الاقتصار على الفهم الساذج لمرجعيته التراثيّة.
حيث كانت هذه التأليفات و التراكيب ذات صبغة بسيطة و مختزلة فظهرت جلّ اختياراته من أشكال و اتجاهات و خطوط و ألوان و للمواضع المكانيّة المتّخذة هي تعبير ملمسي حسّي، يتراوح بين السكون و الحركة و التّي تختزل داخل هذه النوعية من المواد و الخامات بالإضافة إلى وساطة الأشكال الهندسيّة المستقيمة و المنحنية فيها ارتقاء إلى التجريد النّقي و بحث عن الشكل الصّافي فيه إثراء للفضاء ليتكامل الشكل و اللّون تتصل مع البناء التشكيلي لابتكار نسيج فني هو ما يمثل اللغة التشكيليّة الخاصّة .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: