د. مصطفى يوسف اللداوي - بيروت
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5597
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يحزنني جداً وصف بعض المثقفين العرب للربيع العربي بالحريق العربي، فأغتاظ كثيراً كلما سمعتهم في مداخلاتهم ومشاركاتهم في بعض المؤتمرات والندوات، يركزون على وصف الثورات العربية بالثبرات، والربيع بالحريق، وأنه شتاءٌ قاحلٌ مجذب قاتلٌ مهلكٌ لا حياة فيه ولا مستقبل له، وأنه ليس إرادة شعوب بل مخططات استعمار، وتدبير متآمرين حاقدين كارهين، ويعززون وصفهم ببياناتٍ وأرقام، تشير إلى عدد القتلى والجرحى، وآثار التدمير والخراب، ومؤشرات الخسائر الإقتصادية، وجداول الأسعار الآخذة في الارتفاع، ومستويات المعيشة الآخذة في التدهور والإنحدار، ومستويات الفقر المتزايدة بإطراد، وأرقامٍ واحصائياتٍ تتحدث عن موجات الهجرة ورحلات اللجوء العربية إلى كل الدنيا، وبياناتٍ أخرى كثيرة تتناول الجوانب المادية للمواطن العربي
ولكنها تتجنب الحريات والكرامات والحقوق، التي كانت مستباحة ومهانة في كل دول الربيع أو الحريق العربي، وتنسى بيانات السجون، وأعداد المعتقلين، وإحصائيات لجان حقوق الإنسان، وتقارير المؤسسات المدنية، وتتجاهل التأبيد في الحكم، والخلود في السلطة، والتوارث على العروش، للأسف أجد آذاناً تصغي لهم، وتتابع بياناتهم ومداخلاتهم، وتؤخذ بأرقامهم وإحصائياتهم، ويعجبهم ما يقولون، مبدين ندمهم وحزنهم على من هلل ورحب بسراب الربيع
ترى هل أنهم على حق عندما وصفوا انتفاضة الشعوب العربية بالحريق، أم أنهم جوقة السلطات الحاكمة، وهم بقايا فلول، وبعض المستفيدين من كبار التجار ورجال الأعمال
يدعون للعودة إلى عهود الاستبداد، وقمع الحريات والإرادات، وعصور الغنى والإستخواذ والثراء، فلا يوجد ثورة نجحت بالكلية، ورست مراكبها على شواطئ الأمان والسلام، فلا تونس أمنت واستقرت وهنأت بالحكم والإستقرار فيها، بل ما زالت تموج وتثور وتغلي كالمرجل، ولا اليمن عاد إلى أصله العتيد القديم سعيداً، بل القتل في جنباته يتوزع، والموت في أرضه يتبعثر، وليبيا باتت شرعةً للغاب، وقانوناً للقوة، فمن امتلك البندقية يحكم ويفرض ويغير ويبدل، فلا أمن فيها لمواطنيها، ولا سلام على أرضها للوافدين إليها أو المستثمرين فيها، وأم الدنيا مصر، محط الآمال ومناط العيون والقلوب، تهوي وتسقط وتضيع وتخسر، فلا ثورة نجحت، ولا نظام حوسب وعوقب، ولا فلول منعوا وكبتوا، ولا ديمقراطية عاشت، ولا أنظمة ودساتير احترمت، ولا نظام استقر وانتظم، وعسكرٌ يدعون الحياد، وقادةٌ وضباط يعلنون احترام الحقوق وصيانة الحريات، لكنهم ينقلبون ويعملون لحسابِ غير بلادهم، وضد صالح أوطانهم، يخربون أكثر مما يصلحون، ويفسدون أكثر مما يعمرون، ويحرسون الظلم بدل حمايتهم للحق، وسوريا التي بدأت بلا نهاية، وانطلقت بلا خاتمة، واشتعلت بلا أفق لانتهاء حريقها، فلا شعب فيها بقي، ولا نظام فيها يسيطر، ولا مصالح فيها بقيت، ولا اقتصاد فيها صمد، خرائب أصبحت، وبقايا ركامٍ صارات، وساحةً للموت الغريب والعجيب أصبحت، أم أن الثورات يلزمها ثمن، والانتفاضات تتطلب تضحية وبدل، فلا يوجد ثورةٌ بلا ضحايا، ولا تغيير بلا خسائر، ولا انتقال من عهودٍ دون فواتير دموية، والحرية تستحق الدم، والكرامة تفتدى بالمهج والأرواح، فهذه سنة الشعوب، وتاريخ الثورات، العربية منها والدولية على السواء، وأن على الشعوب أن تصبر وتحتسب، وأن تعطي وتبذل وتضحي، فالموت في سوح النضال وميادين الانتفاضة، أشرف وأكرم من الموت في أقبية السجون وغياهب المعتقلات، لست أدري متى تدرك الأنظمة والحكومات أنها من شعوبها وإليه، وأن الحكم لا يدوم والسلطة لا تبقى، والخلود لغير الخالق معاذ الله أن يكون،
فلماذا لا يؤوبون إلى شعوبهم، ويستجيبون إلى طلباتهم، وينزلون عند شروطهم، فمع الشعوب تكون العزة، وفي ظلالهم تكون الكرامة، وبينهم تكون الرحمة والمحبة، الربيع لنا ولشعوبنا، فلا تجعلوه حريقاً علينا وعلى بلادنا، فالأول قد يكون ربيعاً أخضراً يانعاً مزهراً فواحاً بروائحة عطرية تفوح وتتضوع، تعم أرضنا، وتشمل شعوبنا وكل أجيالنا، وتنعكس على حياتنا، وتحسن صورتنا وسمعتنا، والثاني قد يكون حريقاً أسوداً يجعل أحلامناً رماداً، وآمالنا حطاماً، ومصالحنا رذاذاً وسراباً، يحرق أرضنا، ويخرب بلادنا، ويدمر مستقبلنا، ويهجر أولادنا وأجيالنا،
ما زلتُ تائهاً حائراً لست أدري، أربيعٌ هو أم حريق؟ ...
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: