د. مصطفى يوسف اللداوي - سوريا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5970 moustafa.leddawi@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قد يستغرب البعض هذا العنوان، أو محتوى هذا المقال فينكره أو يستنكره، ويرى أنه افتئات على السلطة الفلسطينية وتجنٍ عليها، وأنه عارٍ عن الصحة ويفتقر إلى الحقيقة والموضوعية، وأنه يندرج في خانة التراشق الإعلامي المتبادل بين الحكومة الفلسطينية في رام الله ونظيرتها في قطاع غزة، بل قد يرى البعض أنه من المعيب أن نقوم بنشر مثل هذه المقالات التي تشير إلى عمق الأزمة بين الفلسطينيين، وبيان أنها ليست أزمة سياسية أو أمنية فقط، بل إن جزءاً كبيراً منها يرجع إلى القيم الأخلاقية والمفاهيم الاجتماعية، وأن المقال يهدف إلى تشويه سمعة السلطة الفلسطينية والإساءة إليها بما ليس فيها ولا منها، فهل يعقل أو يصدق أن تقوم بعض الجهات الرسمية في السلطة الفلسطينية بمواساة الإسرائيليين حكومةً وشعباً بعد تنفيذ صفقة وفاء الأحرار، فتخفف عنهم بعض الألم الذي وجدوه جراء الإفراج عن بعض عمالقة الأسرى، أو تساهم في مواساة ذوي "الضحايا" الإسرائيليين الذين فقدوا بعض أفراد أسرهم في عملياتٍ عسكرية قام بها محرروا الصفقة، أو تقوم بالاتصال ببعض المسئولين الإسرائيليين لتسري عنهم، وتقلل من أهمية الصفقة، وتطمئنهم بأن الأسرى المحررين لن يشكلوا خطراً على أمن إسرائيل، وأنه لن يكون لهم أي نشاطٍ معادٍ أو خطر ضد كيانهم، وأنهم سيكونون جميعاً تحت السيطرة والمتابعة والمراقبة، ولن يسمح لهم بحرية الحركة والعمل واستثمار تاريخهم الوطني وأعمالهم السابقة.
لا شك أن الإسرائيليين مغتاضين من عملية تبادل الأسرى، وأنهم غاضبين من رئيس حكومتهم وغير راضين عنه، ولا يعتقدون بأنه قدم لشعب إسرائيل إنجازاً تاريخياً، ويرون أن الصفقة تمت بالقوة والإكراه، وأن ما حققته المقاومة الفلسطينية يفوق بمراحل كثيرة ما حققته الحكومة الإسرائيلية، ويشعرون بأن المقاومة الفلسطينية قد نجحت في لي ذراعهم بل وكسره، وتمكنت من فرض شروطها التي أعلنت عنها منذ بدء التفاوض حول إتمام الصفقة، الأمر الذي يشعرهم بالحنق والغضب، وينغص عليهم فرحة استعادة الجندي الأسير، فهم يرون أنهم دفعوا لأجله ثمناً كبيراً وفادحاً، وإنهم وإن أفرحوا والد شاليط ووالدته ومحبيه، فأنهم أغضبوا وأبكوا أمهات وآباء الكثير ممن فقدوا أبناءهم في عملياتٍ عسكرية نفذها الأسرى المحررون.
ولكن الفلسطينيون جميعاً في داخل الوطن وخارجه فرحين بما حققته المقاومة، سعداء بلقاء أحبتهم ومن كان لهم الفضل في رفعة المقاومة وسمو شأو الشعب والقضية الفلسطينية، فالأسرى الأحرار محط احترام وتقدير وتأهيل ومحبة الشعب الفلسطيني كله، وكل من يحب الفلسطينيين ويتمنى لهم الخير عليه أن يحب الأسرى وأن يفرح لحريتهم وأن يبتهج لهم ومعهم، وأن يبذل ما يستطيع من جهدٍ لمكافئتهم وتعويضهم عما فاتهم، وألا يألُ جهداً في التخفيف من معاناتهم، وتذليل سبل العيش لهم، وإزالة العقبات التي تعترض طريقهم، فمن كان فلسطيني الهوى والهوية، عربي الانتماء والنسب، إسلامي الديانة والحضارة فإنه يفرح ويبتهج وتسكن المسرة قلبه لحرية الأسرى، وأما من سكن الحزن فؤاده، واعتصر الألم قلبه، وغطى وجهه خجلاً، ومالئ العدو ونافقه، وذرف الدمع أمامه وبين يديه، وغضب لليالي الفرح ومهرجانات الانتصار، فإنه بالضرورة ليس فلسطينياً، وليس عربياً كما أنه ليس مسلماً، فمن ذا الذي يحزن لغضب العدو ويتألم لألمه، ويشعر بحزنه ومعاناته، إلا أن يكون هو العدو أو مثله، فليس منا من رحم العدو وحزن لمصابه، وغضب له وانتصر ممن قاتله وقاومه، وانتقم ممن أغاظه وأساء وجهه.
إذاً ماذا يعني قيام أجهزة أمن السلطة الفلسطينية بالتنغيص على المواطنين أفراحهم، وإفساد احتفالاتهم، وتوتير أجوائهم، عندما تداهم سرادقات الأسرى، وترسل عيونها إلى بيوتهم وصالات احتفالاتهم ليرصدوا المهنئين، ويعرفوا الوافدين، ويسجلوا الكلمات والخطابات، ويراقبوا الداخلين والخارجين، قد يقول قائل إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تخاف على الأسرى، وتخشى تعرضهم للخطر، لهذا هي تحرسهم وتراقب حركة المهنئين مخافة أن يندس بينهم من يتربص شراً بهم، ويسعى للإضرار بحياتهم، فإن كان الأمر كذلك فلماذا تقوم فروعها الأمنية في كل المحافظات الفلسطينية باستدعاء الأسرى الذين لا يعرف كثيرٌ منهم السلطة الفلسطينية من قبل، إذ دخلوا السجون الإسرائيلية قبل أن تتشكل السلطة، وقبل أن يكون لها مقرات أمنية في مختلف المدن الفلسطينية، وتطالبهم بوقف الاحتفالات وإنزال الأعلام والصور والشعارات والرايات.
لو كانت الأجهزة الأمنية حريصة على الاحتفاء بالأسرى وإبداء الفخر والاعتزاز بهم، فكان أولى بها أن يقوم رؤساؤها وكبار الضباط فيها بزيارة الأسرى في بيوتهم، وتقديم واجب التهنئة لهم، أما أن تقوم باستدعائهم والتحقيق معهم بحجة دعوتهم لشرب فنجان قهوة معهم في مكاتبهم ومراكزهم الأمنية، فإنها خطوة مدانةٌ ومرفوضة، كما أنها مستنكرة ومستغربة، فلا تفسير لها سوى أنها تحقيق مع الأسرى، ورسالة لهم أنكم جميعاً تحت السيطرة، وفي إطار المراقبة، وأنه غير مسموح لأيٍ منكم أن يقوم بعملٍ قد يضر بأمن إسرائيل، وإن ظننتم أنكم قد خرجتم من السجون الإسرائيلية واستعدتم حريتكم، وأصبح بإمكانكم أن تفعلوا ما تشاءون وما ترغبون، دون أي مساءلة أو مراقبة، فأنتم مخطئون، فنحن هنا وكلاء الاحتلال، وخدام إسرائيل، وسدنة جيشه وأجهزته الأمنية، نقوم مقامها إن عجزت، ونتكفل بأمنها إن احتاجت، وندافع عنها وقت الضرورة، ونصد عنها كل ضرر وشر، كما أننا على استعداد لاعتقال كل من يفكر بأن يقوم بعملٍ يضر بها وبأمنها، ويعرض مصالحها للخطر، وذكَّر ضباط الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعض الأسرى أنهم ينتمون إلى حركةٍ خارجة عن القانون، نشاطها ممنوع، والتأطير فيها مخالفة، ورفع راياتها جرمٌ يحاسب عليه القانون، فأعلام حماس ممنوعة، واللون الأخضر محرم، وشعارات حماس وأناشيدها تحريضٌ وإساءة إلى الوحدة الوطنية، ودعوة ممقوتة للفتنة والقتل.
على السلطة الفلسطينية أن تتوقف فوراً عن هذه الممارسات، وأن تعجل بتقديم الاعتذار إلى الأسرى جميعاً، وإلى الشعب الفلسطيني كله، بل إلى الأمة العربية والإسلامية، وإلى الإنسانية جمعاء، فالأسرى يستحقون منا كل تقديرٍ واحترام، ونحن الذين نفد إليهم ونزورهم، ونحن الذين نتقرب إليهم ونتشرف بالدخول إلى مجالسهم وبيوتهم، فهم رجالٌ رؤوسهم في السماء نتطلع إليها، وجباههم في العلياء تنكسر أعناقنا قبل الوصول إليهم، وقاماتهم ممشوقة ننحني لهم تقديراً ووفاءاً، وأصواتهم عالية تخشع أمامها أصواتنا، وتنعقد ألسنتنا خجلاً من رفع أصواتنا فوق أصواتهم، إنهم أسرانا فيهم شئ من النبوة وبعضاً من الرسالة، فهم خير من حمل رسالة السماء، وأنبل من انتسب إلى دين رسول الله محمد.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: