في التأسيس لعقد ثقافي مختلف ... مركزية مكة واستعادة دور مفقود
عبد الحق الزموري - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4811 abduzam55@maktoob/com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الإسهام الفارق الذي وُلِد من رحِمِ الثورات العربية فَتْحُ الشعوب أعينها على حجم الكارثة التي تركتها النُخب العربية الحديثة، وهي تحاول - طيلة القرنين الماضيين – بناء حداثة تشمل هياكل الدولة والمجتمع، بل وعمق المخيال الجماعي نفسه. سقطت ورقة التوت ... وانهارت الأبنية جميعها، ومن ورائها تدحرج منسوب الثقة في تلك النخب إلى حدود متدنية جدا ... فُتِح القمقم، وتدفّقت شياطين الأسئلة متدافعة في سيل عرمرم. ومن بين تلك الجُمل المُلحة التي ترددت في الآونة الأخيرة: لماذا غابت مكة كقُطْبٍ ثقافي مركزي يَنْظُمُ اجتماع نخب المسلمين وعلمائهم طيلة القرون الماضية؟ وما الذي جعل "عصر النهضة" العربي يسير بمعزل بل وفي قطيعة مع مكة – الرمز؟ لماذا فقدت مكة مركزها باعتبارها مهوى أفئدة علماء الأمة ومثقفيها، وهو مركز ظلت تتمتع به في مختلف مراحلها وإلى حدود القرن التاسع عشر ميلادية؟ ولماذا جفّ دورها في إنتاج وتوزيع قيم الرأسمال الرمزي لدى نخب الأمة والقائمين عليها؟
فتور الدور وتعليل المؤرخ
لا بد من الإشارة بدءا إلى سببين إجرائيين تاريخيين على الأقل لذلك الغياب:
(1) كانت البلدان العربية الخارجة للتوّ من دائرة الهيمنة الاستعمارية المباشرة تبحث عن سبل تأسيس أنظمتها السياسية والاجتماعية والعسكرية، كل واحدة باستقلال عن بقية البلاد العربية والإسلامية، وكان مثقفو ونخب تلك البلدان – ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين – ينادون بضرورة وحيوية الأخذ بالقيم الغربية الوافدة باعتبارها الأداة الفعالة للنهوض بشعوبها وتنمية مواردها وبناء أركانها، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية كانت النخب العربية الحديثة تعتقد جزما أن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يتمّ بدون إقامة كيانات منفصلة عاطفيا وسياسيا وثقافيا، وعند بعضهم تاريخيا، عن أي "مركز" تقليدي.
وكان لا بدّ أن يكون التجلّي الأول والأساسي لتغيّر "المركز" في مجال التعليم. من هنا جاء التركيز في تربية أجيال الاستقلال الأولى على تقديس فكرة الفصل بين الحداثة من جهة وارتباطها بمناهج العلم ومحتواه وأساليبه كما تقدّمه لنا المدارس الأهلية، وبين التخلّف مع ارتباطه بطرق ومحتويات، ثم بعد ذلك بقيم التدريس التقليدي ومؤسساته من جهة أخرى.
كانت النخبة التي اضطلعت ببناء الدولة الحديثة تعتقد – لحد اليقين – أن كل ما يأتي من المؤسسات الدينية والعلمية التقليدية، وقد كانت تلعب في الماضي أدوارا اجتماعية وسياسية في غاية الأهمية، شرٌّ محض، ولا يمكن لهذه الأخيرة أن تنتج غير قيم التخلف، وبالتالي فان كل ما توحي لنا به هذه المؤسسة لا يمكن أن يكون، في رأي تلك النخبة، إلا معاديا لقيم الحداثة ولمؤسسات الدولة القومية العصرية.
وكانت النتيجة أن سعت تلك النخبة لتغييبٍ منهجي ومركّز لأي دور لــمكّة - المركز كقطب ثقافي مُولِّدٍ للقيم والرموز في مناهج التدريس بمختلف مراحله ومحتوياته.
وقد أدرك هذا العمل المنهجي الدقيق أهدافه في تخريج دفعات من النخب والمثقفين المقتنعين تماما أن الجزيرة العربية - عدى عن كونها حاضنة للبقاع المقدسة – هي عبارة عن صحراء قاحلة، وهي "كأهلها جرداء جافة لا تنبت خيرًا ولا تنتج حضارة"، ولا يخرج الدين الذي جاء به أحد أبنائها عن هذا التوصيف (أنظر على سبيل المثال نموذجا نمطيا لهذه الصورة في أعمال المستشرق برنارد لويس ومدى تأثيرها على الوسط الثقافي الغربي، وعلى النخبة العربية العلمانية بعد ذلك). أصبحنا إذًا أمام صورة أولى، "صورةٍ مؤسِّسة" ترتسم في أذهاننا بشكل أوتوماتيكي كلما ورد الحديث عن مكة (خارج الإطار الديني)، صورة ذات أبعاد ثلاث: جدب ثقافي وفكري – تخلف علمي وحضاري – تطرف ديني.
وقد عملت الآلة الأكاديمية الغربية مدعومة بقوة الإعلام على تعميم هذه الصورة والنفخ فيها إلى درجة أنها أصبحت هي نفسها "مولِّدة" لآلاف الصور الأخرى التي تخدم القطيعة مع مكة – المثال، وأصبح تخطّي الصورة المنمَّطَة والمهيمنة في غاية الصعوبة، حتى باسم الموضوعية والصرامة العلمية.
من هنا، ومنذ بدْءِ "عصر النهضة"، سعت النخب العربية والإسلامية بمختلف أطيافها الفلسفية والسياسية (بما فيها النخب ذات التوجهات الإسلامية) إلى وضع أسس بناء الدولة والمجتمع في استبعاد تام لفكرة "مركزية مكة" الثقافية، ومن هنا أيضا بدأت تظهر – حسب اعتقادنا – بوادر الاختلال المؤسسي في الفكر العربي المعاصر، الذي أدّى إلى ما نحن فيه اليوم من ضياع توازننا العام على جميع المستويات.
السبب الأول لذلك الغياب (أو التغييب) إذًا هو هذا الاستعلاء النفسي والثقافي الذي يستشعره المثقف العربي اليوم، وهو "يناضل" من أجل حداثة مزعومة ونهضة مبتغاة، إزاء مكة القطب، مكة الرمز، مكة عصَبَ الانتظام الفكري والمعرفي لمثقفي الأمة وعلمائها.
(2) أما السبب الآخر الذي أعتقد أنه ساهم في ذلك التغييب فهو ما يمكن أن نصطلح على تسميته بـ "تَخَلِّي مكّة عن أدائها لدور الناظم لعقد علماء الأمة والجامع لمهاراتهم". فقد مكّنت الطفرة النفطية التي أنعم الله بها على المملكة العربية السعودية من بروز نُخَبٍ راهنت على العائدات النفطية لدخول العصر الحديث والقفز من مجتمع عربي صحراوي إلى ركب الحضارة والتمدّن. ولاختصار عاملي الزمان والمكان في إيجاد موقع في عصر الحداثة وفي بناء البلد ضمن تلك المتطلبات، احتاجت هذه النخب للكفاءات والعمالة العربية ولغيرها من جهة، واحتاجت لاستيراد حاجياتها من مظاهر تلك الحداثة وأدواتها في جانبيها الاستهلاكي والتكنولوجي. وقد أفرزت هذه التحولات الفجائية (السريعة) وذات الكثافة والتركيز العاليين تشوّهات اجتماعية عديدة تعرض لها بالعرض والتحليل علماء سعوديون في مجالات مختلفة (أنظر مثلا كتاب "جدة أم الرخاء والشدّة: تحولات الحياة الأسرية بين فترتين" لثريا التركي وأبو بكر باقادر). وأعتقد أن إحدى تلك التشوهات تتمثّل في ظهور وترسّخ مرض نفسي – سلوكي عند عدد من النخب السعودية: الشعور بالاستعلاء المطلق عن كل من/ وما ليس سعوديا. أصبح العرب والمسلمون، بل وبقية الشعوب "الفقيرة" يصوَّرون في المخيال الشعبي السعودي كـ"جَوْعَى" مستعدين لأي تضحية مقابل الحصول على عمل في الخليج عامة وفي المملكة السعودية بخاصة. وقد أفرزت العناصر الصحيحة والعناصر الـمُتَخَيَّلَة في هذه الصورة مخاطر عدّة على رأسها خلق هوة شاسعة بين السعودي وغير السعودي، تبِعها انخرام / فرفْضٌ لاشعوري تدريجي للتواصل.
أصبح المواطن السعودي يشعر أنه يكتفي بنفسه، وأنه في غير حاجة لغيره من المسلمين، لا بل إن المسلمين في حاجة إليه، دينيا وماديا. عندها تخلت مكة – بمعنى من المعاني – عن علماء الأمة ومثقفيها فتراجع دورها الثقافي الحيوي المركزي الذي كان يميّزها طيلة تاريخها الطويل (فترات طويلة قبل الإسلام) وإلى حدود القرن التاسع عشر. ولا شك أن تخلّي مكة عن هذا الدور هو الذي سارع بدفع مثقفي الأمة وعلمائها إلى الإرتماء في أحضان مركزيات أخرى ومناهج أخرى وبناءات قيمية ورمزية أخرى. وأعتقد أن هذه النتيجة هي ما خططت له المركزية الغربية في معاصرتها وحداثتها وما بعد حداثتها.
لذلك كان الخرق الأول الذي يمكن أن تقوم به القوى الجديدة في صنع "ربيع الثورات العربية" هو محاولة إعادة الروح للخيط الناظم لنخب الأمة ومفكريها، بمختلف توجّهاتهم الفكرية، ومذاهبهم الدينية، والتزاماتهم السياسية، واختصاصاتهم العلمية، ولغاتهم، وبلدان نشاطهم، وأيسر السبل إلى ذلك إعادة طرح "سؤال مكة" بكل عمقه وندوبه، على أن يشترك الجميع، بكل اختلافاتهم وتناقضاتهم الدينية والفلسفية والاجتماعية واللغوية، في طرح السؤال، بنفس المستوى وينفس الشروط. لعلنا بهذا نتمكن من استعادة المبادرة الحضارية، وأول شروطها التحرر في السؤال، والثورة على التابوهات، في سبيل بناء عقد ثقافي جديد.
عبد الحق الزموري
باحث
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: