الثقافة والنهضة، الثقافة العربية والتقنية الحديثة، التحدي العلمي والتكنولوجي، العقل العربي أهو مشدود إلى الخلف, أم جامد في مكانه، أم أنه عقل قادر على التطلع بأمل إلى مستقبل أفضل، الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد... هذه العناوين كلها وغيرها إشكالات مطروحة ومشروعة ويجب حسمها، أو الحوار حولها، ولكن بشرط أساسي ألا تكون نوعًا من العلامات المزيفة، أو طريقة لطمس الحقيقة والواقع، أو نوعًا من الدجل السياسي، أو تبريرًا، أو خدمةً دعائية لإيديولوجية سياسية معينة، أو لسلطة محددة، أو قفزًا على الإشكالات الحقيقية في الواقع العربي، أو تعاليًا عليه.
وإذا اعتبرنا أن الثقافة هي التي تقود عملية تغيير المجتمع وتقدمه، أو أنها في أقل الحالات تقع في القلب من عملية التغيير والنهضة والتقدم وليست مجرد عملية استهلاك عقلي للإمتاع، أو التسلية، أو إبراز الذات الشخصية، أو المجتمعية فإن من الواجب علينا علميًا أن نضع التصور الصحيح للأرضية الاجتماعية والأوضاع المجتمعية التي تعمل فيها هذه الثقافة، وبالتالي فإن إشكالات أخرى تسبق هذه الإشكالات يجب أولاً أن يجري الحوار حولها أي يجب ألا يتم تجاهلها، أو القفز عليها، وهذه الإشكالات منها هل يمكن للثقافة أن تكون قائدة لعملية التغيير والتقدم في ظل سلطة مستبدة؟ وهل نستطيع حسم تحدي العلاقة بين السلطة المستبدة والثقافة قبل حسم قضية التحدي في علاقة الثقافة بالعلم والتكنولوجيا مثلاً، وبكلمة أخرى هل تصبح الثقافة قادرة على حسم تحدياتها المطروحة دون أن تصبح ثقافة لمواجهة الاستبداد وهل يصح الحديث أصلاً عن دور للثقافة في غياب الحرية!
الأمر ذاته في الحديث عن الثقافة في مجتمع مستعمَر، سواء أكان الاستعمار تقليديًا، أم استعمارًا حديثًا يعمل من خلال آليات السوق، أو المؤسسات المالية الدولية العملاقة، وهل يمكن الحديث عن ثقافة قائدة وقادرة على التغيير إذا تجاهلت هذه الثقافة قضية كشف العلاقات الاستعمارية ومواجهتها.
ومن هذه الإشكالات أيضًا الحوار حول طبيعة التصور الحضاري في العالم، فهل الحضارة في العالم مجرد حضارة واحدة تسهم فيها الأمم المختلفة بإسهامات معينة في أوقات معينة، أم أن هناك خصوصيات حضارية لكل أمة، وتواصلاً حضاريًا، أو انقطاعًا حضاريًا يخص كل حضارة على حدة، ويشتق من هذا السؤال العديد من الأسئلة هل نحن أمة ذات حضارة خاصة وهل انقطع تواصلنا الحضاري؟ أم أننا في حالة هزيمة حضارية فقط وينبغي البدء في عملية إقلاع حضاري جديد ومواجهة تحدي الهزيمة الحضارية؟. وهل الحضارة الغربية ذاتها حضارة عالمية؟ أم أنها حضارة لا تحمل سمات العالمية؛ لأنها قائمة على العنصرية والقهر والعنف ونهب الآخرين؟ وهل الطريق إلى التقدم يمر عبر تأكيد الهوية والخصوصية والمواجهة مع الحضارة الغربية أم يمر عبر الاندماج والذوبان في تلك الحضارة.
هنالك في الثقافة العربية مدرستان أساسيتان، دون إغفال التمايزات البدهية والطبيعية داخل كل مدرسة على حدة، المدرسة الأولى قفزت على الإشكاليات الحقيقية الأولية وتجاهلت الواقع وتعاملت مع الظواهر على أنها في الفراغ، انطلقت هذه المدرسة من اعتبار الحضارة الغربية حضارة عالمية نحن جزء منها، أي إنها تجاهلت البعد اللاعالمي في الحضارة الغربية، وتجاهلت عنصريتها وممارساتها الاستعمارية ، وراحت بالتالي تناقش وسائل الاندماج وأساليبه وطالبت بالقضاء على كل ما يَحُولُ دون هذا الاندماج من خصوصية حضارية، أو هوية أو دين ، وهذه المدرسة أيضًا هي التي هيمنت على أدوات الثقافة العربية وسيطرت على التوجيه التربوي والتعليمي والإعلامي والفني وارتبطت بالسلطة السياسية بطريقة، أو أخرى فتجاهلت عن عمد غياب الحرية باعتبارها شرطًا للثقافة، وأهم رموز هذه المدرسة الطهطاوي، وطه حسين، ولويس عوض، ومحمد أركون وغيرهم وكلهم تقريبًا كانوا وزراء تعليم أو ثقافة، أو قيادات كبيرة في أجهزة السلطة الثقافية والتعليمية والتربوية والإعلامية ولم يكن لهم إسهام يذكر في قضايا مواجهة الاستعمار، أو مناقشة قضايا الحرية والتبعية، بل جل إسهامهم يكمن في الدعوة المباشرة إلى الالتحاق بقطار الحضارة الغربية وقطع الصلة بهويتنا الثقافية بل وديننا مثل عبد الله العروي, أو حتى الترويج المباشر والدفاع المباشر عن السلطة الاستعمارية مثل لطفي السيد وقاسم أمين، أو الطعن في عقائد الأمة وتشويه تراثها مثل حسين أمين وسعيد عشماوي ومحمد أركون ولويس عوض, أو الارتباط المباشر بالسلطة وتبرير تصرفاتها الاستبدادية وخلع صفات الثورية والتقدمية عليها وإلباسها ثوبًا أيديولوجيا برغم كونها سلطات عسكر في الأساس مثل محمود أمين العالم ولطفي الخولي ورفعت السعيد, أو حتى ترويجًا للكيان الصهيوني ودعوة للاندماج معه في إطار مشروع إنسان شرق أوسطي يضم العربي والإسرائيلي على قدم المساواة مثل فرج فودة، وهكذا وبرغم السيطرة شبه التامة على أدوات الثقافة من أجهزة وصحف وإذاعة وتليفزيون وسينما ومسرح بل ومؤتمرات علمية ظلت ثقافة هؤلاء مجرد بذور استنبتت في الهواء فلم تخضرّ ولم تثمر وظلت غريبة عن الواقع شكلاً ومضمونًا.
والمدرسة الثانية في الثقافة العربية كانت تلك المدرسة التي طرحت الإشكاليات الحقيقية الأولية ولم تتجاهل الإشكاليات الأخرى فنجد أن عبد الله النديم ومالك بن نبي ومنير شفيق قد طرحوا قضايا الحرية، الاستعمار، التبعية، الخصوصية الثقافية والحضارية لأمتنا ولم يتجاهلوا قضايا التقدم العلمي والتقني والنهضة والعلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، ونشأت هذه المدرسة بعيدًا تمامًا عن السلطات المستبدة بل من خلال المواجهة معها وكذا مواجهة الاستعمار وحشد الجماهير للنضال ضده وتثوير الواقع ورفض كل ما هو سلبي في العادات والتقاليد والتأكيد على عوامل الإيجابية في الشخصية العربية، وبرغم أن رموز هذه المدرسة قد تعرضوا للاضطهاد دائمًا من قبل السلطات الاستعمارية ثم السلطات المستبدة، فإن ثقافتهم التي استنبتوها في ضمير الأمة ووجدان الشعب ما زالت تترعرع وتخضر وتثمر. وبالطبع فإن هذا المدرسة الثقافية لم تقتصر على هؤلاء الذين كان لهم إسهام ثقافي مباشر مثل النديم ومالك بن نبي ومنير شفيق وغيرهم، بل يمكن أن نضيف إليهم مصطفى كامل ومحمد فريد وعز الدين القسام وعمر المختار وعبد القادر الجزائري وغيرهم؛ لأن ثقافة المواجهة اقتضت أن يكون المجاهدون ذوي إسهام ثقافي فنجد أن الزعماء من أمثال هؤلاء كان لهم إسهامهم ورأيهم ونضالهم على المستوى التربوي والتعليمي والثقافي، بل نجدهم هم أنفسهم قد مارسوا التعليم والتربية من خلال محو الأمية، أو تحفيظ القرآن "عمر المختار"، أو إنشاء الجامعات والمدارس "مصطفى كامل ومحمد فريد"، أو دروس العلم "عز الدين القسام"... وهكذا، بل ونجد أن أصحاب المشروعات الثقافية منهم كانوا زعماء المواجهة الشعبية ضد الاستعمار والاستبداد, أو مقاتلين في صفوف الجماهير ضد الكيان الصهيوني.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: