في إطار واقع المسلمين وضعفهم وافتتانهم بعدوهم الذي هزمهم، فصاروا يقلدونه في كل شيئ من عاداته وأحواله، في مأكله ومشربه وملبسه، والأخطر من ذلك يتعلمون لغته ليقرأوا بها ويتواصلوا بها ويتفاخرون بذلك، في هذا الإطار الضعيف المنهزم تم إنشاء المدارس الأجنبية في بلادنا العربية المسلمة لتستوعب أبناء المسئولين والطبقات الغنية والثرية.
سرعان ما زاد الاهتمام بهذه المدارس حتى افتتن بها الناس أيما افتتان، ثم أضيفت إليها الجامعات الأجنبية مع قلة الاهتمام بالمدارس والجامعات العامة، حتى أصبح أصحاب الأعمال لا يطلبون لأعمالهم إلا خريجي هذه المدارس والجامعات.
إن البسطاء ينبهرون باللغات الأجنبية التي يجيدها خريجو هذه المدارس والجامعات، ولكنهم لم يهتموا بتأثير دراسة اللغات الأجنبية على عقل وثقافة وهوية ووجدان الطفل المسلم.
والخطر مضاعف على اللغة العربية من حيث إن الطفل لم تعد أمه العربية هي التي تلقنه وتعلمه، بل أصبحت الخادمات الفلبينيات والهنديات وغيرهن هن اللاتي يتعاملن مع الأطفال.
المخلصون من أهل العلم والرأي في بلادنا يحذرون من سلبيات تعليم اللغات الأجنبية للأطفال في مراحل عمرية مبكرة؛ لما يحمله ذلك من مخاطر على اللغة الأساسية للطفل، ويؤكدون على أنه لا مانع، بل يتوجب تعليم اللغات الأجنبية، ولكن في مراحل لاحقة حينما يكبر الطفل وتترسخ اللغة القومية في ذهنيته ونفسيته، بحيث يشعر الطفل أن هذه هي لغته الأم والأساسية.
إن إتقان اللغة الأجنبية لا يتم في عقل ووجدان الطفل إلا على حساب اللغة الأم لغة العرب، ومع اللغة تدخل المُثُل التي يريدها الأعداء، فضلاً عن الإتقان الضائع على حساب لغة القرآن.
والوقت المناسب لدراسة اللغة الأجنبية يكون عادة في سن المراهقة أو قبلها بقليل، وذلك عندما يبدأ الناشئ يهتم بالعالم الخارجي، وبالأقوام الذين يعيشون خارج وطنه ممن لهم به صلة في تاريخ أمته القديم أو الحديث، ففرنسا وإنجلترا ومعظم دول أوربا لا تعلّم في المرحلة الأولى إلا لغة الطفل القومية.
إن اللغة العربية هي وعاء الفكر والثقافة العربية لارتباطها بالتاريخ والثقافة والهوية لمواكبة التطور العلمي والمعرفي، والاهتمام بها من شأنه أن يجعلها أداة تحديث في وجه محاولات التغريب والتشويه التي تتعرض لها الثقافة العربية، ومن هنا تأتي أهمية الحرص على استعمال اللغة العربية الفصحى والميسرة، والبعد عن استخدام اللهجات العربية الوطنية في مجالات التعليم والإعلام.
أهمية التركيز على اللغة تأتي من كون ضياعها هو ضياع للهوية والخصوصية الوطنية، والعوامل التي يمكن أن تؤدي إلى تهميش اللغة العربية هي طغيان اللغات الأخرى خاصة الإنجليزية، والسعي وراء التعليم في المدارس الإنجليزية، وتشتت اللغة العربية بين اللغات المختلفة، وعجز اللغة عن مجاراة المخترعات والمبتكرات التي اهتم بها الطفل.
واللغة العربية أيضًا، بحاجة إلى عناية واجبة من قبل اللغويين والنفسيين والتربويين والاجتماعيين، ومن قبل وزارات التربية والجامعات ومراكز البحوث والدراسات ومجامع اللغة، كما أن هناك مسئولية تقع على عاتق المسئولين عن الأسرة والطفولة، فكل هؤلاء يجب عليهم العناية بهذه القضية الخطيرة حتى نربي أطفالنا تربية على أصولها، فاللغة القومية هي من المقومات الأساسية للهوية والشخصية.
كل دول العالم تسعى جاهدة للحفاظ على هوية أطفالها، وخلال العقد الأخير أقامت أوروبا والولايات المتحدة العديد من المؤتمرات والمنتديات حول هذا الموضوع، وتأسست شبكة أوروبية للهوية الثقافية والمواطنة لأطفال أوروبا، كما قامت العديد من الدول مثل اليابان والدول الاسكندنافية بتغيير في مناهجها ومقرراتها التعليمية لدعم الهوية الثقافية لأطفالها، أما نحن فما زلنا نائمين ونسلم أطفالنا إلى غيرنا ليخطفوهم منا ويعلموهم كل ما يفصلهم عن أوطانهم.
إن كثيرًا من خبرائنا التربويين يحذرون من محاولات الدول الغربية لنشر ثقافتها الفكرية على غيرها من الدول ومن بينها الدول العربية؛ وذلك من خلال وسائل الإعلام ذات المضمون الأجنبي، الأمر الذي يؤثر على الذاتية الثقافية، خاصة من قِبل الطفل الذي يأخذ ما يشاهده كواقع، ومن ثم فإن المواد الإعلامية الأجنبية التي تبث عبر القنوات الفضائية العربية لها تأثير واضح على تأثر الطفل بها لأن جهاز التلفاز يتفوق على غيره من وسائل الإعلام حيث يعتمد حاستي السمع والبصر للحصول على المعلومات.
وما أجمل وأروع قول الأديب مصطفى صادق الرافعي في وحي القلم: (وما ذلَّت لغة شعب إلا ذلّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمرة، ويرعبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد:
أما الأول: فيسجن لغتهم في لغته سجناً مؤبداً، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم بالأغلال التي يصنعها فأمرهم من بعدها لأمره تبع).
كما فطن ابن خلدون إلى مضار الجمع بين لغتين أو علمين فيقول: ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم: أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً، فإنه حينئذ قلَّ أن يظفر بواحد منها لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معاً ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة).
لقد صار الإعلام في الدول العربية مطالبًا بإحياء اللغة العربية في البرامج والأعمال الدرامية، والاتفاق على وضع ميثاق شرف إعلامي يلزم بالتعامل باللغة العربية في البرامج، وكذلك تطوير منظومة قيمية تعمل على تنشئة الطفل العربي وفقاً لها تغرس فيه اعتزازه بهويته وانتمائه إلى عروبته.
إن مشكلة مجتمعاتنا هي في زيادة عدد من المبتعثين الذين رضعوا من لغة الاستعمار وتراثه الثقافي والفكري والتاريخي والنفسي والذين ترسخت هويته في نفوسهم وعقولهم بدلاً من هوية بلادهم، فأنتج ذلك منهم نتاجًا هزيلاً يخدم المستعمر، ويضيع خصائص بلادنا وأمتنا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
9-04-2009 / 08:39:05 ابو سمية
وماذا عن عمليات ضرب اللغة العربية والالحاق بالفرنسبة التي تمضي بتونس
مايؤكد صحة مجمل الافكار والملاحظات الواردة بهذا المقال، هو حال العديد من المتغربين منا نحن التونسيين.
فانظر مثلا للمدونات التونسية جلها بالفرنسية، وانظر لمواقع الوب التونسية، فجلها بالفرنسية، وانظر لانتشار تعليم الفرنسية بمنظومتنا التربوية، فهو يفرض على الطفل التونسي منذ السنوات الاولى، بل ان المدارس الخاصة تتنافس في مدى تمسكها بالمناهج الغربية والزام التلاميذ بها، حدا يجعلها تسعى لفرض مناهج اجنبية فرنسية وغيرها على الاطفال منذ السنة الاولى ابتدائي
والغريب ان يستغرب بعد ذلك البعض مما ال اليه امر الحاقنا نحن التونسيون بالغرب، فهل ينتظر غير ذلك من مجمل عمليات الالحاق والاقتلاع التي تمضي منذ نصف قرن، من دون ادنى معارضة تذكر من مجمل المتحركين والمؤثرين بالواقع، لان هؤلاء (النخب الاعلامية والسياسية ) اصلا نتاج عمليات الاقتلاع هذه
9-04-2009 / 08:39:05 ابو سمية