د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 921
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كانت لي معرفة بالمراسلة مع أحد كبار المستشرقين الإنجليز الراحل ادمونت كليفورد بوزوورث، في آخر سنواتي للحصول على الدكتوراه من جامعة باريس - السربون وبالتحديد في سنة ١٩٧٠.
ربطتني به في الأصل صداقته بأستاذي الفرنسي البروفسور كلود كاهان بمناسبة إشرافه على الجانب التاريخي من رسالتي للدكتوراه بطلب من زميله البروفسور شارل بيللا المدير المشرف بالأساس على موضوعي «الدولة الطاهرية في العراق وخراسان، تاريخها وأدبها». وهي دولة وراثية قامت في عهد المأمون وامتدت بعده الى أكثر من قرن في شرق الخلافة العباسية، كالأغالبة في إفيقية والمغرب.
وكانت المناسبة تكليفي من طرف الأستاذ كاهان بكتابة بحث عن أصول الطاهرين في الدعوة العباسية، لنشره في مجلة «أرابيكا» الاستشراقية للتعريف بنفسي وباختصاصي قبل أن أمر الى مرحلة الحصول على الدكتوراه، باعتبار تلك الأصول التي وجدني في مقدمة عملي كشفت عنها كانت مجهولة قبلي. ولقي هذا المقال قبل نشره صدى لدى زميله بوزوورث المختص في الإسلاميات وصاحب الأطروحة المنشورة عن الدولة الغزنوية وهي دولة وريثة للطاهرية والدويلات اللاحقة في منطقة خراسان وما والاها (أفغانستان حالياً).
فأثار هذا المقال قبل نشره في المجلة تطلع الأستاذ بوزوورث إليّ فالتمس من الأستاذ كاهان أن يوجه اليه إذا وافقت بنسخة من عملي قبل المناقشة.
فوافقت طبعاً وكانت بداية التعارف.
ووقع أولاً في عملي على النص الكامل لوصية طاهر بن الحسين - مؤسس الدولة - لابنه عبد الله بن طاهر، محققة من مصادر عديدة وأصول نادرة، فترجمها الى الانقليزية ونشرها استناداً إليّ، وأرسل لي بنسخة منها شاكراً جهودي في العثور على ما يوثق هذه الوصية المعتبرة الأطول والأشمل من نوعها في باب الحكم والسياسة الرشيدة في الإسلام.
وأما رسالته هذه المبكرة فكانت للتهنئة بنجاحي في الحصول على الدكتوراه والتطلع إلى النسخة النهائية منها بعد صدورها - كما يتوقع - مطبوعة عن طريق جامعة ليل بفرنسا، في نسخ محدودة لتعريف عالم الاستشراق بها، حتى لا يتأخر ظهورها بسبب ظروف الطبع المتعذرة أحيانا أمام بعض الناجحين.
والذي أريد أن أطلع القارئ عليه بمناسبة نشري لهذه الرسالة هو لفت النظر الى بعض وجوه الخلاف بين قراءة المستشرقين عامة لتراثنا وبين قراءة غيرهم من أبناء اللغة نفسها والحضارة نفسها، التي هي غير حضارتهم ودينهم.
فهو هنا يؤكد على نقطتين هامتين بالنسبة اليه هما انتساب الأقوام غير العربية في الدول التي أسس قوادها حكمهم لها انتقاضا على الخلافة أو بولاية منها، انتسابهم بأحد أجدادهم في دخول الإسلام على يد الخليفة عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وبالولاء للعرب في بعض قبائلهم، كالطاهريين في خزاعة، فيقال في نسب طاهر بن الحسين، الخزاعي، ومثله الوالي علي بن عيسى بن ماهان الفارسي الأصل هو كذلك، والذي كان قائد الرشيد وواليه في خراسان ثم أصبح أحد كبار قادة ابنه الأمين الذي قتله طاهر بن الحسين قبل دخول بغداد وانتصار المأمون بفضله فولاه خراسان، وهي نصف الخلافة العباسية تقريباً شرق بغداد.
واستند بوزوورث الى أن هذه النسبة الى الإسلام متأخرة، وآلية من آليات الحكم، وقد لا تكون حقيقية، وإن ذكرها أكثر من مصدر، لتكررها في صورة الحال وبالمماثلة في حالات أخرى كنسب الغوريين الذين درس دولتهم.
وهذا ليس برأي حاسم في قضية اتصال نسب كل هذه الدويلات التي قامت في الإسلام وانتسبت أصحابها الى العرب ودخول الإسلام علي يد علي لأسباب اجتماعية ودينية. ولا ينفي هذه النسبة مجرّد التشكيك في روايتها، كما زعم بوزوورث هنا، حتى وكأنه يريد أن يبعث الشك فيّ لإسقاط هذه النسبة القائمة بالولاء في القبائل العربية التي حملت الإسلام الى الأقوام الأخرى والتحمت بالعروبة ولغتها المشرفة وبالأخوة الدينية، كالطاهريين في خزاعة.
والأمر الثاني تشكيكه المطلق في المصادر المتأخرة كعامة المستشرقين في القضايا الدينية لزرع الفتنة وإثارة النعرات بين القبائل والشعوب التي آخى بين بعضها الإسلام وبين بعض وأسلمت لحكامها الأصليين المقاد باعتبارهم دخلوا الإسلام.
ومن لطيف انتظاراته في هذه الرسالة المؤرخة بعد أسابيع قليلة من حصولي على الدكتوراه، في غرة مارس من العام نفسه، سؤاله لي هل تسلمت الآن وظيفتك في التدريس بتونس، وكأنه يستشعر ما يعترض مثلي في الدول غير المتقيدة أنظمتها بالضوابط القانونية الأصيلة في التعامل مع أبنائها، أو يكون قد بلغته أصداء الاعتراض على دخولي أصلاً للجامعة التونسية، لمنافسات شخصية، حتى أن المسؤولين فيها وجهوا بموفد من قبلهم بمهمة رسمية الى باريس للتدخل لدى المشرف بيللا لتأجيل المناقشة التي تقرر تاريخها دون علمهم بانتظار الإذن للطالب بذلك، فكان الرد، ومتى كانت جامعة تونس تشرف على جامعة باريس؟
لقد أثارت هذه الرسالة بعض الذكريات والمواقف، لم أترددد في كتابتها لما سمحت لنفسي بنشرها كوثيقة تاريخية.
ومن باب التقدير والمودة وتوطيد الصلات العلمية تمنى الراحل العزيز في آخر رسالته أن نلتقي، وبكل تأكيد ويقول إنه وإن كان لم يزر تونس ولا طبعاً أي جزء من بلاد المغرب ولكن بالإمكان اللقاء معاً بالقاهرة التي سبق له أن قضى بها وقتاً طيباً وألقى بها جملة محاضرات ثلاث بجامعة القاهرة وبالجامعة الأمريكية هناك. لكن حالت الظروف دون اللقاء وتوفاه الله الى رحمته وغفرانه عام ٢٠١٥ عن عمر يناهز ٨٧ عاماً وتراث بعشرات الدراسات والمقالات.
------------
تونس في ٣ جمادى الثانية ١٤٤٤ه / ٣/ ١/ ٢٠٢٣م
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: