سجل نقل ولاية العهد في المملكة السعودية انتقالا جيليا غير مسبوق في الخليج العربي في قلب ممالك اساسية اهمها العربية السعودية وبالتالي افتتاح عهد جديد يعين فيه لاول مرة ملك سعودي ابنه كخليفة منذ الملك عبد العزيز. لكن يبدو ان لهذا الانتقال ثمن باهض. وليس انتقالا عمريا فحسب بل يبدو ايضا انتقالا في شكل التعاطي مع احد الاطراف الاساسية في المنطقة اي اسرائيل. العلاقات بين الخليج واسرائيل ليست مستجدة لكنها بقيت في كثير من الاحيان غير معلنة، لكن يبدو ان الانتقال في مقود القيادة يتم بالتنسيق مع تغير جذري في مستقبل العلاقات الخليجية-الاسرائيلية الى تطبيع رسمي بل الى مستوى تحالف استراتيجي ضد الخصم الايراني وكل من يرفض المعركة معه.
فالتقارير الاعلامية تتزايد منذ اشهر قليلة عن تسريبات تخص نوايا تطبيع رسمي بين المحور السعوي-الامارتي وتل ابيب. اخرها الذي نشرته اليومية البريطانية "التايمز" يوم 17 جوان والذي يتحدث عن بدئ مفاوضات بين الرياض وتل ابيب لتطبيع تجاري. ويذكر التقرير "ان السعودية واسرائيل تجريان محادثات لاقامة علاقات اقتصادية، وهي خطوة مثيرة تضع الدولة العبرية على طريق العلاقات الطبيعية مع معقل الاسلام السني.. وذكرت مصادر عربية وأمريكية أن الروابط ستبدأ صغيرة: السماح للشركات الإسرائيلية بالعمل في الخليج، على سبيل المثال، والسماح لشركة الطيران العال، الطيران الوطني، بالتحليق فوق المجال الجوي السعودي".
صحيح أن مصادر سعودية رسمية نفت الخبر. لكن تواتر الاخبار حول هذا التقارب وخاصة طبيعة المطالب الخليجية التي تسربت في خصوص الحصار على قطر تؤكد اننا بصدد سياسة منسجمة تلتقي في استراتيجيا مع المطالب الاسرائيلية، خاص فيما يتعلق بعزل ايران واستهداف قيادة حماس وانهاء دور الجزيرة خاصة مع سابقية دورها الاعلامي في توفير منبر جدي وواسع الانتضاء لقوى اساسية في المقاومة الفلسطينية.
من جهة اخرى على خلفية دخان التجاذبات الخليجية التي افرزت الازمة الاخيرة تسربت وثيقة رسمية صاغها المحور السعودي-الاماراتي تدفع في اتجاه تطبيع مع اسرائيل في افق اصطفاف جديد في المنطقة. التقرير الذي نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" في منتصف ماي يتحدث "على تفاصيل من وثيقة أعدت خلال المناقشات بين مختلف البلدان العربية السنية." وذكر التقرير "ان السعودية والامارات العربية المتحدة اللتان صاغتا الاقتراح ابلغتا ايضا الادارة الامريكية واسرائيل بالعرض".
وتقترح الوثيقة: "اتخاذ الدول العربية السنية خطوات مثل إنشاء خطوط اتصالات مباشرة مع اسرائيل مما يسمح لشركات الطيران الإسرائيلية بالتحليق فوق المجال الجوي لدول الخليج وإلغاء القيود التجارية مع إسرائيل. وتشمل خطوات التطبيع الإضافية التي يتم وزنها منح تأشيرات للرياضيين ورجال الأعمال الإسرائيليين المهتمين بزيارة دول الخليج. وفي المقابل، تطالب الدول السنية بأن تتخذ حكومة نتنياهو خطوات هامة لدفع عملية السلام مع الفلسطينيين، وخاصة تجميد البناء خارج الكتل الاستيطانية".
خط الاتصال الاماراتي الاسرائيلي اكثر وضوحا خاصة مع افتتاح مكتب ديبلوماسي في ابو ظبي لكنه ليس مفاجئا بسبب وجود رجال الاعمال الاسرائيليين في الامارات منذ فترة. الجديد الجرأة السعودية غير المسبوقة على التواصل الرسمي مع اسرائيل وكانت المحطة الاكثر اثارة للانتباه منذ حوالي العام عندما التقى الامير تركي الفيصل احد اهم الشخصيات الصانعة للقرار في المملكة خاصة في المستوى الاستعلاماتي مع الجنرال ياكوف ادميرور المستشار الخاص لنيتنياهو. ادميرور الذي كشف عن تفاصيل اللقاء لاحقا وصرح بشكل مثير للانتباه: "ليس هناك اي شيء يمكن ان يقف امام ائتلاف المال الاسرائيلي والعقل السعودي".
الحقيقة ان صعود ترامب وعلاقته الخاصة مع المحور السعودي-الاماراتي توفر ارضية مناسبة تدفع بشكل اقوى نحو هذا التغيير. وقد اشار مراقبون اسرائيليون في نفس سياق هذا الموضوع: "هذا التقارب بين اسرائيل والدول العربية السنية وادارة الرئيس دونالد ترامب يخلق امكانية التنسيق والتعاون الحقيقيين بين اسرائيل والعالم العربي".
من جهة أخرى من الصعب أيضا تجنب الربط بين صعود الامير محمد بن سلمان وافتكاكه موقع "ولي العهد" ودوره في التقارب السريع الذي تم مع الرئيس الامريكي ترامب. فبعد ان كانت احد مرتكزات خطاب ترامب الانتخابي الابتزاز العلني لدول الخليج العربي بداعي الحماية العسكرية، تغير خاصة بعد الزيارة المبكرة لمحمد بن سلمان وغداء العمل مع ترامب في 15 مارس والذي اشارت الكواليس انذاك انه كان "مثمرا" خاصة في الزيادة الكبيرة في الصفقات العسكرية المبرمجة بين الرياض وواشنطن.
لا يمكن عدم الربط بين صعود بن سلمان وزيارة ترامب وتجديد التحالف الاستراتيجي الامريكي السعودي. هناك ما يمكن ان يصل الى مباركة امريكية التي اعطت على الارجح الثقة للملك ان يغامر ويحدث التغيير الذي كان منتظرا ربما في المدى المتوسط لكن ليس بهذه السرعة. حيث كان الملك يبحث عن المباركة في انتصار حسام في اليمن لكن في النهاية وجدها عند ترامب ودفع من اجل مليارات الدولارات.
يبقى انه رغم كل هذه الطموحات المنفلتة التي ربما تقطع مع سياسة خارجية محافظة لا يبدو الوضع في السعودية بسيطا قابلا لتغييرات ربما تمس من مسلمات عقائدية وروحية اساسية في علاقة بالدولة العبرية. اذ اننا في سياق دولة تعيش نموا ديمغرافيا سريعا مقابل تناقص الموارد التقليدية النفطية وتزايد نسبة الفقر، وكل ذلك في سياق احتقان ثقافي وفكري بين اوساط دينية محافظة متشددة محاطة بنخبة وهابية راديكالية، مقابل نخبة اخرى تلقت تعليمها في الغرب، ثم طائفة شيعية تشعر بالمظلومية اقصى شرق البلاد. ومع كل ذلك العائلة الحاكمة متشعبة وتتوسع باطراد. كل هذه العناصر توفر مشهدا شددي الالتهاب. والاخطر ان يكون التطبيع مع اسرائيل عود الثقاب الذي يشعل كل شيء حيث عوض تأمين العرش للامير الطموح الشاب يصبح المطروح استقرار المملكة السعودية وربما حتى وحدتها الترابية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: