رغم استماته الإعلام الرسمي الخليجي في رفض توصيف الإجراءات الأخيرة ضد دولة قطر بأنه حصار وإصرارهم على أنها مسألة مقاطعة فحسب فإن كل الدلائل والتصريحات الرسمية السعودية تؤكد أن الفعل حصار في شهر رمضان. فقد صرّح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير من الولايات المتحدة بأن السعودية مستعدة لتلبية كل الحاجيات الغذائية التي تحتاجها قطر وهو اعتراف رسمي بأن العملية حصار ممنهج ومدروس.
ليس مدار الحديث هنا عن الحدود الأخلاقية للعملية التي تمت في الشهر الحرام من أجل تركيع القرار القطري ونزع السيادة عن دولة عضو مؤسس لمجلس التعاون الخليجي. بل مدار الحديث هنا عن رفض المحاصرين الاعتراف بحصارهم الذي لا تخطئه العين. صحيح أن السحر انقلب على الساحر وصحيح أيضا أن مشروع الهجمة على قطر قد سقط في الماء بسبب ردود الفعل غير المتوقعة من طرف الرأي العام العربي والخليجي بشكل خاص وأساسا من داخل الدول التي خططت للحصار ونفذته.
لكن نعتقد جازمين أن استهداف قطر ليس سوى المرحلة الأولى في مسلسل طويل يستهدف المنطقة العربية والخليج العربي بشكل خاص. نقول ذلك لأن السياق السياسي والدبلوماسي الذي تنزل فيه الحملة الأخيرة ضد قطر ليس سياقا عربيا عربيا ولا سياقا ثنائيا بقدر ما هو جزء من مشهد كامل هو بصدد التشكل داخل المنطقة.
في وسط هذا المشهد تتمركز القمة الأمريكية العربية التي انعقدت في الرياض وحضرها عراب المشهد الجديد دونالد ترمب. فليس من الصعب ولا من معجزات التحليل الربط المباشر بين الزيارة الأمريكية وبين الحصار الذي ضرب على قطر مباشرة بعد الزيارة "المشؤومة".
ثم من ناحية أخرى تتنزل الزيارة الأمريكية في سياق حساس لا تمثل المليارات التي دفعت فيها إلا رأس جبل الجديد الذي ستشكل مياهه مستقبل المنطقة العربية من جديد. فالانقلابات العسكرية على ثورات الشعوب التي أتمت دورتها كاملة اليوم تمثل انتصارا دمويا حاسما لقوى الثورة المضادة في مواجهة الربيع العربي ومطالبه بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
بناء عليه ووعيا من قوى الاستبداد العربي بأنه تمت تصفية المكاسب الثورية الأولى فإن نفس هذه القوى تقوم اليوم بتصفية الإرث المتبقي من ثورات الربيع باستهداف مركز القوى والوعي التي لا تزال ترفض التخندق ضد الثورات وضد مكاسبها ولو كانت هذه المكاسب مكاسب رمزية مثل حرية التعبير أو حرية الحركة والتنقل أو حتى حرية التعاطف.
المشروع الكبير إذن هو إعادة رسم المنطقة العربية بشكل يعيد مكونات الاستبداد العربي ومفاصله المركزية إلى مكانها الذي كانت عليه قبل الانفجار التونسي الكبير في تونس لكن بشروط تحصنه من الهزات القادمة. أي أن النظام العالمي يسعى إلى ترميم منظومة الاستبداد العربية مع إضافة مكون جديد يمنع تجدد شروط الربيع العربي وفعل الثورات المصاحبة له من أجل تحصينه من السقوط.
في هذا السياق العام تتنزل حرب الحصار الأخيرة التي شنّت ضد دولة قطر وفي هذا الاطار أيضا يتنزل الانقلاب التركي الفاشل خلال الصيف الماضي باعتبار أن الهدف من العملتين واحد وهو تطويع الدول التي ترفض الاعتراف بتصفية ثورات الشعوب والارث الناسل عن هذه الثورات. لكن ما له يكن متوقعا هو الفشل الذريع الذي مني به مشروع تصفية إرث الربيع العربي سواء بعد فشل الانقلاب التركي من ناحية وفشل إعادة منظومة الاستبداد كاملة وكذلك فشل الحصار على القوى التي ترفض الاعتراف بالانقلابات.
هذا الفشل الكبير ليس فقط نصرا لدولة قطر وللقوى المتحالفة معها وعلى رأسها الجماهير التي آمنت بثورات الربيع العربي وبالقدرة على التخلص من الإرث الثقيل للاستبداد العربي بل هو قبل كل شيء نصر لإرادة التغيير داخل الأمة العربية والمسلمة وهي الارادة التي لا تزال تدفع عنها ثقافة الموت والقبول بالموت تحت أحذية الطغيان العربي.
سقوط حصار رمضان درس جليل في تغير الوعي العربي وفي بداية انكفاء الوعي القديم الذي كان حارسا لمنظومة الاستبداد العربية طيلة عقود من الزمان. لكنه من ناحية أخرى مؤشر بارز على اتساع الشرخ العربي الذي طال منطقة كنا نعتبرها الجزء الأسلم من المنطقة العربية وهي منطقة الخليج العربي ودول مجلس التعاون الخليجي.
إن أهم الخلاصات التي يجب الوقوف عندها بعد الأزمة الخليجية الأخيرة إنما تتمثل أساسا في الوعي بأن إعادة ترميم النظام الاستبدادي العربي أمر مستحيل إجرائيا. كما أن الاعتقاد بقدرة المؤسسات العربية الإقليمية مثل جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي على الصمود في وجه المتغيرات السريعة التي تعصف بالمنطقة لا يمثل اليوم إلا تعميقا لمأساة الأمة التي تتهددها المخاطر من كل صوب.
إن فشل حصار قطر تعبير صارخ على أن الوضع العربي اليوم هو غير الوضع الذي كان قبل ثورات الربيع وأن مصير كل محاولة لإلغاء هذا الفعل الجماهيري العظيم مآلها الفشل والفشل الذريع.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: