قداسة اللون والصورة في تجربة الفنان نجيب شمس الدين
بسمة منصور - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3841
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لا ريب في ان لكل فنان رؤيته الخاصة حول العالم، رؤية يعكس فيها تأثيراته الجمالية ويقدم من خلالها موضوعاته الفنية بخطاب ذاتي. ففكره الفني ينمو ويزدهر بمدى ديناميكيته وانصهاره في الواقع، ليقدم أثرا فنيا يسعى فيه إلى احترام أشكاله وأصالته ومعتقداته، بعيدا كل البعد عن مفاهيم الفن المعاصر، بل يعمل على تأكيد مسؤولياته تجاه فكره، ويقر باحترامه للصورة الحقيقية. فإعادة إنتاج الواقع لا تعني غياب الإبداع والوقوع في فخ المحاكاة بل هي ثقافة نفخ الروح في المشاهد الفلكلورية فنيا، ليعلن المشهد تمرده عن الأصل وان كان محاكاة، تمرد لا في المضمون وإنما في الرؤية والقراءة التشكيلية، هي ثقافة النظر وكيفية التأمل لجمالية الصورة لنتبين الاختلاف بينها وبين الصورة الحقيقية، فالجدران القديمة، والأشخاص والمنازل... صور تشدنا لنستسلم لجمال المشهد ونستحضر دقة استيفاءها للواقع لتؤكد مدى قداسيتها للحقيقة. فالفنان المبدع -كما يقول مالرو- "هو ذلك الفنان الذي يخلق منظر فني يكون اجمل وأروع من مثيله في الطبيعة. نحن نعجب بمنظر طبيعي جميل، بيد أنه قد يثير اعجابنا بصورة اكبر اذا ما شاهدناه من خلال ابداع ريشة فنان"(1) . وفي هذا السياق شدتنا تجربة الفنان نجيب شمس الدين(2) ، تجربة جمعت بين التشيخص والتجريد، لتؤكد بمقتضاها ان التجربة الإبداعية هي جمع بين المشهد المرئي والاحساس الداخلي المحرك لاختيارات الفنان، اختيارات تقر بأنه "لا ينبغي أن نقصي شيئاً من دائرة إعجابنا، بل يجب أن نتعلم كيف نحبّ كلّ شيء"(3) لنتأمل داخل جميع الفنون، لمعرفة النظم الداخلية لنشأة العمل الفني، بدأ بقراءة الأثر فكرا ومعنا وصولا إلى أسلوب التنفيذ المادي الذي سيترجم رؤية الفنان. هي رؤى اقتنصها الفنان من الزمن، في محاولة لبعث الروح فيها، وإبراز مفاتنها. فالمشهد بالنسبة له لم ينتهي بانتهاء صلاحيته في الواقع بل النهاية هي البداية في العمل الفني، البداية التي ستحكي ما خلّفته السنين، فالجدران القديمة والمنازل الخربة أو العجائز... صور قد تبدو في الواقع مألوفة، متهرئة وبالية، عبثت بها الأزمان... فبدأت تنطفئ نظارتها، لتتحول بريشة الفنان إلى مشهد يحمل خطابا تشكيليا ينبش في الذاكرة الشعبية ويصور الموضوعات الواقعية برؤية جمالية تتناغم فيها الألوان والأشكال بدقة وبفلسفة خاصة تتحدى قانون الفن المعاصر، مؤكدا ان الرسم فكر وتطبيق لما يقع في الذات قبل انطباعه على المحمل، لتخرج صورة مشبعة بالإيحاءات فهي تشبه الواقع غير أنها تحمل فكرة ما تجعلها تختلف عن الأصل، تجرك لمحاولة كشف سر جمالها التشكيلي من هنا تتكشف الحقيقة الخفية، حقيقة جمالية الأثر وما يحمله من قداسة المشهد. صور تحاول ترجمة خطابه الذاتي بصورة مدركة تسعى إلى لمس جمالية المشهد الواقعي البسيط.
نماذج من أعمال الفنان نجيب شمس الدين:
لم يحد نجيب شمس الدين عن الواقع، بل جعل من مشاهده البسيطة حكاية تروي جزئيات من الحياة، مستعرضا إمكانية جعل الواقع ذكرى، وان كان واقعا بسيطا ومألوفا، لتصبح الذكرى تعبير عن فكرة نفذت إلى روحه، ليفسر مراحل تشكل الفكرة الذهنية التي بدأت من الواقع لتضحي صورة مادية، مشبعة بفلسفة بصرية فكرية، تعمل على تقديم رؤية ثانية للعالم، رؤية تحتفي بحياة البسطاء بعيدا عن حياة النبلاء والقصور الفخمة.
إننا نجد في لوحاته اهتماما بزوايا المشهد وألوانه، دقة تجعلنا نستشعر تفاصيل الحياة، التي تجمع داخلها عدة صفات، كالفقر، التعب، الصبر، الكدح، السعادة... ولعله خطاب يعبر عن امتثال الفنان لدوره الفكري والفني الذي يقوم على مبدأ التواصل مع المحيط والانصهار فيه لشد المتلقي ليتأمل جمالية هذه الصفات، ليصبح التعب متعة فنية، وتعكس بساطة العيش منظرا جماليا... فلم تعد الحقيقة هي الحقيقة، فقداسة الصورة امتثلت خارجيا لمكونات المشهد وتمردت حسيا عن الواقع لتقدم انطباعا مخالفا لما نتأمله. فما لذي غير الرؤية والمعنى؟ إن لوحات الفنان نجيب شمس الدين لا تقدم كما اعتقدنا عالم الطبقة البسيطة بقدر ما تبرز لنا عالما فنيا يظهر جمال الخطوط وقدرتها على التمثيل وتحويل المحاكاة إلى مشهد روائي، تحكمه ألوان مضاءة وتوزيع متقن للظل والنور، ألوان بناظرتها غيّرت وجهة الحقيقة ليصبح الفن متعة، ولعل هذه المتعة هي الدافع لشد المتلقي نظرا لان " كل تعبير فني يضطر لكي يصل إلى النفس، إلى أن يلجأ إلى الواسطة، لا واسطة الحواس فحسب بل اللذة الحسية. فما من لوحة مصورة إلا وكانت قبل كل شي مصدر لذة للعيون، وما من موسيقى إلا وكانت بالضرورة ممتعة للأذان، وما من شعر إلا وكان ملاطفة..."(4) ونظن أن الفنان لجأ إلى المتعة البصرية لتكون الواسطة، بين أعماله والمتلقي، غير أنها "متعة ذاتية" تتغير بتغير قارئها.
ولا تتوقف المتعة البصرية لدى نجيب شمس الدين عند اللون والشكل وما يقدمانه من خدمات بصرية للمتلقي في اللوحة بل يسعى إلى أن تحمل تجربته الفنية حكاية تتواصل، لا تتوقف بانتهاء اللوحة بل على لوحاته أن تحمل الفكرة ذاتها. ونجاح التواصل يقوم أساسا على دقة اختيار المشهد. ممارسة فنية تنضوي تحت لواء عملي دقيق، قوامه الاختيار والأسلوب. مسار فني يعمل على تواصل الفكرة الذهنية باللمسة الفنية ذاتها وان اختلفت التقنية. وقد تدعي بعض الأعمال انفلاتها عن المسار التواصلي للحكاية غير انه انفلات وهمي تحدثه العين وتفنده عملية التأمل التي تؤكد مدى احترام الفنان للمشهد الواقعي لا الخيالي، واستحضار الانطباع الفكري ذاته على المحمل.
ان قوة وثراء العمل الفني لا تتعلقان بالمضمون فحسب بل في كيف نجعل المضمون يحمل قدرات تعبيرية تمثّل الواقع وتتمثله في ذات الوقت، وبالتالي تضع القارئ أمام خطاب التقليد والإبداع، خطاب الأصالة والمعاصرة.
صفوة القول، ان ثراء العمل الفني في تجربة الفنان نجيب شمس الدين تتضافر فيه الفكرة الذهنية مع الأسلوب الفني، ليتحول المشهد من صورة ثابتة مألوفة إلى صورة غريبة رغم واقعيتها. فقداسة الصورة فيما تقدمه من رؤى للعالم، رؤى تتفاعل فيها مكونات العمل مع المتلقي، وتتخطى به حدود النظرة السطحية، التي تجعله حبيس نظريات فلسفية تنظر إليه على انه فن تمثيلي سطحي، يستند إلى قوانين فنية مقدمة لا تعمل على استدعاء العقل والبحث، بل تعمل على تطبيق دروس أكاديمية، دروس تنفي حضور الخطاب الروحي المشحون بالانفعالات وتقر بسلطة جفاف المعنى. ولكن "لماذا نرسم؟ -أنرسم لننقل آليا ما تلقيناه؟- "نحن نرسم كي نقول شيئا ما وليس من أجل أن نختبر نظريات معينة.. وحين نقول شيئا ما نحن لا نقوله إلا عبر الأشكال التي تحيط بنا.. وحين نقول شيئا ما فنحن نقول ذاك الشيء تحديدا.. ولكن لا ضرر في خط جبان أو مرتعش.." (5)
------------
الإحالات:
1 - انظر مقال د. كريمة محمد بشيوة، إعلام الفن في الفن في الفكر الغربي المعاصر، ورد ضمن المجلة الجامعة، طرابلس، العدد ال15، المجلد الثالث، 2013، ص 98.
2 - الفنان نجيب شمس الدين ولد بقابس، أستاذ بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس، له عديد المعارض الجماعية والشخصية، وعديد المقالات بالعربية والفرنسية حول الفن واشكالياته.
3 - ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، ترجمة حسن العمراني، الدار البيضاء، المغرب، دار توبقال للنشر، 2011، ص 95
4 - برتليمي (جان) بحث في علم الجمال، ترجمة أنور عبد العزيز، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011، ص492
5 - Antonin Artaud, Œuvre, Paris, Gallimard, 2004, p 31
------------
تعريف الفنان:
-الفنان نجيب شمس الدين ولد بقابس، أستاذ بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس، له عديد المعارض الجماعية والشخصية، وعديد المقالات بالعربية والفرنسية حول الفن واشكالياته.
------------
المراجع:
- برتليمي (جان)، بحث في علم الجمال، ترجمة أنور عبد العزيز، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011
- ريكور (بول)، الانتقاد والاعتقاد، ترجمة حسن العمراني، الدار البيضاء، المغرب، دار توبقال للنشر، 2011
- كريمة محمد بشيوة، إعلام الفن في الفن في الفكر الغربي المعاصر، ورد ضمن المجلة الجامعة، طرابلس، العدد ال15، المجلد الثالث، 2013
-Antonin Artaud, Œuvre, Paris, Gallimard, 2004
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: