نزار كريكش - تركيا / ليبيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3303
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم أكن أتوقع أن نجد أنفسنا نجادل في سلمية الإسلام، وهو السلم والسلام والسلامة والإسلام... كيف ونحن ندعو عقب كل صلاة اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام. ودعني حتى لا أقف موقف الواعظ، أن نركز على فكرة جديرة بالاهتمام، وهي أن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية قد واكبت مسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف المنعطفات والمحن التي صاحبت سيرته. وفي هذه المسيرة كانت المبادئ هي التي تترسخ من بين متغيرات النصوص. هذا المنهج هومنهج الاستقراء الذي اتبعه الشاطبي رحمه الله في موافقاته (750هـ) وفيه يبين سياسة الشرع في تغيير المجتمع، فالشارع يرعى مصالح الناس (ويعبر عنه في وضع الشريعة ابتداء) ويريد الناس أن يفهموا هذا الشرع (من حيث وضعها للأفهام بتعبيرات الشاطبي) ويراعي فطرتهم وقدراتهم (من حيث وضعها للتكليف بمقتضاها) وكذلك هي الضابط لحركة المجتمع (من حيث وضعها لدخول المكلف تحت حكمها).
والذي يهمنا هو القسم الرابع من مقصد الشارع وفيه يؤكد ضرورة وجود ضابط لحركة المجتمع فيقول “ما علم بالتجارب أن المصالح الدينية والدنيوية لا تتم مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم ذلك من التهارج والتقاتل الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته، وسار حيث ما سارت به، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له، أو ممن كان له شريعة دَرَسَت، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم، وإطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها بالسياسة المدنية، فهذا أمر قد توارد العقل والنقل على صحته في الجمله...) ج252/2
وهذا الكلام نجده عند ابن القيم في إعلام الموقعين (272/2) نجده يقول (وكل من له مسكة عقل يعلم أن فساد هذا العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكة، وفي أمة إلا وفسد أمرها)...
وفي الفترة التي كان الشاطبي يخط فيها موافقاته، كان ابن خلدون ينقش في تاريخ العالم مقدمته، ليبين كيف ينتظم سلك الناس، دون تهارج أو هوى، وفق الشرع والعقل لا وفق الآراء والهوى... وهذا يعني أن كل ما يؤدي إلى فساد المجتمع وانتشار الرذيلة والقتل والدمار بداخله هو من الهوى الذي يناقض مقصد الشارع في إنزال الوحي، لا يدخل عقلاً ولا شرعاً أن يكون الرغبة في الانتظام سبباً في التهارج والعراك بين أبناء المجتمع الواحد، والاستقراء الذي يجعل أبناء الوطن الواحد وتألفهم أصل يعول إليه أكثر مما يحصر في سياق هذا الكتاب، فكل الآيات والأحاديث تحثنا على الحب والألفة والتوافق والثقة وتنهانا عن الإيذاء والترويع والحسد والبغضاء والقتل، كل ذلك لا يفهم سياق فردي بل هو حديث عن تعايش داخلي يجب أن نربطه بالايمان وعقيدة المجتمع. حتى كتاب الغياثي لإمام الحرمين، وبقية الفقهاء في الحديث عن ولاية المتغلب وصاحب الشوكة، لم يكن فيه إقرار لرفع السلاح داخل المجتمع الواحد بل كان درءًا لسلسة العنف التي قد تبدأ بعد أن يتبع الناس منهج ابن آدم الأول.
يقول الاستاذ جودت سعيد (وأنا عندما أخاطب الشباب المسلم أقول: أنا على مذهب ابن آدم الأول، فإنهم يستغربون جداً، ويقولون هذا شريعة من قبلنا، مع أنه ورد في كتب السنة التي يتقبلها المسلمون جيداً، عن صحابة كأبي موسى الأشعوي، وأبي ذر الغفاري، وسبعد ابن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يمارس فقط عدم جواز الدفاع عن النفس، بل حذر المسلمين من الخوض والوقوع في الفتن في المستقبل، فقد قال لأبي ذر: كيف أنت إذا أصاب الناس موتٌ يكون البيت فيه بالوصيف؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: عليك بالصبر، ثم قال (يا أبا ذر قلت: لبيك وسعديك، قال: وكيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت تغرق بالدم؟ قلت: ما خار الله ورسوله، قال: عليك بمن أنت منه، فلت: يارسول الله: أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذن، قلت: فما تأمرني ؟ قال (إلزم بيتك) قلت: فإن دخل علي بيتي؟ قال (إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف، فآلق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه...) وفي رواية سعد ابن أبي وقاص، قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن كابن آدم) وتلا الراوي (لئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين) المائدة 28/5
ورغم أن هذه الأحاديث مثبتة في المراجع المعتمدة، ولكنني لم آرَ أحداً من المسلمين استشهد بها كأحاديث ينبغي أن تطبق. (48)
وإذا كان هذا الفهم قد يفهم على أنه سلبية وأن هذه الأحاديث لابد أن توضع في ظروف يعينها كالتي ذكرها الحديث، أو أن هذه الأحاديث تتعارض مع أحاديث أخرى تحث على مواجهة الظالمين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأشهرها حديث الترمذي (كلمة حق في وجه سلطان جائر)... إلا أن هذا الفهم وهذا النقاش في حد ذاته نتاج لواقع القرن العشرين، وهو وجود الاستبداد والظلم، فمن الطبيعي أن ينقسم الناس إلى مهادن يستدل بهذه الأحاديث وآخر شجاع يقارع الطغاة.
لكن ها هنا فهم آخر، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن المقاومة المدنية لما يحدث من اقتتال، وعن القدرة على كظم الغيظ، وأن يمتلك الانسان نفسه عند الغضب، حتى وإن كان شديداً قوياً. ما الذي يعنيه ذلك: يعني ببساطة ووضوح: أن العنف ليس حلاً للمشاكل !! وهذا ما اقترحه أبو ذر رضي الله عنه وهو أن يواجههم بالسيف، الرسول لا يتحدث عن آحاد الناس الذي أمرهم بوضوح أن يدافعوا عن أنفسهم، من مات دون ماله فهو شهيد، أو عرضه أو نفسه، فهذا لا جدال عليه، والرسول لم يطلب أن نكون سلبيين تجاه مجتمعاتنا بل ندعوا ونعمل ونقول كلمة الحق في وجه الظلمة والجهلة والسراق... قولاً واحداً... لكنه لم يرضَ لنا أن يكون حل المشكلات الاجتماعية والسياسية بالسيف، وهذا هو ظاهر القرآن في موضع كغزوة أحد حين قال للرسول صلى الله عليه وسلم (ولو كنت فظاً عليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله) فهذا ظاهر بأن التوافق على رأي لا ينشأ إلا بقيادة قادرة على الحب والعفو والتسامح... وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم كذلك لأبي ذر (عليك بمن أنت منه) (شاركت القوم إذن)، فالحديث إذاً عن حالة مجتمعية تحتاج لتفهم وليس لمزيد من القتال.
حتى قصة هابيل وقابيل جاء بعدها في سورة آدم آيات الأحكام كحد الحرابة والسرقة وهي الأحكام التي تؤسس لوجود دولة قادرة على ردع هابيل، وإلى وجود ذلك وحتى يمكن قيام دولة لها هيبة، فعلى قابيل أن يتورع عن القتل، وهذه هي المدنية التي تعلمها هابيل في قوله تعالى (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه، قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي)...
وعندما تكون هناك قدرة على ردع من يعكر السلم الأهلي، فلابد من الوصول إلى مقصد الشارع الذي ابتدأنا به الفصل وهو ضبط إيقاع المجتمع، في حالة من التوافق، لذا جاء الأمر بالقتال في سورة الحجرات بين أمرين (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينها فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء لأمر الله، فإن فاءت فآصلحوا بينهما بالعدل)...
وهذا يعني أن وجود اللاعنف والسلم داخل المجتمع أصل وهو الصلح الذي دعت إليه الآية قبل القتال وبعده، وقد وجد هذا الجدل حتى في المجتمعات الحديثة بين الحرية والأمن، والأصل هو إنضاج المجتمع لمرحلة الرشد التي ينتفي معها الإكراه، ووجود هذا القتال بين أبناء الوطن الواحد يدل على وجود حالة من عدم النضج والرشد داخل المجتمع (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي).
ويجب أن نفرق بين مبدأ اللاعنف والسلمية، والسلبية والخنوع، بل مبدأ اللاعنف حازم رادع مؤثر داخل المجتمعات، وهذا المعنى قد يعطينا صورة لوسائل أخرى قد نواجه بها محاولات الانقلاب أو الحروب الأهلية أو التطرف بأنواعه، وهو يلقي كذلك ضوءاً على أن وجود مجتمع مسالم لا يعني وجود مجتمع قابل للاستبداد أو الاستعمار، هذا ما نقرؤه من “جين شارب“ بوضوح حين يبين في فصل من كتابه (من الدكتاتورية إلى الديمقراطية) كيف يمكن مواجهة الانقلاب بعد القضاء على الدكتاتور:
(بعد الانقلاب يحتاج الانقلابيين للشرعية، وهو يحتاج إلى إداريين، وموظفين، وأعمال خدمية، وقضاة، وللشرطة ورجال الأعمال... ليستطيع تنظيم المجتمع، من الممكن عدم التعاون مع الانقلابيين ورفض شرعيتهم. من الممكن كذلك عدم التعاون معهم ورفض الذهاب للعمل والبقاء في البيت، وعندما لا يجد الانقلابيين هذا التعاون خاصة في مجتمعات خرجت لتوها من الاستبداد فإن الانقلاب سيموت في مهده.) (من الدكتاتورية الى الديمقرطية ) (39)
وهذا يعني أن وجود توافق مجتمع على مسار محدد بإمكانه أن يقاوم أعتى الدكتاتوريات، وأصعب الظروف إذا ما كان هناك قدرة على العمل المدني الواسع المنظم المبدع، الذي يملك بمفاصل المجتمع اقتصادية كانت أم خدمية أم عسكرية، لقد كان اليهود إبان الاستعمار الجزائري يبنون مدارسهم تحت الأرض مقاومة للتغريب الجزائري، وتعليم التعاليم اليهودية ومقامة لفرض اللغة الفرنسية !!
وبلغاريا، دولة الفلاحين الصغار، استطاع الصغار أن يقاوموا جبروت الدولة الروسية ويتفقوا على رئيس، ويعلنون استقلال دولتهم، ما يهم هو وجود توافق حول مبادئ تشكل هويتنا ونظام الحكم الذي لا يتحكم في رقاب الناس إلى أن تنمو تلك الشبكة المدنية، وتعرف طريقها ستكون هناك منعرجات لكن النتيجة ستكون مضمونة، تخيل فقط كل الحروب التي حدثت في ثورات العالم، والكانتونات في سويسرا، وكيف تحولت إلى واحة أمن وأمان.
قوة المجتمع، وقوة التوافق والتعاون بين أبنائه هي الضمان ضد الاستعمار والاستبداد، فمن يرفض أن يكون عونا لظالم أو غاز أو أرعن سيظل قوياً مهما حصل، وإن مجتمعاً تنمو فيه مثل هذه الشبكات التي تشكلت عبر التاريخ هي الأقدر على مواجهة الشرور في هذا العالم، ولعل تجارب أمريكا اللاتينية هي ما أثبتت ذلك وبينت أن الدخول في نزاعات مسلحة قد يفضي إلى تفكك القوى المدنية ويعطي فرصة لقوى إرهابية كتلك التي استثمرها الأمريكيون من حطام النازية، هذه الفرصة هي ما يفسر هذه الانقلابات الكبيرة التي فصل فيها أكثر من مرة نعوم شاومسكي في أكثر من موضع، وهو من مناصري جين شارب فيقول:
(إنها تجربة مهمة وملهمة للغاية، جعلتني أستذكر روسو، حين ازدرى الأوروبيين، حين تخلوا عن العدالة والحرية مقابل السلم والراحة... آه إنهم يتمتعون بالقيود يوم يقول: ”حين أرى الهمج والعراة يواجهون الأوروبيين المترفين، ويتحملون الخوف والجوع والعري من أجل الحرية، أعرف أنهم تجاوز قانون الأسباب حباً للحرية...” ... من يظن أن هذا كلام كتب ونظريات فإنه لا يفهم العالم).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: