فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7708
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
شهدت تونس الأيام الأخيرة نقاشا حول شرعية الاحتفالات بالمولد النبوي، وما أثار انتباهي ليس الاحتفال بذاته ومدى شرعيته، وإنما صياغة الحجج ومحتوياتها التي قدمها البعض في معرض إقناعه، ولما كانت هذه النقاشات في عمومها تنبني على مغالطات منطقية فجة كما سأوضح، رأيت انه من الهام توضيح هذه المسالة من حيث أنها نموذج متكرر في الجدال المستعمل في قضايا أخرى بتونس:
- الاحتفال بالمولد لا يعني كثيرا بذاته في ما أرى، ولكن أهميته تأتي في ما يستبطنه من درجة انحطاط المجتمع، بمعنى أن الذي يرى في مولد النبي صلى الله عليه وسلم مناسبة لإحضار أكلة معينة مثلا، لا يعد ارتكب محضورا دينيا وإنما أبان على درجة من الوعي الإيماني المتآكل، وليس التقييم على سلم الحلال والحرام كاف لفهم ذلك العمل في مستوى فاعليته الموضوعية، بمعنى أن الأكل في ذاته لا خطر فيه شرعيا، ولكنه في الواقع حينما يكون عاكسا لفهم معين فانه يمثل خطرا على واقع الفرد والمجتمع من دون أن يكون ذلك مدعاة للتثريب الشرعي، بمعنى آخر فان تقييم الأمور في الواقع لا يكفي في فهم فاعليتها الحلال والحرام، لان الأحكام الشرعية هي حدود أي مجالات التحرك القصوى، و أما مساحة تحرك الفرد وفاعليته فهي تقع داخل تلك الأطراف من دون أن تمسها بالضرورة، حيث يمكن أن ينتج مسارات كاملة وتغييرات اجتماعية من دون ان يصل الفرد بعمله لطرف الحكم الشرعي، ولو قصرنا حكمنا على الأمور الموضوعية على وصول الفعل للحلال أو الحرام لما استطعنا التفطن للتغيرات التي تقع في الأثناء، ولعل علماء الأصول الأوائل تفطنوا لهذه النقطة فصاغوا أحكاما شرعية أخرى هي المباح والمكروه وغيرها، تنبيها على هذه النقطة.
- الاحتفال بالمولد النبوي في ذاته، أمر مستحدث نشأ في ظروف تاريخية معينة واستشرى في ظروف أخرى، وهو بالتالي أمر يمثل نتيجة لعوامل وليس عاملا مستقلا بخاصته، وتناول الاحتفال كمعطى منفرد أصيل، تناول عقيم، لأنه محاولة لإيقاف تطور مسار، والحال انه يفترض للتحكم في النتيجة التحكم في العوامل والأسباب المنتجة لها، بمعنى ان تناول الاحتفال بذاته ليس إلا تناولا عبثيا.
- إذا كانت هذه النقطة مفهومة وواضحة، والتساؤل إنما يطرح حول شرعية الاحتفال، فان النقاش يجب أن يطرح بطريقة عقلية بحتة حين تقليب الأدلة الشرعية وليس الاتجاه لتكريس الواقع بظاهر من التدعيم الشرعي اعتمادا على المغالطات المنطقية كما وقع لدى المدافعين عن احتفالية المولد، و انا سارد على هذه المغالطات في شكلها المنطقي بقطع النظر عن قبول أو رفض لفكرة الاحتفال بذاتها، ما يهمني هو توضيح خطأ الدفاعات.
- البعض ومنهم شيخ فاضل بإذاعة "الزيتونة" تكلم ردا على رافضي الاحتفال المرتكزين على حديث من سن سنة سيئة، فقال إن هؤلاء مردود عليهم لان الحديث يتكلم عن السنة السيئة والاحتفال بالمولد النبوي ليس سنة سيئة كما قال، وشيخ إذاعة "الزيتونة" تصور انه اقنع بكلامه هذا، والحال انه لم يزد أن قام بعملية دوران حول الموضوع المطروح، أي انه انطلق من موضوع النقاش وهو هل أن الاحتفال أمر مقبول أو لا، فجعله بافتراض من عنده امرأ حسنا وسنة جيدة ليرد على أمر هو نفسه نفس السؤال، أي انه قام بعملية افتراض وتدوير السؤال المطروح لافتراض صحيح، وهذا يسمى مصادرة على المطلوب، وكما هو معروف فكل حجاج مبني على المصادرة على المطلوب نقاش فاسد، وعليه فان الشيخ لم يقم بالرد حين تكلم. بمعنى آخر فإن الرد يجب ان يكون بالبرهنة على ان الاحتفال هو سنة حسنة، وبعدها يصبح الاعتماد على الحديث داعما للاحتفال، واما من دون ذلك فإن الحديث لا يصح الاعتماد عليه.
- في موضوع مماثل وهو شبهة كون الأضرحة يمكن أن تكون مدعاة للشرك والأوثان، قال شيخ الجامع الأعظم الحسين العبيدي (جريدة الضمير عدد 58)، "أن مثل هذا الكلام تحليل ضعيف، والتحليل الضعيف لا يؤخذ به"، وواضح ان كلام شيخ الجامع الأعظم بيّن الفساد لأنه مبني على افتراض أن كلام مخالفيه تحليل ضعيف ومن ثم بنا عليه، وهذا أيضا دوران ومصادرة على المطلوب لأنه انطلق من النتيجة المرجوة المحتملة واعتمدها كمنطلق، وافترض انه كلام ضعيف، والحال انه يجب ان يبرهن انه ضعيف، وبعدها يصح الاعتماد على باقي الدليل وهو عدم الاعتداد بالكلام الضعيف، واما من دون وجود البرهنة فان كلام الشيخ يبقى مثله والعدم سواء.
- أما جماعات الإلحاق الثقافي من العلمانيين فقد دخلوا حلبة المزايدة مناصرين لفكرة الاحتفالات، ولعلهم يفعلون ذلك نكاية في الرافضين للاحتفال وهم عموما جماعات تنعت بالسلفية، وقد اعتمدوا في انتصارهم للاحتفالات كونها كانت معتمدة من شيوخ بجامع الزيتونة من قبل. وشبهة هؤلاء اعتمدها أيضا البعض المدافعون عن الموضوع ممن قدم على انه مختص في الدراسات الإسلامية ومنهم مدرسون بجامعة "الزيتونة"، حيث حاجج هؤلاء المختصون أن العديد من العلماء كانوا من قبل يعرفون بأمر هذه الاحتفالات ولم يعارضوها، واستخلصوا من ذلك جوازها. و هؤلاء لم يعتمدوا على الحجة العقلية والقوة الاقناعية لمبررات الفعل، وإنما اعتمدوا على الفعل باعتباره انجازا بشريا كحجة بذاته، وهذا كلام بيّن الفساد. ولفهم هذه النقطة، فإن المسالة كمن يبرهن لك أن اثنان حينما نطرح منها واحد تساوي واحد، مقابل الآخر حينما تطلب منه البرهنة على نفس العملية فيقول لك أن معلم الحساب قال ذلك وانه لا يفترض في معلمه الكذب. الأمر يجب أن ينظر إليه بشكل منطقي بقطع النظر عن الموضوع المناقش، فالصورتان مختلفتان، فالأولى وهي الصورة الصحيحة أن الحجة يجب ان ترتكز على مبرراتها الذاتية، والثانية وهي الاعتماد على فعل منجز كحجة. وفي حالة الاحتفالات فان هؤلاء لا يعتمدون على مبررات الدافع للإقناع، وإنما يرتكزون على منجزات واجتهادات شخصية كحجة، والرد منطقيا يثبت فساد هذا التمشي، ثم انه عقليا يمكن الرد كذلك بكون اجتهاد هؤلاء و اجتهاد من يعارضهم متساويان من حيث ترجيح الصوابية إذا ما نفينا العامل الذاتي، فبأي حق يقع اعتماد رأي دون الآخر، ووقوع ذلك يكون ترجيح من دون مرجح وهو امر لا يجوز منطقيا، والحل يكون إذن في الاحتكام لمبرر ما، مما يرجعنا لأصل الموضوع، وهو ما سيقود لنزع القوة عن حجة هؤلاء، ومن هناك ثبت فساد كلام المعتمدين على مواقف البعض كمصدر محاججة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: