د.محمد عباس المصري - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5261
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
شتانٌ هو الفارق بين المثقفين في كلِّ أمَّة، وبين نخبتنا التي تصيبُ آمال الشباب بالغُمَّة.
فالمثقفون في كل أمة يتطلعون إلى شبابها الذين هم عمادُ الحاضر وأمل المستقبل، يسعَون إلى تشكيل وجدانهم وصياغة ثقافتهم وترشيد أفكارهم.
أما أدعياءُ الثقافة في مصر فحالهم عجب، إن رأوا لشبابنا اقتراباً من هويتهم الإسلامية فالقدحُ فيهم وجب.
فتراهم يسارعون إلى قصفِ أقلامِهِم، ويتنافسون في تسفيهِ أحلامهم.
من ذلك مقالٌ كتبه بلال فضل تحت عنوان " لن ننسى كباريه الأندلس !" عبرَ بوابة الشروق للأخبار، وكفى بالعنوانِ عن المحتوى كاشفا.
عندما تقرأُ عنواناً كهذا فإن أول ما قد يتبادر إلى ذهنك أنه حلمٌ يراود صبي راقصة، لكنك عندما تعرفُ من الكاتب وتسلك أغوارَ المقالِ تدركُ كيف يشوهون أفكارُ الشبابِ لتبدو ناقصة !
وأصلُ الموضوعِ أنَّ شباباً من حركة أحرار كان قد دعا لوقفة بميدان سفنكس في ذكرى سقوط الأندلس، والتي يحتفل الأسبان بها في هذا التوقيت ، وكان هدفُ الشباب من تلك الوقفة تقديمَ عرضٍ تاريخي عن مُلابسات سقوط الأندلس، وعن تزييف التاريخ الذي صُدِّرَ إلى كثير من الشعوب والتذكير بأحد أبشع جرائم التاريخ (محاكم التفتيش)، والهدف الأكبر هو استخلاص الدروس والعظات مما وقع في الأندلس عبر التاريخ، إيماناً بأن من لا يُحسِن قراءة التاريخ لن يُحسِن صناعة الآمال والأحلام في المستقبل.
وحركة أحرار - لمن لا يعرفها - هي حركة شبابية مستقلة عن جميع الهيئات والأحزاب والجماعات الدينية والسياسية، تهدف إلى تنمية الوعي في المجتمع.
أمَّا تلك الوقفة فقد حققت نجاحاً لافتاً للأنظار، وكان من أصداءِ ذلك النجاح أن يتعرَّضَ لهجومٍ وإنكار، وإلاَّ فمن يهاجم الفكرة.. إن بقيت في ثوبِ فشلِها نكِرَة ؟
بل لقد كان لتلك الوقفة التي استنكرها الكاتب آثارٌ إيجابية لدى أهل الأندلس المهجَّرين في بلادٍ شتى انعكست في رسائلهم الشاكرة وتواصلهم المعبِّر مع النشطاء الأندلسيين المهتمين بقضايا بلادهم.
ومن المفارقات أنه في الوقت الذي يحتفلُ فيه الإسبان بذكرى تلك الجريمة النكراء في تاريخ الإنسانية، ويقفُ بعض العلمانيين الإسبان موقفاً مناهضاً لذلك كجمعية غرناطة العلمانية، وكذا بعض الأحزاب اليسارية وهيئات حقوق الإنسان، وينظمون وقفاتٍ رافضة للاحتفال من منطلق إنساني بحت داخل "إسبانيا" نفسها.. نجد على النقيض المذهل أن من بني جلدتنا من يسفّه أحلام شبابنا في وقفةٍ مشابهة تنتصر للإنسان الأندلسي وتستخلص العبرَ من استقراء التاريخ !
لقد كبُرَ على الكاتب أن يرى الأندلسَ لا تزالُ في وعي أولئك الشباب حاضرة، وأن ذكرى تلك الحضارة الإسلامية التي أضاءت ما حولها تُبَثُّ من القاهرة، فكان هذا المقال الذي تهكم فيه من كل شيئ بدءً بالفكرة، ومروراً بالإخوان المسلمين الذين لا علاقة لهم بتلك الوقفة، وانتهاءً بالخلافة الإسلامية التي تصيب أمثالهم بالرجفة.
وهذا المقالُ الذي أكتب لا أقصدُ منه الردَّ على شخص بلال.. بل أكتبه تنبيهاً وتفنيداً لما احتوى عليه من ضلال.
لذلك سأغضُّ الطرف عن كثيرٍ مما وجدتُه لا يستحق الردّ، مُركِّزاً على ثلاث نقاطٍ تحتَّم تفنيدها ولا بُدّ.
الأولى: تتعلق بتزويرٍ تاريخي بشأن الأندلس بادعاء أنها عادت لسكانها الأصليين.
والثانية: تتعلق بالسخرية مما صاحب الفتوحات الإسلامية من السبي.
والثالثة: تتعلق بالتخويف من الربط بين قضية الأندلس وبين إدعاء الصهاينة بالحق التاريخي في فلسطين.
أما فيما يتعلق بادعاء أن الأندلس عادت لسكانها الأصليين، فإن الكاتبَ يتساءلُ بنبرةٍ لا تخلو من تهكم عمَّا نحن فاعلوه بعد أن نحررها من قبضة سكانها الأصليين، وهذا ادّعاءٌ لا ينبغي أن نمرّ عليه مرور الكرام، فإنه تزويرٌ للوقائع إمّا لجهلٍ بالتاريخِ أو تغييبٍ للحقائق عن عمد، وكما يقولُ العلامة ابن القيم رحمه الله في البيت الشهير:
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبةٌ.. وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم !
والمضحك أنه استند إلى الكتاب المترجم "العرب لم يغزو الأندلس" وأصله كتاب " La revolución islámica en Occidente " لمؤلفه Ignacio Olagüe، ولو تكبّد عناء قراءته لعلم أن الكتاب يرفض أساساً فكرة أن الأسبان هم (أهل الأندلس الأًصليين).
واستعراضاً للتاريخ فإن أرض الأندلس الحبيبة قد دخلها الإسلام عام 92هـ ، واستمر حكم المسلمين بها إلى عام 897هـ ، فترةٌ تربو على الثمانية قرون، شهدت حضارةً عامرة ونهضةً شاملة فى مختلف العلوم النظرية والعملية، فى الوقت الذى كانت فيه أوربا تتخبط فى ظلمات الجهل، إلى أن بدأت بفعل الترجمة من الحضارة الإسلامية تستضيئُ شيئاً فشيئاً على المهل.
وبالمناسبة فإن الأندلس تُعرَف بهذا الاسم نسبة إلي قبائل الفندال، لذلك سُميت هذه البلاد فانداليسيا، ومع الأيام حُوِّلت إلى أندوليسيا فـ أندلس.
ولقد كانت الأندلس موطن الشعب الآري الموحّد لله، الرافض للتثليث و لإلوهية المسيح , فجاء الكاثوليك من روما و احتلوا الأندلس و فرضوا على أهلها المذهب الكاثوليكي، واضطهدوا اليهود اضطهادا شديدا ذكّرهم بالسبي البابلي، فلما جاء طارق بن زياد رحمه الله للأندلس حاملاً راية التوحيد وداعياً الناس إليه، استجاب أهل الأندلس الذين رأوا في الإسلام شبهاً كبيراً بدينهم السابق المبني على التوحيد، فاعتنقوه مرحبين بالفاتحين، أما اليهود فقد استبشروا خيراً بقدوم المسلمين بعد معاناة شديدة من اضطهاد الكاثوليك لهم.
وبذلك دخلت الغالبية الساحقة من أصحاب الأرض أهل الأندلس أفواجاً في دين الله، واختلطوا بالعرب والأمازيغ ليشكلوا معاً المجتمع الأندلسي الثري الذي احتضن جميع الثقافات والديانات كما لم يفعل أي مجتمع آخر بشهادة الغرب قبل المسلمين.
أما يسمى بحرب الاسترداد فما كانت إلا احتلالاً، حيث اجتاحت مملكة قشتالة أرض الأندلس وأقامت محاكم التفتيش وعذبت وأبادت (سكانها الأصليين)، وصدر الأمر البابوي عام 1524م بإجبار المسلمين على اعتناق الكاثوليكية، ومن أبي ذلك فعليه الخروج من إسبانيا خلال مدة معينة أو أن يصبح عبدًا رقيقاً مدى الحياة، ورغم إجبار الكثيرين على التنصُّر إلا أنهم لم يَسْلَموا من التعذيب أو الطرد.
وفي ذات الاتجاه تنتصر بإنصاف شديد Dolors Bramon المؤرخة بجامعة برشلونة لتلك الحقيقة التاريخية في المقال المؤرخ 11 نوفمبر 2007 تحت عنوان:
"Historiadora señala que llegada de los musulmanes a España en el siglo VIII no fue una conquista"
وترجمته: "مؤرخة تعتبر أن الوصول الإسلامي لأسبانيا في القرن الثامن لم يكن غزوا"
حيث تؤكد أن الفتح الإسلامي للأندلس خلال القرن الثامن الميلادي "لم يكن قط غزوا" بما أن (السكان الأصليين) الذين كانوا الغالبية العظمى قد "تحمّسوا و انخرطوا بهذه الحضارة التي كانت متفوقة آنذاك".
ولعل في ذلك الكفاية لتوضيح أن دسّ عبارة تحرير الأرض من سكانها الأصليين هي مغالطة تاريخية فاحشة.
وأما النقطة الثانية فهي تناول ما صاحب الفتوحات الإسلامية من السبي، إذ يقول ساخراً "ونسبي نساءهم ليتخذها شبابنا جواري ونبيع غلمانهم كعبيد، فنحل بفتح واحد أزماتنا الإقتصادية والإجتماعية عاملين بفتوى المرجع السلفي الشيخ الحويني الشهيرة"
وقد سبق للشيخ الحويني –حفظه الله- أن ردَّ على هذا الذي نُسبَ إليه فأوضح أنه كان يؤصل تأصيلاً علمياً في محاضرةٍ عن الجهاد فتم اجتزاء بعض العبارات إخراجاً لحديثه عن سياقه، فأي ذريعةٍ تلك التي تُستخدم في إعادة الاجتزاء وإخراج كلمات الشيخ عن مبتغاها، إلا أن تكون حاجةً في نفس الكاتب قضاها!
والواقع أن هذا الكاتب المسلم قد حاد عن الإنصاف كثيراً، فالمعلوم أن الإسلام لم يبتدع الرق، بل ظهر الإسلام والرق شائع في جميع الأمم، فحدّ الإسلام من هذا الباب، وشدَّد في تحريم استرقاق الحر، وحصر دائرة الرق فيما أُخِذَ من طريق الجهاد المشروع، ومع حثه على الإحسان إلى الرقيق وتأديبهم وتعلميهم وإكرامهم وإعانتهم، فإنه سعى لتحرير الرقيق بكل طريقٍ مشروع، ورغب في ذلك بقوة إذ فتح عملياً مجالات كثيرة للعتق، ككفارة اليمين والظهار والقتل ونحوه.
وليته قارنَ ما بين وضع الرقيق في الإسلام، وبين ما يفعله غيرُ المسلمين حين يتمكنون من بلاد المسلمين فيقتلون بدمٍ بارد ويغتصبون النساء ويبلغون في الإجرام القمة، فلا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمَّة.
لو أنه استحضر تلك المقارنة بحياد، فلربما استحيى مما خطت يداه وعاد.
وإذا كان الرق قد انتهى في هذا الزمان ، فأي مبررٍّ لإقحامه وإثارة الحديث فيه الآن !
وأما النقطة الثالثة فهي التخويف من الربط بين قضية الأندلس وبين إدعاء الصهاينة بالحق التاريخي في فلسطين.
والمضحك أنَّ المثقف الكبير بلال، يعتقدُ أنَّ حلم استعادة الأندلس يفتحُ للصهاينة أبوابَ الاستغلال، ويكأن الصهاينة كانوا ينتظرون تلك الوقفة لتأكيد حقهم التاريخي على نفس المنوال!
إنها لسطحيةُ تستحضرُ الرثاء، وتُشعِرُنا كم تحت قالبِ من يدّعي الثقافةَ من غُثاء !
إن الحق التاريخي المزعوم لليهود في أرض فلسطين مردود من حيث أقدمية السكن والمواطنة، فأول من سكن فلسطين هم (اليبوسيون) من بطون العرب الأوائل، وأقدم اسم لبيت المقدس هو (يبوس) وله ذكر في التوراة، وورد في ألواح تل العمارنة بالمتحف المصري، وشاركهم في سكناها الكنعانيون العرب، ثم أطلق عليها (أورشالم)، أو مدينة (شالم) ، ثم بعدها بقرون طويلة أتى إليها إبراهيم عليه السلام لأول مرة.
فالعرب سكنوا فلسطين قبل أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي جاء من نسله اليهود- كما جاء من نسله العرب العدنانيين من جهة اسماعيل عليه السلام- فللعرب الأقدمية في السكنى، بل لم تزد مدة بقاء إبراهيم عليه السلام في فلسطين على المائة عام، وهذا ينفي الحق التاريخي المزعوم في السكنى رغم أنها لا تكفل حقًا، فليس لليهود فيها من حقٍ ولا أن يستنشقوا هواءَها.
وليكن معلوماً من قبل ذلك ومن بعد أنَّ الأرضَ لا يملكها بشر (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) سورة الأعراف الآية 128، وورد مصداقاً لذلك من سفر (لاويون25: 23) من قول الرب في خطابه لبني إسرائيل: "والأرض لا تباع بتةً. لأن لي الأرض وأنتم غرباء ونزلاء عندي".
لقد جعل الله التمكين في الأرض لمن يقيم العدل فيها، ويشيع الصلاح في أرجائها، ويعلي راية التوحيد في ربوعها، إنها سنة الله في عباده وفي أرضه.
ختاماً أقول، لقد أساء ذلك الكاتب إلى الشباب الواعي بالغ الإساءة حين وصفهم بأنهم يُقادون كالقطيع، متناسياً أن النخبة البائسة هي التي تنساقُ خلف الأفكار المستوردة كالخادم المطيع.
إن ما حمل ذلك المقال من أفكار لا يتجاوز حدود عرضِ هزليّ في أحد الكباريهات، لكن أن يحلم بأن يطال تراثنا فهيهات هيهات !
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: