د. محمد موسى الشريف
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7804
مكثت أياماً بين فريبورج وميلوز، وفريبورج تعني البحيرة السوداء، وهي منطقة تذكرك كل رقعة منها بعظمة الله تعالى وجلال وجمال خلقه، وهي في سويسرا، وقد انعقد فيها مؤتمر اتحاد منظمات سويسرا السنوي، وتبعد عن زيورخ ساعتين تقريباً في اتجاه الأراضي الفرنسية الألمانية، وسميت البحيرة السوداء لما يظهر للناظر من سواد مائها، وليس بالماء سواد إنما هو سواد خضرة الجبال الداكنة المحيطة بالبحيرة من كل مكان قد انعكس على مائها فجعله يبدو أسودا، وقد زاد هذا السواد البحيرة وما حولها جمالاً فسبحان الله العظيم !!
وقد وصلت الفندق ليلاً، وسررت بلقاء إخوة فيه لم أرهم منذ مدة طويلة، ثم في اليوم التالي حاضرت الجمع – وكان قليلاً – عن الاندماج في المجتمعات الأوربية شروطه وضوابطه، وتحدثت عن أهمية الحفاظ على العربية فلا تدمج في الفرنسية ولا الألمانية !! حيث إن عدداً كبيراً من أولاد العرب أضاع لغته وظل يرطن برطانة الأعاجم، وذلك بسبب تفريط والديه أو أحدهما، وأكدت على هذا كل التأكيد.
ثم إني أنكرت على الحاضرين قلة الشباب فيهم - وكان العدد الكلي قليلاً ولا يناسب سنوية المؤتمر ولا شمول الدعوة لكل مسلمي سويسرا – وبينت لهم أن الشباب عماد مستقبل المسلمين في ذلك البلد إن شاء الله تعالى، فإن فرطوا في العناية بهم وإحضارهم إلى مثل هذه المؤتمرات فيخشى عليهم الذوبان.
ثم عقدت ندوة مشتركة مع الشيخ الدكتور سالم الشيخي وهو من ليبيا ومقيم في مانشستر في بريطانيا، وتحدث الشيخ عن القوانين الأوروبية المتعلقة بالمسلمين والتعامل معهم، ثم أجبنا معاً على أسئلة الحضور الفقهية والاجتماعية.
ثم أنشدت فرقة الاعتصام الفلسطينية عدداً من الأناشيد سمعت استحسان الجمهور لها من بعيد، وذلك أنني ذهبت إلى المعرض القريب من صالة المحاضرات لأشتري بعض الكتب والأشرطة منه.
والمسلمون في سويسرا قرابة أربعمائة ألف عشرهم من العرب تقريباً والباقي أتراك وألبان، وكانت هذه هي المشاركة الثانية لي في هذا المؤتمر، جئتهم في عام سابق، وهي الزيارة الثالثة لسويسرا، ومما أذكره من غريب الزيارة الأولى أني سئلت أن أخطب الجمعة في جنيف في جامعها الكبير، وطُلب مني ألا أطيل الخطبة لئلا يدخل وقت العصر !! وقد أوجزت وترجمت الخطبة بإيجاز أيضاً وصليت، وبعد فراغنا بربع ساعة أذن المؤذن للعصر !!
هذا وقد مكث أكثر الناس في أماكنهم فلم يغادروا بعد الجمعة حتى صلوا العصر، وأرى أن هذا الذي قد جرى وأمثاله لهو من أعظم الأسباب التي أدت لاختيار جزيرة العرب مهداً للرسالة الخاتمة، وذلك لأن الله فرض على المسلمين فرائض من صلاة وصيام وحج وغيرها، وأقام عليها دلائل فارقة، وجعل لها أوقاتاً متميزة بعضها عن بعض، وبينها من الزمان ما هو مناسب ومعقول في سائر العقول، وجعله كالنموذج لغيره من البلاد يقتربون منه بقدر ما يطيقون وما تحتمله أحوال بيئتهم، وينفى عنهم من الحرج بقدر ما يأملون من الفرج، فلله ما أعظم هذا الدين وما أكمل ما وضع للناس وما اختار وما شرع.
ثم إنه قد جاءني وقت الغداء أخوان من ميلوز، أحدهما مدير الجمعية هنالك وهو الدكتور محمود والآخر هو نائبه وإمام المسجد وشيخه وهو الأخ أبو زيد مَرْسو، وميلوز هذه مدينة فرنسية تبعد عن فريبورج التي عقد فيها المؤتمر ثلاث ساعات تقريباً، فتجشما عناء المجيء بسيارتهما والعودة بي في اليوم نفسه فجزاهما الله خيراً، ولما اقتربنا من الحدود الفرنسية دخلنا بالسيارة ولم يوقفنا أحد، على أن سويسرا ليست عضواً كامل العضوية في الاتحاد الأوربي، فأصابني هذا الحسرة على حدودنا العربية .
وتذكرت كيف كنت أقضي الساعات الطوال في العراء والبرد ولا يأبه بنا أحد، وذلك في الحدود بين ليبيا ومصر فإنا لله وإنا إليه راجعون، هذا ونحن أصحاب لسان واحد ودين واحد وشعوب متقاربة وعادات هي بيننا سائغة، وقد ركبت في ليبيا حافلة شركة (سوبر جت) يعني النفاث الكبير !! وأخبروني أنه أسرع وسيلة للانتقال البري بين مصر وليبيا ولا يكاد يقف في الحدود، فلما صرنا هنالك، ابتلينا بموظفين على الحدود المصرية لم يرقبوا فينا إلاً ولا ذمة، فقد أنزلونا من الحافلة النفاثة !! وأغلقوا بابها، والوقت ليل، والمناخ بارد، ثم إنهم أنزلوا كل حقائبنا من مستودعها، ولم يرضوا بعد ذلك إلا بتركنا سبع ساعات كوامل !! بدون دورات مياه وفينا نساء وأطفال، وكانت البلية علينا مضاعفة برؤيتنا لهم وهم في غرفتهم الدافئة يلعبون بالورق، فجئت للسائق وقلت له : ألا تحثهم على النظر في حالنا والرأفة بنا والإسراع في الانتهاء من اللعب والانشغال فيما وظفوا من أجله فقال لي بحسرة : وهل أنت مجنون !! من يقدر على الكلام مع هؤلاء !!
ثم بعد سبع ساعات خرجوا علينا كالسباع يجوبون بين الحقائب لدقائق قليلة ثم أمرونا بالصعود بانتهار وإكهار !! فلما جاوزت الحدود قابلت سائق سيارة (بيجو) فشكوت له ما وجدت فقال : احمد الله تعالى فأنا الآن ملقى في الحدود منذ 24 ساعة وللتو فرغت، فعلمت معنى النفث الذي يعنون به من قولهم الحافلة النفاثة الضخمة !! فسبع ساعات خير من 24 على أي حال، وكان هذا في سنة 1415/1995.
وأذكر أني خرجت من لبنان إلى المملكة سنة 1400/1979 فجئت على طريق قرب الحدود اللبنانية ذي شعبتين وليس على أي منهما لافتة فاخترت الطريق البحري لأني في ظني أسلم وأحكم !! وخرجت من لبنان وجئت على رجل مستلق على أريكته في الحدود السورية وكانت الشمس قد طلعت وأشار إليّ بالرجوع !! قائلاً : ليس الطريق من ها هنا، فقلت له: ومن أين هو، فصار يكرر علي الأمر بالرجوع ، فقلت له: إن اللبنانيين لن يسمحوا لي بالرجوع لأن التأشيرة قد انتهت بخروجي، وكان لبنان آنذاك يدخل السعوديين بتأشيرة، فأمرني بالرجوع ولم يكترث لأخي وأختي الصغيرين وأمي معي، فقلت له: أين يأخذنا هذا الطريق ؟ فقال : إلى اللاذقية، فقلت : حسناً وأنا سأذهب من اللاذقية إلى دمشق، ومن ثم إلى الحدود فرفض وطلب مني الرجوع إلى الشعبة الأخرى من الطريق التي ذكرتها لكم آنفاً لأدخل منها إلى حماة، ثم تفضل بالقيام وكان الحوار السابق كله وهو مستلق على الأريكة، ونظر إلى جوازي، وتهكم عليّ لأن فيه كتابة بالإنجليزية !! ثم نهرني آمراً إياي بالرجوع !! فعدت أرجو اللبنانيين وأشرح لهم قصتي فرثوا لحالي وعطفوا عليّ وألغوا تأشيرة الخروج وأدخلوني إلى لبنان مرة أخرى حتى لا أبقى بين البلدين حائراً فجزاهم الله خيراً، فهذان نموذجان فحسب ولولا خوف الإطالة على القارئ لأوردت له من قصصي في الحدود العربية ما يبكي وينكي !! وحسب القارئ الهموم الإسلامية الكثيرة المتطاولة.
وصلت مع الإخوة إلى ميلوز التي هي جزء من مقاطعة الألزاس، وهي التي حصل فيها النزاع الكبير بين أوروبا عامة وألمانيا خاصة وبين نابليون ، ثم انتهى الأمر إلى عقد اتفاق تستثنى فيه الألزاس من العلمنة التي صبغت بها فرنسا بعد الثورة الفرنسية الكبرى ، وفي زمان نابليون وإمبراطوريته ، فصارت الألزاس إلى يومنا هذا لها قانون كنسي خاص تتبع فيه الفاتيكان وليس لفرنسا سلطان ديني عليها.
أخذني الأخوان إلى الفندق لأضع حقائبي ثم انطلقت معهما إلى المسجد الذي هو في قلب المدينة ، وفي مكان مهم ، وقد فاوضتهم السلطات على إخلائه مقابل تعويضهم بمكان آخر ، فوافق الإخوة في الجمعية ، وأروني المكان الآخر الذي قرروا قبوله فإذا به أفسح في المكان ، وأشرح للصدر ، وأوقع أثراً ، ذلك لأنه في مدخل المدينة من جهة ألمانيا وسويسرا ، وهو على الشارع الرئيس ، ولا يبعد عن مكان مسجدهم الذي هم فيه إلا مئات من الأمتار ، وهذا من توفيق الله تعالى ، وهم الآن يعدون خرائط المسجد ويرجون أن يوفق الله المحسنين لإعانتهم.
ثم إني صليت المغرب في مسجدهم ، ومغربهم في التاسعة والثلث تقريباً ، وأخذت في الحديث وأفضت إلى الساعة الثانية عشرة والنصف تقريباً لم يقطع ذلك سوى صلاة العشاء ، وكانوا راغبين في البقاء مدة أطول ولم يخرج من المسجد المكتظ إلا بضعة أشخاص فقط ، فسبحان الله كم هم متعطشون للعلم والوعظ ومحبون لإخوانهم الزائرين ، وتحدثت معهم عن مسؤولية الإنسان عن نفسه وأهله وأولاده ، ثم عن المجتمع المسلم الذي يعيش فيه خاصة مجتمعهم هذا ، وأهمية المشاركة والاجتماع ، وحثثتهم على التكاتف والتعاضد لبناء المسجد الجديد ، ولبناء مدرسة للبنات يحافظن فيها على حجابهن وعفافهن ، وسئلت أسئلة كثيرة فقهية واجتماعية.
ثم في اليوم التالي أخذني الشيخ الفاضل أبو زيد مرسو ذو الأصول المغربية ورجل فاضل آخر معه أخذاني إلى شاتو شينو ، ولها قصة أرجئها إلى حلقة قادمة إن شاء الله تعالى ، وللشيخ أبي زيد مرسو والدكتور محمود وأعضاء الجمعية الشكر الجزيل على ما بذلاه وقاما به وأسأل الله لهما الأجر والمثوبة ، وقد رأيت من مروءة أولئك وحسن أخلاقهم ، وجميل تعاملهم ما أعاد إليّ الأمل بأن هذه المعاني لم تمت في نفوس كثير من المسلمين ولن تموت إن شاء الله تعالى.