د-محمد بن موسى الشريف
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8098
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بادئ ذي بدء لابد أن أقول: إننا معشر الدعاة والمهتمين بشأن غير المسلمين ودعوتهم إلى الإسلام قد فقدنا أمريكا بعد الأحداث التي جرت فيها، فقد كانت أمريكا واحة للدعوة والدعاة يتجولون فيها بلا حواجز تذكر ولا عقبات حقيقية، والشعب هناك - كما يصفه العرب- هم من "نُزّاع القبائل" وليس بيننا وبينهم أي ثارات تاريخية بالمقارنة مع ما بيننا وبين الإنجليز والفرنسيين والألمان والهولنديين وغيرهم من ثارات كبيرة، واستخراب طويل لبلادنا، والشعب الأمريكي في الجملة ودود متقبل للأجانب بعكس أكثر الشعوب الأوروبية، أما بعد الأحداث فقد تغير الوضع كثيراً، ولعل في ثنايا هذه المحنة منحة قادمة إن شاء الله تعالى.
وألخص هاهنا ما رأيته في أمريكا في ضوء عدة رحلات متتابعة إليها من سنة 1417 – 1421 / 1997 -2001:
1- ما حققه اليهود من مكانة في أمريكا لابد أن يحصر ويدرس من قبل المهتمين، فقد استطاعوا أن يحولوا الكراهية لهم والتحذير منهم إلى حياد ثم إلى مناصرة وطاعة عمياء، فقد حذر بنيامين فرانكلين في ثاني لقاءات الكونجرس الأمريكي بعد الاستقلال من خطر اليهود وقال بوضوح: "إن لم نوقف هجرات اليهود المتتابعة إلى أمريكا فسيكون أحفادنا عبيداً لليهود"، وهذا الكلام مثبت في وثيقة رسمية، وهذا هو الذي جرى اليوم، فالشعب الأمريكي عُبد لليهود وخططهم وأهدافهم على وجه مذهل، وعمل اليهود هذا مفتقر إلى دراسة دقيقة حتى نعرف كيف استطاعوا صنع ذلك، والاستفادة من هذا الجهد الكبير والعمل الطموح المتواصل، نعم إن بعض وسائلهم كانت قذرة لكن هناك من الوسائل ما يمكن الاستفادة منه في عمل الدعاة في أمريكا وأوروبا اليوم، مع بقاء قوله تعالى في ذهننا: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" وبقاء التلاقي الديني بين اليهود والنصارى في الأذهان.
2- مشاركة المسلمين في العمل السياسي مثل الانتخابات والوصول إلى مراكز القرار ما زالت قاصرة، وأتذكر أنه كان يطلب مني في المحاضرات العامة توعية المسلمين بوجوب المشاركة السياسية لاختيار الأحسن والأفضل من بين المرشحين على سوئهم جميعاً تقريباً، وكان هذا الأمر شاقاً لأن كثيراً من المسلمين لا يتصور أن يصوت لكافر، أو يتغلغل في أجهزة دولة كافرة، والعجيب أن عدد المسلمين يفوق قطعاً عدد اليهود في أمريكا، وربما يكونون ضعفي عدد اليهود، لكن ما بينهما من تأثير كما بين الخافقين، أو كما بين السماء والأرض..
والآن أفلح التيار الصهيوني الإنجيلي "المحافظون الجدد" في تخويف كثير من المسلمين بسبب عسفهم وطغيانهم، وصارت البلاد كأنها تدار تحت قانون الطوارئ، وصارت أمريكا كأنها إحدى دول العالم الثالث التسلطية الاستبدادية، ولعل في هذا إيقاظاً للمسلمين، وجمعاً لقوتهم، ورصاً لصفوفهم بعد سلبية طويلة.
3- التاريخ باعتبار الفرص لا يعيد نفسه، فالفرصة العظيمة التي كانت سانحة في أمريكا سنوات طويلات أقدرها بثلاثين سنة من أوائل التسعينات الهجرية/ السبعينات الميلادية، يوم أن ابتدأت الصحوة تغزو القلوب والعقول، وأجزم أن قادة المسلمين لم يستفيدوا استفادة جيدة من هذه الفرصة التي لن تتكرر والله أعلم، وكذلك يدفع إخواننا المسلمون في أمريكا الآن ضريبة سلبية أكثرهم في الثلاثين سنة الماضية، وهذا وإن كان يتكرر في كل بلد مسلم وغير مسلم تقريباً لكن أثره المرجح في أمريكا لا يكاد يقارن بأثره في أي بلد آخر.
4- المسلمون الجدد قلّ من يهتم بهم، فقد كنت أرى دار الهجرة في واشنطن تُعنى ببعضهم، وتعقد لهم دورات جيدة لكن هذا غير كاف ولا واف، وأكثر من يسلم تنقطع صلته بعد ذلك بإخوانه، وربما تعرض لمحن وفتن كثيرة لا يتحملها فيرتد والعياذ بالله، وكان أحوج ما يكون إلى يد حانية ترعاه حتى يشتد عوده، وهذا يتكرر في بلدان أوروبية عديدة لكنه في أمريكا أصعب لأنها بلاد شاسعة، ولقد سألت عن أعداد المهتدين الجدد وأحوالهم فلم أجد إجابة شافية مقنعة، والأرقام منعدمة تقريباً، وفي هذا قصور وإضاعة لهذا الجهد الكبير الذي بُذل مع هؤلاء حتى هدايتهم، وحبذا لو تنشأ لهم جمعيات ترعاهم وتهتم بهم.
5- لابد من توثيق تاريخ الحركة الإسلامية في أمريكا، فمن بدأ العمل؟ وكيف؟ وأين ؟ فهناك تجارب رائعة يستفيد منها العمل الإسلامي في العالم أجمع، وهناك تضحيات وجهود جليلة تفيد المطلع عليها، وما زال أكثر الذين بني العمل على جهودهم باقياً على ظهر الأرض، فيمكن الاتصال بهم وتوثيق تلك الأعمال الجليلة.
والشيء بالشيء يذكر، فقد سألت عدداً من إخواني في إنجلترا وهم من المطلعين العاملين: من بدأ العمل في هذه البلاد؟ وكيف بدأ؟ ومتى؟ فلم أجد إجابة شافية أو جيدة على الأقل، وكل ما أخاف منه هو ضياع التوثيق لهذه الجهود الجليلة؛ فتحرم الأجيال من الوقوف عليها والاستفادة منها.
6- تاريخ السود في أمريكا تاريخ مهم لنا ، وذلك أن كثيراً منهم مسلمون في الأصل ونُصّروا بقوة سادتهم الجدد، وتعرضوا لاضطهاد لا مثيل له لمدة قرون، فينبغي دراسة تاريخهم دراسة جيدة، والاستفادة منه في دعوتهم ومخاطبتهم، وذلك لأنهم اليوم أسرع الأمريكيين دخولاً في الإسلام، ومعرفة تاريخهم وما تعرضوا له من مظالم يساعد على إحسان الصلة بهم أكثر، وتمتين العلاقة بهم على وجه أجود وأفضل، ونحن ـ المسلمين ـ أقرب الناس إليهم وإلى قلوبهم، كما لمست ذلك بنفسي ووقفت عليه من خلطتي بهم، وأظن أننا لو عنينا بهم على وجه مناسب لتحول كثير منهم إلى الإسلام، وحبذا لو خصصت جهة ما للعناية بهم والتخصص في دعوتهم، خاصة أن هناك دعوة مشبوهة قوية تعمل هناك في صفوفهم باسم الإسلام وهي دعوة أمة الإسلام التي كان يرأسها أليجا محمد ثم لويس فرقان الذي يدعي الإسلام هو وجماعته، ومبادئ جماعتهم تدل على ضلالهم، فهم يؤمنون برسول بعد رسُولنا صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الكفريات، وهي جماعة نشطة عاملة تهدد الوجود الإسلامي في أمريكا خاصة بين صفوف السود.
وهناك قصة لطيفة أذكرها لما فيها من عبرة، وذلك أني ذهبت إلى أمريكا في ولاية فلوريدا لدراسة الطيران سنة 1401/1981، ومرة أردت الإقلاع بالطائرة في رحلة تدريبية، فوجدت شاباً أسود يملأ خزان وقود الطائرة، فسألني: هل أنت مسلم؟ فقلت له: نعم، فقال: أنا عندي عدة أسئلة عن الإسلام، فقلت له: أنا الآن مشغول بالتدريب فهلاَ جئتني للسكن فوافق، وضربت له موعداً جاءني فيه هو وابن عمه، ووقفا على باب الغرفة وعلى لسانهما سيل من الاتهامات ضد الإسلام والمسلمين، فأشرت لهما بالقعود وأتيت لهما بمشروب، ثم أخذت في الإجابة على شبهاتهما، وقد أعانني الله إذ قرأت كتاب "شبهات حول الإسلام" للأستاذ محمد قطب ـ حفظه الله تعالى ـ وذلك قبل قدومي إلى الولايات المتحدة، فاستطعت الرد على الشبهات الكثيرة التي أثاراها في وجهي، وهنا أذكر كل شاب بأهمية القراءة الجادة؛ لأنها تنقذه بفضل الله تعالى في المواقف الحرجة، فبرد حماسهما وأخذنا في الأحاديث الودية بعد ذلك، وللعلم فإنهما لم يتركا شيئا تقريباً إلا وذكراه: الإسلام والرق، الإسلام والمرأة، الإسلام والميراث... الخ.
أما ابن عمه فأسلم بعد أسبوعين، ثم غادرنا إلى ألمانيا في بعثة الجيش الأمريكي هناك وانقطعت عني أخباره، أما هو واسمه سيلفستر فقد بقي معي قرابة خمسة أشهر لا يكاد يفارقني إلا في وقت العمل أو الدراسة، وذلك أنه كان طالباً في الجامعة، ويعمل ليوفر ثمن دراسته، وكنت ومعي رفيقا دربي الأخوان الفاضلان بدر العليان وسامي البسام لا نكاد نفارقه ولا يفارقنا، وكان يحضر المسجد ويشاهدني وأنا أخطب الجمعة على أنه لا يفهم العربية، وطلب مني أن أذهب إلى الكنيسة معه فذهبت فوجدت عجباً فالكنيسة للسود فقط، وطقوس العبادة كلها موسيقى وأغاني، فلما فرغت الطقوس اختلى القس بنا وسألني: هل أنت محمدي؟! ثم أخذ في كلام طويل عن المعجزات في الإنجيل!! وكل هذا لأني حدثته عن الإعجاز العلمي في القرآن الذي كان نجمه صاعداً آنذاك، فلم يأت الرجل بشيء على عادتهم في المجادلة بالباطل.
الحاصل أني مكثت معه قرابة خمسة أشهر نذهب كل نهاية أسبوع إلى مكان المتنزه وكنت أريد دعوته بهذا، وكان يأتيني إلى الغرفة كثيراً، وذات جمعة وأنا أخطب وأنظر إليه قلت في نفسي: يا رب إلى متى أنا مع هذا الكافر!! هذا آخر أسبوع فإن اهتدى وإلا فارقته!! وبعد الجمعة ذهبنا إلى ميامي كعادتي معه كل أسبوع، وفي الطريق قلت له: أين نذهب في ميامي؟! فقال: كنت وأنا صغير قد مررت وأمي بمسجد كبير!! فقلت: هل تستطيع أن تأخذني إليه؟ فقال: نعم، فأوصلني إلى مسجد ضخم بمنارة وقبة !! فقلت: انتظر ها هنا، وصعدت فوجدت ـ ويا للعجب ـ وارث الدين محمد ابن أليجا محمد صاحب جماعة "أمة الإسلام" الذي ذكرته لكم آنفاً، وهو الذي صحح عقائد جزء من "أمة الإسلام" حيث كان قد درس في الأزهر وعرف ضلال أبيه، وقد ناصبته جماعة أبيه العداء، وتعرض للقتل، فقلت له: معي في السيارة شاب أسود كافر فهل يصلح أن أصعد به؟! فقال: نعم، هذا وقت دعوة، فصعدنا وجلسنا نستمع إلى دعاة السود المتحمسين، ثم عدنا أدراجنا إلى بلدتنا، فافترقنا، ثم بعد ساعة أو نحوها جاءني وهو يرتجف وممتلئ عرقاً فقال: إذا أردت أن أسلم ماذا أصنع؟ الله أكبر هي الهداية العجيبة، إذ كان ذلك آخر أسبوع لدعوته كما قررت فجاءته الهداية على عجل، سبحان الله!! فأرشدته للاغتسال والشهادتين، وبقي معي قرابة شهرين يتعلم سوراً من القرآن، ويؤذن في المسجد، ويصوم الاثنين والخميس!! ثم لما أردت الرجوع إلى البلد بكى بكاءً مراً واحتضنني مودعاً.
وبقيت أراسله مدة حتى فاجأني بسؤال عن الطلاب السعوديين الذين تركوا ربهم في مكة وجاؤوا إلى أمريكا يعيثون في الأرض الفساد!! فبينت له أنهم لا يمثلون الإسلام الصحيح، وأنهم ضالون فقط، فقال: كان يجب عليك أن تدعوهم قبل أن تدعوني، ثم لم يطق البقاء مع هؤلاء الطلبة فانتقل إلى ولاية جورجيا معقل جماعة "أمة الإسلام" الضالة، ثم تأثر بهم بعد ذلك في قصة طويلة وتشوشت عقيدته، وكل هذا بسبب أولئك الطلاب الفاسدين الذين لم يحافظوا على الأمانة بعد مغادرتي، ولم يضربوا له المثل الصحيح لما ينبغي أن يكون عليه المسلم فجريمتهم مزدوجة؛ حيث ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم، نسأل الله السلامة والعافية، وقد رجعت إليه بعد أربع سنوات في أتلانتا – جورجيا لأرده عن باطل "أمة الإسلام" لكن كان قد تجذر ضلالهم في نفسه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والمصيبة أنهم يدعون الناس في "أمريكا" إلى الإسلام لكن على طريقتهم الضالة.
7- هناك أعداد كبيرة من المسلمين انتقلت إلى أمريكا بسبب الأحداث في بلادهم، وعلى رأس هؤلاء الصوماليون والعراقيون، فلا بد من العناية بهؤلاء قبل أن يذوبوا في المجتمع الأمريكي كما ذاب كثير من المنتقلين إلى أمريكا قبلهم، وهذا لابد من النظر إليه بعين الاهتمام.