تشهد العلمانية أفولاً عظيماً لشمسها، وغروباً ( لا شروق بعده ) لمبادئها وأبجدياتها، ذلك لأنها كانت بمثابة طفل غير شرعي ولد في غير بيئته ، وأراد أن يعيش في غير مجتمعه فكان لابد من وفاته.
وقد شاهدت ذات يوم واحدًا من كبار العلمانيين في مصر يتحدث عن الجهود المبذولة من قبله ومن قبل من هم على نفس فكره من أجل نشر الفكر العلماني في مصر فسألته مقدمة البرنامج : وأين أنتم الآن فرد عليها الرجل الذي بلغ من الكبر عتياً وقال لها : نحن ما زلنا في البداية !!
هكذا الحال إذن بعد كل هذه السنوات.
حقيقة لقد رثيت لحال الرجل الذي يغالط الواقع والتاريخ رغم كبر سنه ووهن عظمه ولا يريد أن يعترف بالحقيقة الناصعة نصوع الشمس في رابعة النهار .. الحقيقة التي يعرفها الجميع إلا من ألفوا تزييف وقائع التاريخ ، ولى مسار الأحداث ....
كانت الإرهاصات الأولى للمد العلماني في مصر والعالم العربي في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي مع بدء الاحتكاك الفعلي بين المجتمعات الإسلامية والفكر الأوربي الوافد مع جحافل الجيوش الوافدة لاحتلال البلدان والأقطار الإسلامية، والذي بدأ يشق طريقه إلى العقلية المسلمة عبر البعثات العائدة من أوروبا والتي ساهمت هي الأخرى بنصيب وافر في تسريب الفكر العلماني إلى المجتمعات الإسلامية .
كان الفكر العلماني بمثابة رأس الحربة التي أراد الاستعمار من خلالها النفاذ إلى العقلية المسلمة واحتوائها حتى يسهل عليه فيما بعد امتطاء البلدان من شرقها إلى غربها .
ومن خلال البعثات التي ذهبت من الشرق إلى الغرب عاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم، المفترض أنهم ذهبوا لدراسة العلوم التي تنهض بالأمة ( الطب والهندسة والرياضيات وغيرها) فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية، بل وبدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية، ولك أن تتصور حال شاب مراهق ذهب يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه، بعد أن يكون قد سقط أو أسقط في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي، وما أوجد كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري، ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية، وفي أهم المراكز العلمانية بل والقيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء، وإلى تاريخها بريبة واحتقار، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها – في أحسن الأحوال- بشفقة ورثاء، إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلاً تجارياً لمن علموه وثقفوه ومدّنوه، وهو لا يملك غير ذلك.
ومن ثم أصبحت الحواضر العربية الكبرى مثل: (القاهرة- بغداد- دمشق) بعد ذلك من مراكز التصدير العلمانية للبلاد العربية الأخرى، من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها، وبالذات دول الجزيرة العربية، وقل من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة طابورًا خامسًا، وجهته غير وجهتها، وقبلته غير قبلتها، إنهم لأكبر مشكلة تواجه الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة.
ثم كان للبعثات التبشيرية دورها، فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من شتى الفرق والمذاهب النصرانية، جعلت هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين في دينهم، وإخراجهم منه، وتشكيكهم فيه.
ثم كان للمدارس والجامعات الأجنبية المقامة في البلاد الإسلامية دورها في نشر وترسيخ العلمانية.
تلك كانت البداية ومعها انطلقت حملات الاحتفاء بالمولود الجديد الذي سيأخذ العالم الإسلامي ـ كما أخذ العالم الغربي ـ إلى آفاق التقدم والرقي.
وهكذا مرت السنون في إثر نظيرتها وانتظر الجميع وقت الحصاد فإذا بهم يحصدون المر ويكتشفون أنهم كانوا يقتاتون الوهم ويتعاطون الضياع فلا الأمة تقدمت ولا هي حافظت على هويتها .
فالخطاب العلماني مليء بالعثرات والمطبات منذ نشأته مما جعله يقع في أزمة حضارية ضخمة أثرت على وجوده واستمراريته فضلاً عن تقاصره عن قيادة الأمة ، بل ومساهمته في تأخرها وتخلفها .
فأولى هذه العثرات محاولة استنبات الفكرة في غير بيئتها ولا تربتها .
فالعلمانية لم تأت إلى الوجود في لحظة فجائية بل كانت نتاجاً فعلياً لممارسات ارتكبت باسم الدين وشكلت ضغطاً هائلاً على العقلية الأوروبية منعتها من ارتياد آفاق التفكير العلمي، وحرمت عليها مناطق الإبداع ... والمؤسف حقاً أن كل هذه الممارسات ارتكبت باسم الدين يقول د. / سفر الحوالي :
" من الحقائق المقررة أن الكنيسة قد ارتكبت سلسلة من الأخطاء الشنيعة، يكفي أحدها لنزع الثقة منها بصفة نهائية، وإن أحداً من أعداء المسيح -عليه السلام- لم يسئ إليه وإلى تعاليمه النبوية كما أساءت الكنيسة التي تتبجح بالانتساب إليه، وتزعم أنها الحارس الأمين على مبادئه والممثل الشرعي له، ولقد كان "ليكونت دي نوي " صادقاً عندما قال: 'إن ما أضافه الإنسان إلى الديانة المسيحية ، والتفسيرات التي قدمها، والتي ابتدأت منذ القرن الثالث بالإضافة إلى عدم الاكتراث بالحقائق العلمية، كل ذلك قدم للماديين والملحدين أقوى الدلائل المعاضدة في كفاحهم ضد الدين'."
كانت عملية الاستيراد الفكري عملية مشوهة لم تراع الخصوصية الفكرية ولا الحضارية ، ولم تلتفت إلى البعدين الثقافي والاجتماعي فجاءت محاولة تسريب المصطلحات إلى المجتمعات الإسلامية ومن أول هذه المصطلحات مصطلح " العلمانية " فقد جرت محاولات لتسويقه داخل المجتمعات الإسلامية بعد تشذيبه وتجميله دون مراعاة للأبعاد الحضارية للمصطلح ، أو فهم أن ما يصلح لمجتمع لا يصلح لآخر.
والحقيقة أن مشكلة انتقال المصطلحات بين المجتمعات والثقافات المتباينة من المشكلات التي تحتاج إلى مزيد تأمل ودراسة .. ففي بحثه الماتع عن الخصوصية الحضارية للمصطلحات يقول د./ محمد عماره : " من العبارات الشائعة على السنة جمهرة المثقفين، وفي كتابات كثير من المفكرين والعلماء، عبارة: (إنه لا مشاحة في الألفاظ والمصطلحات) .. بمعنى: أنه لا حرج على أي باحث أو كاتب أو عالم في أن يستخدم المصطلح، وبصرف النظر عن البيئة الحضارية أو الإطار الفكري أو الملابسات المعرفية أو الفلسفية والعقدية التي ولد ونشأ وشاع فيها.. فالمصطلحات والألفاظ ذات الدلالة الاصطلاحية هي ميراث لكل الملل والمذاهب والحضارات، ولجميع ألوان المعرفة ونظرياتها، ولكل بني الإنسان " ولكن الرجل لا يرضى بهذه العمومية التي قد تصل إلى حد الفوضى الفكرية فيستدرك قائلاً :
" أما إذا نحن نظرنا إلى الألفاظ والمصطلحات من زاوية "المضامين" التي توضع في أوعيتها، ومن حيث "الرسائل الفكرية" التي حملتها "الأدوات المصطلحات" فسنكون بحاجة - وحاجة ماسة وشديدة- إلى ضبط معنى هذه العبارة، وتقييد إطلاقها، وتحديد نطاق الصلاح والصلاحية التي يشيع عمومها من عموم ما تحمل من ألفاظ.
هنا سنجد أنفسنا عند الفحص والتدقيق، وفي كثير جدا من الحالات وبإزاء العديد من المصطلحات، أمام "أوعية" عامة "وأدوات" مشتركة بين الحضارات والأنساق الفكرية والعقدية والمذهبية، وفي ذات الوقت أمام "مضامين" خاصة، و "رسائل" متميزة تختلف فيها، وتتميز بها هذه "الأوعية" العامة و "الأدوات" المشتركة لدى أهل كل حضارة من الحضارات المتميزة، وعند كل نسق أو مذهب أو عقيدة من الأنساق الفكرية والمذاهب الاجتماعية والعقائد الدينية، وخاصة منها تلك التي امتلكت وتمتلك من السمات الخاصة والقسمات المميزة ما جعلها ويجعلها ذات مذهبية خاصة وطابع خاص.. وإذا كانت هذه المشاحة واردة في مضامين المصطلح ومعانيه ورسائله الفكرية، في إطار مذاهب الحضارة الواحدة... فأحرى بها أن ترد، بل وتتأكد في مضامين المصطلحات التي تشترك في وضعها واستعمالها حضارات متميزة في السمات والقسمات." نعم المصطلح ما هو إلا وعاء فكرى لحضارة معينة ، ولا ينبغي نقله إلى حضارة أخرى دون مراعاة الخصوصية والتفرد .
فلم يلتفت ناقلوا العلمانية الأوائل إلى هذا الاختلاف، ولم يكلف المدافعون الأواخر أنفسهم عناء الاستدراك والتراجع بشجاعة عند استبيان الخطأ ووضوحه .
فالبيئة التي نما فيها مصطلح العلمانية وترعرع غير البيئة التي حاولوا استنساخه فيها فيما.
المراجع
1 ـ د ./ سفر الحوالى ... كتاب العلمانية
2ـ الخصوصية الحضارية للمصطلحات د./ محمد عمارة
13-06-2008
shareah.com
Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /htdocs/public/www/actualites-news-web-2-0.php on line 793