ثار الجدل مجدداً حول قضية الحجاب على الساحة السياسية في تركيا، فقد مضت الحكومة التركية قدماً وبقوة بشأن خططها لرفع حظر ارتداء الحجاب في الجامعات، وهو ما يهيئ المناخ لصدام محتمل مع النخبة العلمانية حول هذه القضية شديدة الحساسية التي تثير خلافاً بين حزب العدالة والتنمية الحاكم والشخصيات العلمانية البارزة وفي مقدمتهم القضاة وجنرالات الجيش الذين يعتبرون الزي تهديداً لمبدأ الفصل بين الدين والدولة لأسباب تتعلق بالموروث التاريخي المكتسب عبر الحقبة الكمالية، مما نجم عنه تبادل الاتهامات وتحذيرات من قبل القوى العلمانية إلي الحكومة بضرورة التوقف عن العبث باستقرار البلاد، ملوحين بأنه في حال عدم التراجع عن مسعاها سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية ضد الحزب الحاكم ومعه من يناصره من أحزاب المعارضة، لدرجة أن هذه القضية أصبحت الموضوع الوحيد الذي يستأثر باهتمام الأتراك والصحافيين والسياسيين متجاهلين قضايا عديدة أكثر أهمية وحيوية وهو ما يتعلق بملف القضاء على منظمة حزب العمال الكردستاني التي تشن حرباً انفصالية في جنوب تركيا.
اردوغان يطمح إلى التغيير:
وقد بدأت القضية التي كانت تعتمل تحت الرماد منذ أمد بعيد، عندما وجه رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء وزعيم حزب العدالة والتنمية انتقادات لاذعة وشديدة على هامش منتدى حوار الحضارات بمدريد في شهر يناير الماضي حول استمرار التعاطي مع قرار حظر الحجاب في دولة إسلامية؛ في وقت تسمح به دول الغرب بذلك، ولامس عصب الحجة التي يرفعها عتاة العلمانيين لمنع ارتداء الحجاب وهو أنه رمز سياسي، ويخالف العلمانية في عدم استخدام الدين أداة في السياسة عندما أكد في نفس المناسبة على أن الحجاب لا يعد رمزاً سياسياً، وإنما ينبع بالأساس من الحرية الشخصية، وحرية الاعتقاد، ولا يحق لأحد أن يحظر ارتداءه، وأخذ على عاتق حكومته حل هذه المشكلة.
وقد قطع اردوغان الطريق مسبقاً على طموحات المعارضة العلمانية التي أخذت تفسر مواقفه على أنه اعتراف بأن الحجاب رمز سياسي، وأن الإسلاميين في تركيا كشفوا عن نواياهم الحقيقية، عندما أعاد تذكير الجميع بأن حزبه ليس حزباً دينياً، ولا من جذور دينية، ووصفه بالحزب الإسلامي متاجرة، حتى القول إنه حزب إسلامي متقدم أو حديث شيء قبيح جداً، كذلك القول بأنه حزب الإسلام المعتدل هو أمر خاطئ جداً، وأكد أنه كما يوجد داخل حزب العدالة والتنمية محجبات فهناك داخل حزب الشعب الجمهوري (العلماني المتشدد) محجبات، فهل هؤلاء المحجبات يرتدينه كرمز سياسي؟ بالطبع لا، بل سيجبن بأنه تلبية لضرورة دينية، وتابع اردوغان:" ولو، لنفترض أن الحجاب رمز سياسي فهل يمكن الموافقة على اعتبار أنه رمز سياسي جريمة؟ وهل يمكن حظر الرموز؟ أين هو في العالم شبيه ذلك؟".
واستعان اردوغان بحرية الحجاب في الجامعات الأوروبية بالقول: "إن ارتداءه في دول مختلفة مسموح، ولا توجد أي مشكلة في حين أنه في بلدي حيث 99 في المئة من الشعب مسلمون نشهد هذه المشكلات للأسف، ولكني واثق من أننا سنتخطى هذه المشكلة، وسنحلها في أقرب وقت"، ولكنه قال: "إننا سنحل هذه المشكلة من داخل الدستور من دون توتير الأجواء، وبالتوافق مع الأحزاب في البرلمان".
وعندما عاد إلى أنقرة قال رئيس الوزراء طيب اردوجان: "إن حزب العدالة والتنمية سيقترح تخفيف حظر صارم على ارتداء الحجاب في الجامعات دون انتظار إقرار البرلمان لدستور جديد، وقال أردوجان: "ليس لدينا أي نية أو هدف للانتظار، يتعين أن يحدث في أقرب وقت ممكن".
لقد كان أردوغان واضحاً جداً وصريحاً في طرحه وللمرة الأولى منذ فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية وتشكيله حكومة أغلبية منذ عام 2002م في أن قضية الحجاب يجب أن تحل عبر إدراجها في الدستور الجديد الذي أعدت مسودته، وينتظر أن يطرح على النقاش العام، فالاستفتاء الشعبي، ليكون ناجزاً خلال عام، ويبدو أنه مصمم هذه المرة على إنهاء هذه المشكلة التي تمثل فشلاً لحزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى السلطة، ورغم أنه يسيطر الآن على كل مؤسسات الدولة المفصلية خاصة السلطة التنفيذية بجناحيها الحكومي والرئاسي، وتمتعه بالأغلبية شبه المطلقة في اليرلمان وهو ما يفسر ضمنياً قوة موقف حزب العدالة والتنمية، إلى جانب الموقف المؤيد من حزب الحرك&;#1577; القومية بزعامة دولت باخجلي ثاني أكبر أحزاب المعارضة لتصريحات أردوغان في ضرورة البدء في رفع الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في الجامعات التركية والمؤسسات.
من المعروف أن حزب العدالة والتنمية يسعى عبر سياساته المعلنة بالدرجة الأولى إلى الحد من درجة التطرف العلماني للدولة التركية في عدائها للدين، واستبدالها بعلمانية أقرب في مضمونها إلى المعنى الأوروبي، والتي يغلب عليها الحياد إزاء المسألة الدينية، والاقتراب إلى المعايير الأوربية في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية، فقد أعلن أردوغان في تصريحاته سابقة أن حزبه يريد من الدولة أن تقف على مسافة واحدة من حرية العبادة لجميع المتدينين، مشدداً أن المشكلة تكمن فيمن يحرفون معنى العلمانية، ويطبقونه حسب أهوائهم، كما أن عبد الله جول أكد أنه مع العلمانية المتصالحة مع الدين، والمدافعة عن الحريات.
القوميين يساندون الموقف:
بالتأكيد يأمل حزب العدالة والتنمية ويؤيده بذلك فئة كبيرة من الشعب التركي بمختلف فئاته أن تلقى التعديلات المقترحة للدستور القبول للتخفيف من الغلو في حظر الحجاب، خاصة وأن دعوات أردوغان تلقى قبولاً من حزب الحركة القومية اليميني (70 مقعداً في البرلمان)، وهو ما يتيح لحزب العدالة والتنمية إقرار تعديلاته بالأغلبية اللازمة لتجنب إجراء استفتاء عليها.
الزعيم دولت باخجلي أوضح في بيان له أن الأمر بات ممكناً من خلال إجراء تعديل في البند الثاني للمادة العاشرة من الدستور الذي ينص علي ضرورة تصرف الموظفين في جميع مؤسسات الدولة الرسمية وفقاً لمبدأ المساواة أمام القانون، استناداً على حقوق وواجبات المواطنة، وأكد أن ارتداء الحجاب يخالف فقط مبدأ تساوي الموظفين أمام المؤسسات الحكومية، وشدد أن رفع هذه المخالفة يتم عن طريق حذف البند المذكور من الدستور، مشيراً إلى خلو الدستور من أي قانون يحظر ارتداء الحجاب في الجامعات ومؤسسات الدولة قائلاً: إن الآراء المخالفة لذلك إنما تستند في معارضتها على قرار أصدرته المحكمة الدستورية عام 1989م، مؤكداً أن حزبه سيدعم حزب العدالة الحاكم حال تقدمه بطلب في المادة الدستورية، وعرضه على البرلمان.
وبالفعل فقد توصل حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية إلى اتفاق مبدئي لرفع الحظر عن الحجاب في المدارس والجامعات، وتم الاتفاق على إجراء تعديل على ثلاث فقرات في القانون الدستوري (10 - 13 -42) تمهيداً لرفع الحظر عن الحجاب، وذكر بيان للحزبين صدر بعد اجتماع مشترك استغرق ساعتين أنه "لطالما كانت هذه المشكلة جرحاً ينزف في المدارس والجامعات، وكان لا بد من حلها"، وأضاف البيان: "لقد سبق لحزبينا أن أعربا أكثر من مرة أمام الرأي العام عن معارضتهما لقانون حظر الحجاب، ولقد ناقشنا اليوم هذه المسألة من منطلق حق وحرية الإنسان"، وأمد البيان أن الطرفين توصلا في إطار عام إلى اتفاق بهذا الصدد، إلا أن العمل متواصل لوضع التفاصيل النهائية.
إذن موقف حزب الحركة القومية جاء بمثابة خدمة كبيرة في اتجاه حل هذه المشكلة، فهو من ناحية يؤمن غالبية سياسية وبرلمانية معتبرة مع حزب العدالة والتنمية (لإجراء تعديل دستوري بغالبية الثلثين أي 367 نائباً)، ولا يبقى في المعارضة عندها سوى حزب الشعب الجمهوري، وسيحسب هذا الموقف لحزب الحركة القومية المحافظ لأنه سهّل الحل المبكر بجذب مؤيدين جدد له لتوسيع قاعدته الشعبية، الذي سيظهر أمام المجتمع بصورة المتعاون، كما أن هذا الموقف يكسب حزب العدالة والتنمية للمرة الأولى قوة سياسية كبيرة تضمن له عدم الظهور بمظهر المتفرد في قضية كبيرة وحساسة بحجم قضية الحجاب، ويقترب بذلك من رغبة أردوغان في تأمين إجماع حولها، ويمكن القول أنه في حالة كتب النجاح لمحاولة تعديل الدستور الحالي فإن المحجبات سيكسبن عاماً كاملاً على الأقل في المؤسسات الجامعية، وهذه الفترة الزمنية التي يحتاجه تعديل في مشروع الدستور الجديد بين نقاشات، ومن ثم عرضه على الاستفتاء الشعبي.
كما أبدى الرئيس التركي عبد الله جول تأييده لاقتراح رفع الحظر على الحجاب في الجامعات بقوله: "الجامعات يجب ألا تصبح أماكن للجدل السياسي، والمعتقدات يجب أن تمارس بحرية في الجامعات"، وبصفته رئيساً للدولة يتوقع أن يكون جول محايداً في النزاعات السياسية، إلا أن تأييده للحكومة بشأن قضية الحجاب لم يكن مفاجئاً نظراً لخلفيته السياسية الإسلامية.
وبالفعل فقد بادر حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية بتقديم مشروع تعديل القانون إلى البرلمان يوم الاثنين 30 يناير القاضي بتخفيف الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في الجامعات، والتخلص من إحدى أهم العقبات التي تعرقل استقرارها الاجتماعي، وتوتّر وضعها السياسي، فهي الآن على عتبة حل قضية الحجاب في اتجاه إلغاء القوانين والقرارات التي تحظر ارتداءه تحديداً في الجامعات، مع إبقاء حظره في المدارس حتى المرحلة الثانوية، وفي الإدارات العامة.
القوى العلمانية تتحرك بسرعة:
لم يغب عن القوى العلمانية خطورة توافق رؤى ثاني أكبر أحزاب المعارضة في البرلمان الحركة القومية مع توجهات حزب العدالة الحاكم التي كان لها أكبر الأثر، ولعبت دوراً مهماً خلال العام الماضي في حل أزمة انتخاب عبد الله جول رئيساً للجمهورية بحضور نواب الحزب جلسات التصويت على انتخاب جول في البرلمان، مما أتاح الفرصة أمام نواب حزب العدالة والتنمية للحصول على النصاب اللازم للبدء في الجلسات.
ومن ثم بات على القوى العلمانية التحرك بسرعة من أجل تعطيل توجه حزب العدالة والتنمية إلى المضي قدماً من أجل تنفيذ أهم مفردات أجندته حسب وجهة نظرهم "أسلمة البلاد"، مستخدمين في ذلك مختلف السبل لوقف هذا المشروع على النحو التالي:
1) حذرت أعلى محكمة إدارية في تركيا من أن الخطط التي تدعو إلى رفع الحظر على ارتداء الحجاب في الجامعات تشكل خطراً على ما أسمته بالسلم الاجتماعي، وفي بيان لها قالت المحكمة: إن "هذه الخطط لن تبقى قاصرة على المؤسسات التعليمية فقط، ولذلك فنحن ننظر إليها بقلق، حيث أنها ستؤثر على السلم الاجتماعي"، وأضاف البيان: إن أحكام القضاء السابقة أوضحت أن المبادرات الدينية لا تدخل في نطاق الحريات الديمقراطية لأنها تضر بمبادئ العلمانية.
ووصف كبير ممثلي الادعاء بمحكمة الاستئاف بتركيا اقتراح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بتخفيف الحظر على ارتداء الحجاب بأنه "غير دستوري"، مذكّرة بمصير حزبي الرفاه والفضيلة بحجة أن هذا المسعى سيؤدي إلى زعزعة استقرار البلاد.
2) أصدر المدعي العام الجمهوري عبد الرحمن بالشانكايا بياناً آخر أكد خلاله أن التفكير باستخدام بعض الملابس في إطار الحريات سيفصل بين الطلاب، ويحول المؤسسات التربوية إلى ساحة نشاطات تتعارض ونظام الوحدة والعلمانية، وأضاف: "لا تستطيع الأحزاب السياسية السعي وراء تغيير الطابع العلماني للجمهور"، موضحاً أنه من البديهي أن احترام الحريات على أساس الدين سيؤدي إلى التجاذب ثم إلى المواجهة، كما بدأ في جمع الأدلة والتصريحات الصادرة عن حزبي العدالة والتنمية الحاكم والحركة القومية بشأن رفع الحظر على الحجاب تمهيداً لإقامة دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية لإغلاق الحزبين، ويسعى المدعي العام إلى توظيف نصوص قانون الأحزاب السياسية التي استخدمت من قبل لإغلاق حزبي الفضيلة والرفاه اللذين كان يرأسهما رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان بسبب سعيهما لرفع الحظر عن الحجاب، كما أدرج تصريحات رؤساء البلديات التابعين لحزب العدالة والتنمية في الملف أيضاً.
3) حذر مجلس الدولة التركي في بيان من الاتجاه إلى رفع الحظر عن الحجاب في الجامعات، وقال المجلس: إن إقرار مسألة رفع الحظر عن الحجاب لن تقتصر على المؤسسات التعليمية فقط، لكنها ستمتد إلى المؤسسات الأخرى في الدولة، وهو أمر يدعو للقلق لأنه سيولد مشاكل كثيرة، ويهدد السلام الاجتماعي في البلاد، وشدد البيان على أن تركيا دولة ديمقراطية علمانية تقوم على دور القانون، مشيراً إلى أن المحكمة الدستورية ومجلس الدولة أكدا مراراً على أن احترام الحريات على أساس من الدين سيؤدي إلى التجاذب والمواجهة داخل المجتمع التركي، كما حذرا من تصوير الأمر على أنه يأتي في إطار الديمقراطية لأن ذلك سيشكل مساساً خطيراً بالعلمانية في تركيا، كما أكدت ذلك محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أيضاً.
4) في أول رد فعل من جانب المؤسسة العسكرية التركية أعلن رئيس الأركان يشار بويوكانيت معارضته الضمنية لأي قرار أو قانون يقضي بتخفيف الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في الجامعات، وقال: "كل شرائح المجتمع التركي تعلم ما يعتقده الجيش بشأن قضية الحجاب، وأنا لا أريد أن أتحدث بشأن هذا الموضوع"، فيما لم يعرف على الفور إن كان الجيش سيحاول أو كيف سيحاول وقف الإصلاح المزمع، خاصة أن الجيش فشل العام الماضي في عرقلة انتخاب عبد الله جول الإسلامي السابق رئيساً للبلاد، ولا يتوقع الأتراك في الغالب وقوع انقلاب عسكري ببلادهم، وإن كان جنرالات الجيش قاموا عام 1997م بتأييد من الرأي العام بالإطاحة بحكومة كان ينظر إليها على أنها إسلامية للغاية.
نظرة إلى الحجاب في تركيا:
المعضلة القائمة أن الدستور التركي لا يتضمن أية إشارة إلى الإسلام أو الشريعة؛ لذا ينطلق الإسلاميون من دفاعهم عن الحجاب ضد الدولة لا من أصله الشرعي الإسلامي، بل انطلاقاً من مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما يزيد الأمر صعوبة عليهم، بخلاف الحال في معظم الدول الإسلامية الأخرى التي يعطي النص على الإسلام باعتباره ديناً رسمياً في دساتيرها، منطلقاً قوياً للإسلاميين في الدفاع عن الحجاب، فتصبح العقبة الأساسية أمام التقدم في موضوع الحجاب هي عدم تطور الديمقراطية في تركيا.
وما لا يعد خافياً أن حزب العدالة والتنمية ينظر إليه أنه أخفق في معالجة موضوع الحجاب، إلى جانب فشله في الدفاع عن المدارس الدينية، وهو ما خيب آمال الكثيرين في تركيا، فرغم إعلانه في يوليو 2007م عن أمله في مراجعة القوانين حتى يتاح للطالبات ارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات التركية الخاصة، وذلك على الرغم من رفض سلطات التعليم العالي؛ لم يذهب أردوغان بعيداً فيها دفعاً للتوتر، إذ يتخذ الحزب موقفاً حذراً في إبداء رأيه حول هذه القضية.
اردوغان ذهب تركيزه على ضرورة التوصل إلى «إجماع اجتماعي» حول هذا الموضوع الشديد الحساسية في تركيا، وتصوير الحجاب بأنه ليس قضية حزب العدالة والتنمية ولكنها قضية المجتمع التركي كله، وأن المجتمع لا يبدي اهتماماً كافياً بهذه القضية، ومن ثم فحكومته ليست مستعدة لدفع ثمن مواجهة هذه القضية، وكان حزب العدالة والتنمية الحاكم قد وعد بإنهاء الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في المؤسسات الرسمية حال فوزه في الانتخابات التشريعية وتشكيله الحكومة في نهاية عام 2002م، لكنه تراجع بعد معارضة شديدة من الجيش العلماني.
غير أن أردوغان الذي ترتدي زوجته الحجاب تعهد في الوقت نفسه بعدم ترك المسألة لما وصفه "بالاستغلال" من قبل المتدينين المتطرفين، وكرر بحسب تصريحات له في نوفمبر 2002م: "سوف نحل المشاكل بالتفاهم الاجتماعي، لا نريد توترات، إن اللعب بالورقة الدينية يجب أن ينتهي في هذا البلد"، وأضاف أردوغان: "في هذا البلد الذي ألغى عقوبة الإعدام سيكون من المؤسف أن نكون عاجزين عن إلغاء قرار يقيد حق التعليم".
ويبدي بعض المراقبين الأتراك استغرابهم من إثارة حكومة حزب العدالة والتنمية لقضية الحجاب في هذا الوقت بالذات وهي التي كانت تخشى من إثارة قضية منع المحجبات؛ خوفاً من أن يمثل ذلك معوقاً أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي من جهة، ومن جهة أخرى قد يؤدي للتصادم مع بعض القوى التركية الرافضة لإثارة هذه القضية، والمؤيدة لعلمانية الدولة.
وتثير بعض وسائل الإعلام التركية - سيما العلمانية منها - حملة مستمرة على الحجاب الإسلامي، ويصاحبها ردود أفعال إزاء مشاركة زوجات بعض المسؤولين من حزب العدالة والتنمية وهن محجبات في مراسيم رسمية.
مشكلة حزب العدالة والتنمية الكبرى هي مع الحجاب، فإذا كان الحزب قد فشل حتى الآن في حل قضية أصغر مثل معاهد، إمام، خطيب، فهذا يعني انه يواجه أزمة حقيقية في قضية الحجاب، وقد يتوقف عليها مستقبل الحزب ووحدته.
تاريخ طويل في محاربة الحجاب:
لم يعد الحجاب في تركيا مجرد التقيد بتعاليم الشريعة الإسلامية بتغطية رأس المرأة، بل تحول إلى مواجهة سياسية بين من يرون فيه رمزاً سياسياً وبين من يرونه أحد متطلبات الإيمان.
فالجهات العلمانية ترى في حجاب الطالبات الجامعيات وطالبات ثانويات الأئمة والخطباء مظهراً إسلامياً، وبمثابة إعلان دعم للأصولية الإسلامية؛ لا يتلاءم - على حد زعمهم - مع علمانية الدولة، على الرغم من أن الغالبية الساحقة من الأتراك مسلمين، وتدافع المؤسسة العسكرية - التي تتمتع بنفوذ واسع - بقوة عن فصل الهوية العلمانية العامة للدولة عن الممارسات الدينية الخاصة، وتحرص على إظهار هذا الفصل أمام العالم، فهي تريد الإيحاء بأن الدولة التركية دولة علمانية حديثة غربية التوجهات.
غير أنه لا يمكن اسـتيعاب أبعاد قضية الحجاب في تركيا بدون الاطلاع على الجهود التاريخية الحثيثة للقضاء عليه منذ أتاتورك، إذ لا تزال الحرب قائمة بما أحدثته علمانية أتاتورك من شرخ كبير فـي الانتماء الإسلامي للمجتمع التركي.
وتتعسف بعض الأوساط العلمانية في تركيا ضد الطالبات المحجبات، وتقول: إن قانون القيافة الذي وضع عام 1926م في فترة حكم مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة يفرض ارتداء الملابس الغربية على المرأة والرجل بحجة التوافق مع شروط الحياة العصرية الغربية؛ ما جعله أحد أهم المؤثرات على مظهر زي الطالبة التركية، وإن كان تطبيقه يرتبط بميول الحكومة الإيديولوجية.
ويفرض قانون ارتداء القبعة، وإلغاء ارتداء الطربوش والطاقية؛ على المرأة العاملة بدواوين الدولة والحكومة، والمدرسة والجامعة أيضاً ارتداء التنورة (الجيب) الطويلة، والبلوزة أو الجاكيت أو التايير وهو نفس القانون الذي استند إليه مجلس الأمن القومي في تركيا لإسقاط العضوية البرلمانية عن النائبة المحجبة "مروة قاوقجي" عام 1999م، فخلال جلسة حلف اليمين بالبرلمان التركي للأعضاء الجدد بعد انتخابات إبريل من نفس العام أصر أعضاء الحكومة التركية الائتلافية حينها بزعامة بولنت أجاويد، وأعضاء البرلمان من الحزب الديمقراطي اليساري؛ على طرد قاوقجي التي فازت بمقعدها البرلماني عن حزب الفضيلة (المحظور) بحجة منع القانون للمحجبات من دخول القاعة العامة للبرلمان، مثلما أسقط مجلس الوزراء التركي برئاسة بولنت أجاويد جنسيتها التركية.
وقد صدر عام 1981م قانون يمنع ارتداء الحجاب في الجامعات التركية، ولكن تورغوت أوزال رئيس الوزراء المنتخب عام 1983م تراجع عن هذا القانون، ثم أبطلته المحكمة الدستورية في إصدار قانون 1987م يمنع دخول المحجبات إلى الجامعات، وقد تم التراجع عـن هذا القانون سنة 1991م، ولكن لم يمنع هذا مـن استمرار الحظر في جامعات كثيرة من قِبَل البرلمان والمحكمة الدستورية.
ولكن أعاد الرئيس التركي سليمان ديميرل إصدار قرار عام 1997م ضمن حزمة الحملة المضادة للتيار الإسلامي أثناء ولاية حكومة مسعود يلماظ بمنع دخول المحجبات المؤسسات التعليمية أو الوزارات والمصالح الرسمية التركية عندما أجبر الجيش رئيس الوزراء نجم الدين أربكان على تقديم استقالته، كما منع القرار المحجبات من التردد على الأندية والمؤسسات الاجتماعية التابعة للجيش التركي، مثلما منع الصحفيات المحجبات من دخول أي مؤسسة تابعة للجيش التركي، حيث تم منع بعض الصحفيات التركيات المحجبات من دخول المؤسسات الرسمية للمشاركة في تغطية وقائع إخبارية، وتعرضت مئات الموظفات للفصل أو الإجبار على الاستقالة بسبب الحجاب، واضطرت الطالبات التركيات الميسورات للسفر إلى أذربيجان، والمجر، والنمسا؛ لاستئناف دراستهن الجامعية، ولكن النظام السياسي مازال يتعقبهن، ويسعى إلى رفض اعتماد شهاداتهن الجامعية، ورغم اضطرار بعض الطالبات في جامعات تركيا إلى الاستمرار في التعليم حتى لو كلفهم ذلك خلع الحجاب أمام مداخل الجامعات، فقد تركت أخريات التعليم مفضلات ذلك على خلع حجابهن.
خاتمة:
الأزمة الحقيقية للنظام الكمالي في تركيا هي في صراعه اليائس مع حركة كبرى في تركيا تسعى لاستعادة الجذور والهوية التركية الإسلامية كما كانت طوال ألف عام، وتقول الدراسات أن 80 % من المجتمع يريد تشريع الحجاب، والأسوأ من ذلك بالنسبة للنخبة السياسية والعسكرية هي في مصالحها المهددة التي ارتبطت بهذا الوضع تركياً، ومهما يكن من أمر فإننا أصبحنا أمام مشهد جديد من مشاهد الحياة في تركيا التي تلفت النظر بشدة إلى مصير يبدو مجهولاً، ويبدو أن الخناق يشتد على عنق المتشددين من العلمانيين في تركيا فيما يخص مسألة الحجاب.
18-03-2008
almoslim.net
Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /htdocs/public/www/actualites-news-web-2-0.php on line 793