د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2978
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تواصل "النهضة" سلوكها على مأدبة الحكم، منذ اقْتِعادها لأول مرة على ثلاثية كرسي الرئاسة بعد الثورة، على أساس ازدواجية الحياد الايجابي والانتماء السلبي.
أما الأول فلضمان الحد الأدنى من مصالحها أن تضيع بين أيدي الخصوم، وأما الثاني فلاستخلاص الحد الأقصى من تنازل غرمائها لها، لتكون المحصلة في النهاية تحقيق أهدافها بالكامل بعد معاناة وصبر طويلين لعهدين من النظام قبل الثورة.
والكل يعرف أن الأحزاب الوطنية بعد ثورة الحرية والديمقراطية والكرامة ليس بإمكان أي منها أن يجد أرضية للحكم إذا لم يستنبت في تربتها قبل ذلك بذوراً صالحة، من التربية والثقافة ونمطاً من أسلوب الحياة يقوم على مقومات الأمة الحقيقية وعبقريتها، أدبياً ومعنوياً واجتماعياً واقتصادياً، وسياسياً في الوقت نفسه.
ومعروف لدينا في تونس، أن تخلُّصنا من الاستعمار كلفنا المرور بمراحل تمهيدية لنيل استقلالنا الحقيقي وسيادة دولتنا، وحرية إرادة شعبنا واختياراته. وهذه المرحلة التي لم يكن غنى عنها عند السياسيين الذي تبادروا الى الحكم بمقتضاها، حتمت تأجيل كثير من مبادئنا التي ضحّت من أجلها الأجيال، الى حين، أو تعديل بعضها بحكم اتفاقيات الاستقلال المشروط، التي وقعتها بلادنا مع فرنسا، بغيبة من كل استشارة شعبية أو استفتاء.
فتفرق شمل زعمائنا من ذلك الوقت، بين مناهض لتلك الاتفاقيات وهو يعلم أنها ستكون حجر عثرة لانفصالها بالكامل عن فرنسا وانعتاقنا من التبعية لها في كل شؤوننا الاقتصادية والعسكرية والخارجية والثقافية والادارية وما الى ذلك، وبين متعلل بضرورة التعاون الظرفي لدواعي قيام الدولة التونسية الحديثة وتسيير مؤسساتها كافة، في ظل غياب الأطر والكوادر الوطنية، وافتقار مواردها وماليتها الى القروض والمساعدات، وارتهانها بتعاقداتها السيادية السابقة، التي بقيت دائماً بمفعول تلك الاتفاقيات في اتحاد مع فرنسا.
لكن هذا الوضع، كان ينبغي أن يتعدل بعد رحيل بورقيبة حيث لم يكن متاحاً إزاحته في حياته، بما وفرته فرنسا لنظامه من الاستقرار لحساب تعاونها معه. بل وجب أن يتعدل على يد أي زعيم يتقمص الدور المعارض لبورقيبة في سياسته الفرنكوفونية بأوسع معنى، ويكون هذا التعديل باتجاه تحرير تونس من التبعية لأوروبا وفرنسا بالذات. وليس بشرطه أن يكون هذا الزعيم من النهضة أو الحزب الدستوري القديم أو اليسار التونسي أو جناح منه أو من الوسط. فتونس العميقة كانت كلها حزباً واحداً على التخلف والاستعمار.
والثورة وحدها بعد ١٤ جانفي ٢٠١١ هي التي منحت الفرصة للنهضة، باعتباره الحزب الوحيد تقريباً الذي كان قائماً على ساقيه في الداخل والخارج، لمناهضة سياسة بورقيبة وخليفته بن علي، لأنه كان امتداداً له مع اختلاف الصورة؛ وربما لميوله القومية والإسلامية الواضحة شيئاً ما أقوى من بورقيبة، لفظته فرنسا، وتسارعت للإطاحة به في أول فرصة، بعدما ضاقت بما يمكن اعتباره، في سياستها لحكام تونس، تمرداً عليها وامتهاناً لثقافتها ولغتها، في البلد، بكثير من إنجازاته وتوجهاته.
والتدخل الأجنبي، وهذا غير خاف، وإن اتخذ تارة لبوس التعاون الدولي أو الثنائي أو الأممي، والقروض والمساعدات والتعاون الفني ونحو ذلك؛ سواء عن طريق المجتمع المدني أو عبر الحبْل السُرّي - إذا صح التعبير - للتمويل الخارجي باتجاه أحزاب معينة ونشطاء سياسيين وإعلاميين ومثقفين ومتعاونين وربما برلمانيين وأعضاء في مواقع القرار.
هذه "الأرمدا" - إن صح التعبير - لاحتواء سياساتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخارجية والعسكرية والأمنية، وإن حاولت كثير من الإرادات الوطنية المخلصة التخفيف من وطأتها، إلا أن دورها جعل يتضخم بعد الثورة باطراد- هذه الأرمدا قلت، منعت من انتقال تونس الى حكم ديمقراطي عن طريق الأغلبية البرلمانية والنظام الرئاسي المُوَقّى بالصلاحيات المطلوبة لتركيز مؤسسات منتخبة ومستقلة حقيقة عن التأثير المالى والاعتباري السلبي للخارج. وهو بوصلة الوصول بتونس الثورة الى حكم مستقر، لا تزعزعه الأزمات المفتعلة، التي همها إنهاك البلاد وميزانيتها بتعدية حزبية مفرطة ونظام برلماني مزاجي، منفلت عن الأحزاب ومنقسم على نفسه بحدة.
ولكن ما الحل، إذا كان هناك من يترصد للتحكم في دفة مراكب هذه الثورات، في بلاد الربيع العربي، ليجعلها تحيد عن أهدافها، ويُقسرها قسراً على الإرساء بموانيه المقدرة لصادراته ووارداته من بلادها واليها.
الحل، هو أن نأخذ بيد الحزم ترتيبَ أوضاعنا الداخلية، من أحزاب، والتزامات معنوية بعدم التدخل في شؤوننا، وتوجيه همنا الى بناء نظام ديمقراطي مناسب لمرحلة ما بعد الثورة التي نحن فيها.
فأمامنا تعديلات دستورية، تأكد بعد تجربة الخمس سنوات من العمل بالدستور، إدخالها على بعض مواده، وعلى بعض قوانيننا الأساسية، كمجلة الانتخابات لإرساء نظام الأغلبية، الذي لا يشك عاقل في أنه لم يكن الاتجاه اليه في الأول إلا لغاية منع أي فصيل من التيارات السياسية الاستفرادَ بالتمثيل الشعبي في البرلمان.
فيمكن أن نقول إن النضج الانتخابي الذي بلغناه بعد تجربتين أو أكثر من التردد الى صناديق الاقتراع أصبح يسمح لنا بالانتقال الى نظام يوفق بين الاستقرار والحرية على جانبي التساوي، حتى لا يفيض جانب منهما على حساب الجانب الآخر، ولا نستمر في جمهورية الفوضى والمراهقات السياسية اليومية، وحرمان القلة للكثرة من نعمة الاستماع لصوت الحق، والإذعان لاختيار الجمهور العريض، لما يجب أن تكون عليه تونس أو تسير عليه تونس لتحقيق مناعتها وصدارتها بين الدول المتقدمة.
------------
تونس ١٩ ديسمبر ٢٠١٧
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: