د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3382
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
هيئة الانتخابات، التي تعاني في هذه الأيام مما هو أشبه بالولادة القيصرية لتجديد أعضائها هي انعكاس لوضع سياسي مريض على ما يبدو. إن مرض مرضت، وإن صح صحت. ولا يمكن القول إنها أصلاً ولادة مشوهة، لأنك أمام خلقة مجبولة أساساً من تكوينات سياسية وحزبية على علاتها. فهي بالتالي تعكس أكثر ما تعكس صورة مجلس تأسيسي بتركيب استثنائي، ولم يكن بإمكانه أن ينتج من الهيئات إلا على تصوير نفسه. والمتعين أن يخلفه المجلس التشريعي ليعيد تصويرها ويصنع منها بيجماليون على صورة نفسه هو أيضاً بتجديدها أو بالتعديل في قانونها.
لكن ما يحدث أوقع المجتمع السياسي وعموم الناخبين في مأزق التجديد لأعضائها المتخلين بالقرعة، وانتخاب رئيسها، الذي يغادر في ظرف من الظروف دون احتساب عواقبه على سيرها بعد ذلك أو تزامناً مع انتخابات قريبة.
ولكن أيضاً عندما يبقى المجلس في تجاذب غير سليم بين كتله ومغالطات تصل حد السياحة بين نوابه من حزب الى آخر أو كتلة الى أخرى تكون الأوضاع قد زادت تعقيداً في عمله لإنتاج أى عمل سوي؛ وإن اكتسى في الظاهر الأغلبية الشرعية. وتغرق الظنون والتأويلات القانونية حولها وحوله للخروج من المأزق؛ وكأن لا منقذ ولا خروج إلا عن طريق التوافق المشفوع بالتصويت، الذي كأنما صيغ إلا ليكون ترجمة أمينة للتوافق. فأصبحنا في ديمقراطية التوافق أو توافق الديمقراطية. وهو أمر غير منتج أصلاً. لأنه ضد طبيعة الأشياء. ومن هنا تنادت عديد الأصوات بضرورة المبادرة بتعديل الدستور في اتجاهات عديدة وإن مست بالأساس كثيراً من أبوابه ومسلماته، أو اقتضت الاستفتاء عليه. لأن الأزمات لا تحلها الأزمات وإنما تحلها الأغلبية التي لها القول الفصل في النزاعات، وليس التحالفات غير ذات الطبيعة الحزبية الواحدة أو المنسجمة بالضرورة.
فلا بد من إطلاق بناء الأغلبية الانتخابية وإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله. لأن التوزيع للسلطة بين معارضة وحكومة في مجلس نيابي مشوه أو جاء مشوهاً عندما خالفنا طبيعة الحكم الديمقراطي في الدولة الحديثة: وهو تحالف الحزب الثاني في الانتخابات التشريعية مع الحزب الأول في الحكم. والأصل أن يكون الأول في الحكم وإن صانع بعض الأحزاب الصغيرة القريبة مذهبياً منه، ويتصدر الحزب الثاني المعارضة، لتكون دالةٌ في الحكم، بينه وبين صاحب الأغلبية بعد كل انتخابات تشريعية وأخرى.
لكون الخوف، الذي يسيطر على كل صاحب سلطة قائمة أن يتشبث بالكرسي حتى ولو كان الكرسي الإضافي، يفسد اللعبة الديمقراطية. وتمثل ذلك لأول يوم بالمجلس، عندما ذهبت رئاسة لجنة المالية، التي الشأن أن تتولاها المعارضة، الى محلها عند الحزب الثاني ثم انقلبت على عقبها، لأن الفائزين الأولين في التشريعية التقيا عند نقطة التعايش البراغمراتي إذا صح التعبير.
ولكنه زواج لن يدوم، لأنه لم يولِد إلا تشوهات في العملية الديمقراطية بما أصبح يسمى بالتوافق، بل حتى التوافق المغصوب على أمره، اكتفاء بالأدنى من حركية المجتمع لحساب الامتيازات الحزبية.
ومن هنا مأزق الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي توقعنا من الأول أن تدخل في مضيق، عندما يتعافى المجتمع من إرهاصات الثورة ويتفطن لحقيقة العملية الديمقراطية الملعوبة فيه. لأن التقدير كان من الأول في المجلس التأسيسي تغييرها حتى لا تعاني من آثار اسمها في بعض الأفهام، من جهة كونها عليا وجهة كونها مستقلة.
ولم تبق المشكلة في الأسم ولكن في الصيغة التي تتجدد بها وفي إجراءات انتخاب رئيسها. فلم تكن ثغرات في القانون في الحقيقة وإنما هي تعبير عن إدارة سياسية لامحالة وهذه قد تختلف بين أغلبية وأخرى.
ولو كانت الأمور طبيعية كالديمقراطية في أذهان فلاسفة القانون، لكان الفصل في الخلاف مرجعه الى الحزب الأول الفائز بأغلبية المقاعد في المجلس، للإلقاء بوزنه في التصويت لرئيس الهيئة عندما يحكم التوافق بتعطيل العملية مهما كلفته الحيلة، طالما لا يحقق قيام الضمانات أمامه لاستدامة موقعه في السلطة عن طريق نتائج الانتخابات. لأن النظام البرلماني كما نسج خيوطة الدستور يمكّنه عبر آلياته وبالتوافق المبتكر لكل عملية تصويت من شد العربة دائما الى الوراء، لكي لا يفلت زمام السلطة منه في كل الأحوال.
ومن باب التفويت على نفسه وعدم الحفظ لحقوقه، أن يتخلى الحزب الأول للعبة التوافق، فيرهن التصويت به بشكل آلي، فتتحرف العملية الديمقراطية وتنتج الخوف على شرعية صاحب الأغلبية الأول في الانتخابات حسب نظام النسبية الى نهاية المدة النيابية. وللضرورة أحكام قد لا تقتضيها القوانين العادية والمواضعات؛ حتى لا نقول لماذا نحن في تخلف عن الاجتهاد في القوانين بمثل ما تجتهد به الدول التي صنعتها.
---------
تونس في غرة نوفمبر ٢٠١٧
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: