يمثل التقرير الأخير الذي نشرته "منظمة العفو الدولية" مؤخرا عن الممارسات القمعية لقوات الأمن التونسية في حق الموقفين مؤشرا خطيرا وحقيقيا على عودة الدولة الاستبدادية إلى الحكم في تونس وإن بقناع ما بعد ثوري. فقد أكد التقرير على "اعتماد قوات الأمن التونسية على الأساليب القمعية التي كانت معهودة في الماضي بما في ذلك التعذيب والقبض والاحتجاز بصورة تعسفية والقيود على سفر المشتبه بهم فضلا عن مضايقة أفراد أسرهم".
التقرير ليس صادما على الإطلاق لأن كل المؤشرات القادمة من تونس مهد ربيع الثورات تجزم بما لا يدع مجالا للشك أن الدولة العميقة تكاد تستعيد كامل مجالها الذي كان لها قبل أن تعصف بها رياح الثورة صبيحة يوم السابع عشر كانون الأول 2010 فيهرب الجلاد ويعود زبانيته إلى جحورهم. استفادت الدولة العميقة كثيرا من توافر عوامل متشابكة بعد الانفجار الكبير لكن أكبر العوامل التي ساعدتها على العودة إلى السطح بكل الوقاحة التي تعبر بها عن أحقادها عبر وسائل إعلام العار العمومي والخاص هو تآمر النخب التونسية على ثورة الفقراء والمحرومين وتناحرهم من أجل المناصب والكراسي.
لقد نجح الطاغية بن علي في إلجام النخب التونسية وفي تركيعها بشكل كشف عبره عن حنكة كبيرة في التعامل مع زيف المناضلين ونفاق المقاومين وتملق المعارضين فقد كان يدرك بحسّه الأمني المرهف أحيانا وبغبائه اللامحدود أحيانا أخرى مدي قابلية النخب التونسية للشراء أو الإيجار إلا من استبسل فكان مصيره الموت في زنازين وزارة الداخلية وأقبية الموت التي تملأ أرجاء الوطن. عودة التعذيب وعودة الممارسات القديمة عنوان عريض على فشل المسار الانتقالي الذي عبّرت عنه بشكل مبكر منابر إعلام العار الوطني وقد استبسلت في تركيع الثورة وبث الفوضى وإرهاب العوام من الناس بداعش أحيانا وبغيرها أحيانا أخرى.
إن عودة الدولة البوليسية إلى المشهد وإمعانها في تعذيب الأبرياء من التونسيين داخل السجون والمعتقلات ومراكز الإيقاف يعدّ أخطر المؤشرات على أن الحرب على الإرهاب لم تكن سوى ذريعة دولية لقمع الحريات وتكميم الأفواه وإعادة البلاد إلى النفق المظلم الذي خرجت منه.
لقد عبّر أهل تونس عن سلمية نادرة خلال الثورة وبعدها فقد بقيت البلاد دون أمن أو شرطة شهورا طويلة وكان الشعب العظيم حارسا للأحياء والمؤسسات بعد فرار قوات الأمن خوفا من ثأر الجماهير بسبب الجرائم التي ارتكبت في حق الأبرياء. عبّر أهل تونس عن سلميتهم الراقية فلم ينتقموا من أحد ولا حاكموا أحدا بل سكتوا عن الظلم في سبيل إنقاذ الوطن من براثن الفوضى... لكن يبدو أن دولة الاستبداد لم تستوعب الدرس جيّدا.
المشهد يزداد قتامة كل يوم مع ترنح مسار انتقاليّ تتصدره دولة العمق ممثلة في "حزب نداء تونس" الوريث الشرعي لحزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" حزب الرئيس الهارب "بن علي" ومجموع الأحزاب التي تدور في فلكه بكل خصائصها الانتهازية الفارقة. في المقابل تقف حركة النهضة ذات "المرجعية الاسلامية" ـ أو ما بقي منها ـ وهي تحاول جاهدة وفي عناء بائس الإيهام بالتوبة عن الأصول علّ المجتمع الدولي بكل آليات النفاق والمكر التي لديه يقبلُ بدخولها بيت الطاعة عارية من كل المبادئ إلا من بعض المساحيق و "التكتيك" الذي لم يجد نفعا إلا بتمكين القيادات من بعض الكراسي التي ناضلوا من أجلها عقودا في المنافي.
قد يكون الحكم قاسيا على الحركة لكن البون الشاسع بين النظرية والتطبيق ـ أو بين الدعوي والسياسيّ ـ في تصريحات الاسلاميين باتت تثير الكثير من الشفقة والريبة والشك لا في صفوف المتعاطفين معهم وهم الفريق الغالب بل حتى في صفوف قواعدهم الأكثر ولاء. اليوم لا تستطيع الحركة التنديد بالتعذيب أو العنف ولا بعودة أساليب القمع القديمة التي أبدع فيها جلادو "بن علي" وزبانية المجرم الأكبر ـ بورقيبة ـ لأنها أضحت جزءا من السلطة القمعية نفسها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
يتعلل الاسلاميون بالحكمة والتبصر و "تكتيك الشيخ" وبأنهم نجحوا في إنقاذ تونس من المصير المصري والسوري والليبي وأنهم ضمان المسار الانتقالي وغيرها من الأعذار التي لا تصمد أمام أبسط المنوالات الاستقرائية فضلا عن الاستدلالية. يتهم الإسلاميون غيرهم بالثورجية والعاطفة وغياب العقل... في حين يتناسون أن الثورجية والغضب والانفعال هي التي أرعبت بن علي وأسقطت نظام حكمه بعد أوهم الاسلاميون ـ مع بقية نخب العار التونسية من القومجيين واليساريين ـ الشعبَ أنهم سيسقطونه طوال عقود في حين نجح المفقّرون والمحرمون وغير المسيسين من "أولاد الحفيانة" في إسقاطه خلال أسبوعين من الزمن.
تونس لم تسقط في نموذج الانقلاب المصري لا لحكمة الإسلاميين؛ بل لأن التركيبة العسكرية والشعبية في الدولة التونسية هي غير التركيبة المصرية حيث العسكر المصري هو الدولة وليس العكس. فمصر يملكها العسكر سياسيا وماليا واقتصاديا وذلك منذ انقلاب عبد الناصر حيث أدخل مصر في نفق الاستبداد الذي لم تخرج منه إلى اليوم.
تونس قوية بقواعدها الشعبية التي لم تنزع نحو العنف والانتقام رغم كل حملات التشويه العالمية التي تريد أن تنتقم من أهل تونس، عبر أكاذيب القومجيين من حلفاء المشروع الفارسي، الذين لفقوا كل التهم للشباب التونسي سواء عبر تضخيم أعداد المقاتلين في بؤر التوتر أو عبر أكذوبة "جهاد النكاح" التي صاغتها المخابرات الايرانية بكل مكر. هذا في الوقت الذي يقاتل فيه مئات المقاتلين في كتيبة "محمد البراهمي" ضمن ما يسمى "الحرس القومي العربي" جنبا إلى جنب مع مليشيات الأسد والحرس الثوري الإيراني ويشاركونهم ذبح أطفال سوريا واغتصاب نسائها.
لن يكون غباء الدولة العميقة وهي تستعيد مجالها كاملا بمباركة "الإسلاميين" إلا حافزا جديدا لتجدد الموجة الثورية الثانية التي ستستفيد حتما من كل الأخطاء التي ارتكبتها الموجة الأولى في ظرف اقتصادي عالمي ينبئ بالأسوأ وأمام جحافل المعطلين والفقراء الذي يكفرون بالنخب وبالأيديولوجيا والذين لا يملكون ما يخسرونه في المعركة القادمة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: