البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

اليسار التونسي والمسألة السورية

كاتب المقال المهدي مبروك - تونس   
 المشاهدات: 3998



باعتزامها زيارة سورية قريباً، ولقاء الرئيس بشار الأسد، تثبت الجبهة الشعبية، أهم ناطق رسمي باسم اليسار التونسي، وبعد أن تتالت زيارات زعمائها إلى دمشق، ولقاءاتها هناك هرم النظام السوري، انفصامها الحاد، بل الشيزوفرينا التي تعاني منها منذ أمد بعيد، خصوصا فيما يتعلق بالمرجعيات النظرية التي تعتمدها.

تزعم الجبهة الشعبية أنها الفصيل الأكثر ديمقراطية والأكثر حداثةً في تونس، في حين أننا نعرف أن علاقة الديمقراطية بالماركسية، والتكوينات العربية ذات السمت الماركسي، ملتبسة وغامضة، ما يعود، في المقام الأول، إلى المتون النظرية التي تستند إليها. ظلت الماركسية، سواء في نصوصها التأسيسية، لدى كارل ماركس ولينين وستالين، تنكر الديمقراطية، وتعتبرها إحدى الخدع البورجوازية التي تحايلت على الشعوب، وزيّفت وعيها وشوّهت ثوريتها، لتزجّ بها في متاهات الإصلاحية الذليلة أو التحريفية المتخيلة، ونعلم كم من دماء سالت وأرواح ازهقت وأموال أهدرت باسم هذه المزاعم.

رفض ماركس الديمقراطية، على الأقل في شكلها الليبرالي، واتهمها بفصل الإنسان عن واقعه وتجريده وسلبه كل الحقوق وجعل الديمقراطية أداةً في يد المال والدولة. وعلى الرغم من أنه قد عدّل تدريجيا من هذا الغلو، فقد كتب، في كتابه عن سبينوزا الصادر سنة 1847، أن الديمقراطية الحقيقية التي ينشدها هي التي تتجذّر في عمقها الاجتماعي، أي تحرير الإنسان من الاستغلال الطبقي، ولكنه ظل متردّداً بعد ذلك، إلى أن وجد في دكتاتورية البروليتاريا "الحل الكارثة". وأدت هذه، فيما بعد، إلى تحويل الأشكال الأكثر كارثيةً من النظم الشمولية، حين حصدت أرواح عشرات الملايين في المحتشدات ومحاكم التفتيش. وظل الأمر قائماً، حتى انهار الاتحاد السوفياتي، وانفتحت الدول المنبثقة عنه فيما بعد على الأشكال الليبيرالية الأكثر توحشاً.

لا تهمنا تلك التفاصيل النظرية، إلا فيما يتعلق بتأثر اليسار العربي بتلك التجارب "المسفيتة" من الديمقراطية ومشاريعها النظرية، فالأمر راسخٌ في هذا التقليد وغير مستجد، فاليسار، واليسار العربي عموماً، لم يكن يؤمن بالديمقراطية، على الأقل في نسخها الليبرالية، بل ظل يجافي حتى الأدبيات الأممية التي انتشرت وشكلت مرجعية كونية. أما ادّعاء تجذر الديمقراطية في فكر اليسار فهو اختراع حديث، وادعاء باطل لا يقل بطلاناً عن ادعاء الإسلاميين تجذر الديمقرطية في فكرهم أيضاً، فهما "في الهوا سوا"، وما يطلبه اليساريون من الإسلاميين من توضيح موقفهم من الديمقراطية حرّي بأن يطلبوه من أنفسهم أيضاً، حتى لا يظل الإسلاميون وحدهم متهمين ومطالبين بإثبات خلاف ذلك لخصومهم.

أثبتت الحالة السورية، بكل تعقيداتها وغموضها وواقعها المرتبك، شيزوفرينيا اليسار العربي. ولعل اليسار التونسي أبرز مثال على تلك الحالة، فهو تخلص من عقدة الاضطهاد وأصبح مشاركاً في ما أتاحته الديمقراطية الليبيرالية تحديداً التي لولاها لما نشر أطروحاته، ولما استطاع أن يكون في البرلمان. وبفضل الديمقراطية الليبرالية والتمثيلية، استطاع أن يغنم من حرية التعبير والتنظيم. وكما يقول مثل شعبي تونسي، فان هذا اليسار "يأكل الغلة ويسب الملة"، تعبيرا عن فقدان الانسجام وعدم النزاهة الفكرية والتمزق الفكري والأخلاقي الذي يصيب بعضاً منه.
ساند اليسار التونسي ثورة التونسيين، وشارك فيها بأشكال مختلفة وفعالة، سواء في نضالاته التي امتدت عقوداً، أو في مساهماته الجدية في الأشكال النضالية التي خاضتها الحركة النقابية أو الحقوقية والنسوية، وله في ذلك رموز لا يمكن لأحدٍ أن يطمسها، كما كان لهذا اليسار أيضا دور حاسم في مرحلة الانتقال الديمقراطي، اذ لا أحد ينكر أنه ساهم أيضاً، بشكل قد نختلف في تقييمه، في الحفاظ على تلك الروح الأخلاقية للثورة التونسية، من خلال الانحياز إلى الطبقات الشعبية في مستوى الخيارات التنموية الكبرى، أو مطالبها بالعدالة الاجتماعية تحديداً. ولكن علينا ألا ننسى أيضاً أن اليسار نفسه تحالف مع رموز النظام السابق في أكثر من محطة، سواء من خلال جبهة الإنقاذ أو الاتحاد من أجل تونس واعتصام الرحيل. ولكن، لن ننسى أيضاً تصويت "قطع الطريق" الذي أبعد بشكل حاسم المنصف المرزوقي، وعبّد الطريق أمام الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي. ولكن، ما أن نقترب من المسألة السورية، حتى تنفضح بشكل مؤلم ومربك تلك الشيزوفرينيا التي تطبع مواقفه من الديمقراطية بشكل خاص.

يشكّل العالم العربي جزيرة الاستبداد بشكل لافت. ولا نتجنّى، حين ندّعي ذلك مع حفظ بعض التجارب التي تتعثر في انتقالها الديمقراطي الجاري حالياً. لذلك، فإن مطالب الديمقراطية تحتفظ بكل مشروعيتها الأخلاقية والسياسية، غير أن اليسار التونسي ينقلب على هذه المسلمة، وينكرها على الشعب السوري تحديداً.

يستكثر اليسار التونسي على الشعب السوري مطالبته بالديمقراطية، وينكر عليه ثورته، ويقدّم في ذلك سردياتٍ ومبرراتٍ لا تستقيم، من قبيل أن النظام السوري نظام ممانعة، فكأن المقاومة تسحب من الشعوب مطالبتها بالحرية والديمقراطية. وفي هذا، يستعيد اليسار التونسي ثنائية التحرّر والحرية، وكأن النظام السوري حين اندلعت الثورة عليه كان يخوض معركة التحرّر، وهو الذي لم يطلق رصاصةً واحدةً منذ احتلال الجولان. وعلى الرغم من عشرات الاعتداءات التي طاولت سماؤها وأرضها، فضلا عن اغتيالات قياداتٍ عسكريةٍ عديدة على أرضه، والتي يعرف جيدا أن الكيان الإسرائيلي وراءها، فإنه لم يتخذ أي إجراء. ويعاقب اليسار التونسي تحديداً الشعب السوري المتطلع إلى الحرية كما الشعب التونسي، واقفاً على الأرضية والقيم نفسها، نكاية في حكومة الترويكا التي استضافت مؤتمر أصدقاء سورية، ونكايةً أيضاً في حركة النهضة تحديدا التي ألّبت، حسب مزاعم الجبهة، على النظام السوري. وأخيراً، يصدر هذا الموقف المريب أيضاً، في اعتقاده، تصدّياً للإرهاب الذي شوه الثورة التونسية وخرّبها.

لا تبرهن كل تلك الحسابات التي أفضت، في النهاية، إلى النكوص الفكري والأخلاقي لجماعات اليسار، على مجرد عدم رسوخ الثقافة الديمقراطية لدى اليسار فحسب، بل على إسقاطات التجربة التونسية، بكل خلافاتها الدقيقة، على الأزمة السورية، ما يجعل هذا اليسار نفسه يتنكّر للديمقراطية. ستقدم الجبهة الشعبية في الزيارة المرتقبة لسورية "الممانعة" اعتذاراً باسم الشعب التونسي، من دون أن يفوّضها لذلك، عن كل الأخطاء التي ارتكبناها في حقه، وستهديه صك غفران ذهبي، ولكنها ستغنم، في مقابل الحصول على إثباتات تورّط حكومة الترويكا، وحركة النهضة تحديداً، في تسفير الشباب الإرهابيين. وستستعمل تلك البيانات حججا لمحاكمتها المشتهاة من الجبهة الشعبية... في أفق الانتخابات المحلية، والتي قد تجري آخر السنة الجارية، وسيكون للنظام السوري حضور مكثف في أثنائها، بما يتبرع به من حجج وبراهين تستعملها الجبهة الشعبية للبدء في محاكمات شعبية للحركة، أما الديمقراطية فتلك مسألةٌ أخرى


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، الثورة التونسية، الثورة المضادة، اليسار التونسي، اليساريون، حمة الهمامي، سوريا،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 24-01-2017   العربي الجديد

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمد الياسين، محرر "بوابتي"، محمد الطرابلسي، خالد الجاف ، د- محمد رحال، يحيي البوليني، محمد أحمد عزوز، عبد الرزاق قيراط ، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، حميدة الطيلوش، محمود طرشوبي، رشيد السيد أحمد، سامح لطف الله، محمد اسعد بيوض التميمي، ضحى عبد الرحمن، مراد قميزة، د. عبد الآله المالكي، مجدى داود، د - محمد بنيعيش، د - شاكر الحوكي ، حسن الطرابلسي، عواطف منصور، أحمد النعيمي، سلام الشماع، مصطفى منيغ، أشرف إبراهيم حجاج، محمود فاروق سيد شعبان، د - صالح المازقي، سيد السباعي، رافد العزاوي، سعود السبعاني، صلاح المختار، أحمد بوادي، العادل السمعلي، علي الكاش، د - عادل رضا، حسن عثمان، د. ضرغام عبد الله الدباغ، د. أحمد بشير، فوزي مسعود ، عزيز العرباوي، يزيد بن الحسين، عبد الغني مزوز، الهادي المثلوثي، نادية سعد، الهيثم زعفان، أحمد الحباسي، حاتم الصولي، كريم فارق، صلاح الحريري، د.محمد فتحي عبد العال، د- هاني ابوالفتوح، رافع القارصي، د. كاظم عبد الحسين عباس ، محمود سلطان، د. أحمد محمد سليمان، تونسي، إيمى الأشقر، صفاء العربي، د- جابر قميحة، عبد الله الفقير، إياد محمود حسين ، د - مصطفى فهمي، د. طارق عبد الحليم، منجي باكير، د. عادل محمد عايش الأسطل، كريم السليتي، محمد يحي، رحاب اسعد بيوض التميمي، محمد عمر غرس الله، الناصر الرقيق، مصطفي زهران، صباح الموسوي ، د. صلاح عودة الله ، حسني إبراهيم عبد العظيم، ماهر عدنان قنديل، خبَّاب بن مروان الحمد، عمر غازي، عراق المطيري، محمد شمام ، سفيان عبد الكافي، المولدي الفرجاني، أ.د. مصطفى رجب، سامر أبو رمان ، د - محمد بن موسى الشريف ، أنس الشابي، صفاء العراقي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، فتحـي قاره بيبـان، د. خالد الطراولي ، عمار غيلوفي، رمضان حينوني، فتحي الزغل، صالح النعامي ، عبد الله زيدان، إسراء أبو رمان، جاسم الرصيف، د - الضاوي خوالدية، أحمد ملحم، علي عبد العال، سلوى المغربي، وائل بنجدو، ياسين أحمد، سليمان أحمد أبو ستة، د- محمود علي عريقات، رضا الدبّابي، فهمي شراب، محمد العيادي، طلال قسومي، فتحي العابد، أبو سمية، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د - المنجي الكعبي، د. مصطفى يوسف اللداوي،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة