هل الصلاة الموحدة علاج الإبادة الجماعية في العراق؟
د. مثنى عبدالله - باريس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3552
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تفتقر المعضلة العراقية إلى حلول ناجعة، حتى التي يسمونها حلولا مطروحة لا ترتقي إلى مستوى ما يتعرض له هذا البلد من دمار على كل الاصعدة، لأسباب موضوعية تخص طبيعة المشكلة، ولأسباب ذاتية تخص الجهات التي تتصدى لعملية طرح الحلول.
فعلى المستوى الداخلي يبرز عامل رئيسي أمام من يحاول إيجاد حل، ألا وهو الأنانيات الطائفية والإثنية، ونوعية الكسب الذي سيتحقق من هذا الطرح لطائفة أو قومية الجهة التي تحاول إيجاد الحلول. فلقد بات في حكم الاشتراط أن يحفظ البعض حصة الأسد لهم، حتى في محاولات الخروج من المأساة التي يعيشها العراقيون جميعا، لأن الطوائف والإثنيات باتت هي المرجعية الاولى بالنسبة للكثير من الاطراف السياسية. ثم أن عامل المنافسة السياسية بات يرتقي منزلة أعلى بكثير من منزلة الوطن في النفوس والعقول، فأدوار الوطن دفعها البعض إلى منازل أدنى من غيرها، لان اشتراطاتها واستحقاقاتها ذات كلف سياسية واجتماعية عالية، لا يستطيع المتصدرون في المشهد العراقي تحمل أعبائها أو النهوض بحملها، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
وهذا هو السبب الذي دفع رئيس البرلمان العراقي إلى أن يخرج من جيبه، قائمة بأسماء بعض الذين شاركوا في مجزرة المقدادية في محافظة ديالى مؤخرا، في خطبة حماسية له للتعليق على الأحداث، بدون أن يجرؤ على أن يقرأ الاسماء علنا، لأن قراءاتها ستجعله يدفع كلفا سياسية عالية تفرضها أطراف أخرى عليه، لأنه في العرف السياسي العراقي الحالي يمثل طائفة، وليس من حقه أن يعلن عن أسماء تنتمي لطائفة أو مذهب أو إثنية أخرى، بينما لو كان الوطن والشعب حاضرين في ضمير الرجل، لذهب بقائمته إلى القضاء، وإن كانت لديه شكوك في نزاهة القضاء لذهب بها إلى القضاء الدولي، لكنه آثر الصمت كي لا تُجمع التواقيع في البرلمان تمهيدا لخلعه من المنصب. كذلك كانت ردة فعل القادة البؤساء الذين يدّعون تمثيل السنة، الذين انسحبوا من جلسة البرلمان واجتماع مجلس الوزراء، احتجاجا على الأحداث، وكأن انسحابهم له تأثير حذاء خروشوف رئيس الاتحاد السوفييتي السابق، حين هدد به الآخرين في اجتماعات الامم المتحدة عام 1960غاضبا من سياساتهم.
أما على الصعيد الإقليمي والدولي، فإن القضية العراقية باتت حصصا ذات نسب معينة في منظومات الأمن القومي لهذه الدولة وتلك، وبالتالي لا نجد مبادرات جادة في إيقاف النزيف الذي يتعرض له هذا البلد، لأن بلوغ المأساة العراقية نهايتها يعني هبوط الاسهم الإقليمية والدولية في المشهد، فالإيرانيون والأتراك والأمريكان والإسرائيليون ودول غربية وشرقية أخرى، حريصون كل الحرص على موازنة القوى الفاعلة فيه، كي تستمر استثماراتهم لبلوغ أعلى الارباح لصالح منظومات أمنهم القومي. على سبيل المثال يجد الأمريكان أن لُب الهيكل السياسي الحالي هو صناعتهم، وبالتالي لا يريدون أن يعلنوا فشلهم في صناعة هذا النموذج، كي يبتعدوا عن المسؤولية القانونية والاخلاقية في صناعة التدمير، ليست بالضرورة المسؤولية الآنية بل المستقبلية، لانهم إن كانوا قادرين اليوم على إسقاط المطالبات التعويضية بالترهيب والترغيب لمكانتهم في السياسية الدولية، قد لا تكون لديهم هذه الفرصة مستقبلا إن أفل نجمهم. حدث هذا المشهد في الكثير من القضايا الدولية، آخرها مطالبات مواطنات كوريات وفلبينيات الحكومة اليابانية، بتعويضهن عن دور المتعة الجنسية الذي أجبرن على القيام بها لجنود الجيش الياباني في الحرب العالمية. أما بالنسبة للدول الاقليمية خاصة إيران، فلا مصلحة لهم في إيقاف مسلسل التدمير الذي يعصف بالعراقيين، لأنهم هم العامل الرئيسي في إيقاظ جذوته. أما النظام الرسمي العربي فإن القضية العراقية بعيدة تماما عن تصوراتهم، لاسباب أهمها أن هذه المنظومة لاتزال ترى نفسها هدفا لتأثير خارجي، وأن أمنها القومي ليس موحدا، كما أن مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية مع دول صنع التدمير العراقي، أكبر وأهم بكثير من الاطار القومي الذي يربطها بالعراق، على الرغم من أن سلة الأخطار المقبلة من هذا القطر العربي باتت تهدد أمنهم الوطني.
وإذا كانت هذه هي ردات فعل المجتمع السياسي الدولي والاقليمي والمحلي أزاء الإبادة الجماعية التي تحدث في العراق، فإن الغرابة الاكبر هي ردات فعل البعض من رجال الدين العراقيين، التي اتسمت بطابع السلبية نفسه الذي تعامل به الساسة. فعلى الرغم من أن الرموز المعنوية تظهر أدوارها البارزة للعيان أكبر بكثير في أوقات الازمات والحروب، لكن الرمزية الدينية العراقية فشلت حتى الآن في القيام بهذا الدور، وفي التحرك لصيانة الأمن الوطني والسلم الأهلي، وقد ظهر هذا الموقف جليا في أحداث المقدادية الاخيرة في محافظة ديالى. فأمام القتل الطائفي وتفجير المساجد ونهب المحال التجارية والدور السكنية، لم يجد رجال الدين غير فعالية الصلاة الموحدة بين السنة والشيعة، فهل يُعقل أن نعالج المصاب بالسرطان كمعالجة المصاب بالزكام؟ وهل لا يملك رجال الدين غير هذه الوسيلة في التصدي لحادث جلل؟ فإذا كانت صلاتهم الموحدة تشير إلى إيمانهم المطلق بان ما حدث في المقدادية هو حرب طائفية، وأنهم بهذه الفعالية أرادوا إشعار تابعيهم بأنهم على وفاق ويجب أن يقتدوا بهم، فإنها تشير إلى فقدانهم التأثير المعنوي على أتباعهم، وبالتالي لم تعد لديهم فعالية التأثير الحقيقية داخل المجتمع. وإذا كانت الصلاة الموحدة التي قاموا بها لا تحمل هذا المعنى، إنما هي إشارة منهم إلى أن الطوائف ليست أديانا بل إنها دين واحد بقلب رجل واحد، فإنها أيضا تشير بهذا المعنى إلى تراجع دور رجال الدين، في تعزيز وحدة الدين وقيمه لدى مختلف اتجاهات المجتمع.
إننا نرى أن الصلاة الموحدة عقب برك الدماء المنهمرة من الابرياء هي فعاليات مصطنعة، وهي تحركات سياسية يراد منها التغطية على جرائم ترتكب وحقوق مضاعة، فالدين عقاب وثواب وليس فعاليات سلبية بدون معان واضحة، وقُبل وعناق بين الظالم والمظلوم. لقد أقامها العراقيون بصورة فردية وجماعية على مدى عقود من الزمن بدون دعوة من رجل دين سني أو شيعي، بل بفطرة صافية وإيمان عميق بأنهم شعب واحد، لا يرتب الاختلاف الطائفي أي استحقاقات لهذا الطرف بالضد من الطرف الاخر. كان المواطن من هذه الطائفة يدخل مسجد الطائفة الاخرى وهو مار في الطريق، حين يحكم موعد أداء الفرائض، وكان المواطن يقيم مأتمه في قاعات مساجد الطائفة الاخرى بدون حرج، لكن صناعة الاختلاف هي التي قادت إلى اعتبار أماكن العبادة هي مختلفة أيضا. يقينا لا يستطيع أحد أن يبرئ الساسة من هذه الصناعة البائسة، كما لا يستطيع أحد أن يعطي صك البراءة لبعض رجال الدين من الفعل نفسه، لأن الكثير منهم انخرط في أجندات سياسية، وباتت قيم الدين لديه سلالم يرتقي بها الزعيم السياسي الذي يتبع نهجه، ويسفه بها الزعيم السياسي الاخر الذي لا يتفق سياسيا معه.
إن الكارثة العراقية بحاجة ماسة إلى رجال دين من صنف الاوائل، الذين وحدوا أمما وأقواما مختلفة في اللغة والتاريخ والثقافة، وصنعوا منهم أمة واحدة بحجم الامبراطورية الاسلامية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: