البرهنة على أن الاستقرار ليس خيرا كله وأن العنف ليس شرّا كله
فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7864
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
هناك مغالطة كبيرة تستعمل من طرف كل من له مصلحة في الحفاظ على الموجود، تقول خلاصتها بقبول الواقع على خطورته، ورفض التغيير درءا لخطر أكبر محتمل.
ففقهاء السلطان يفتون وينتجون أراء ينسبونها للشرع تسفه الثوار والقاصدين تغيير الواقع، بزعم أن قبول المنكر الحالي أفضل من الدخول والوصول لمنكر أكبر من جراء ما يسمونه خروج عن الحاكم وإحداث الفتن بزعمهم.
ولكن هؤلاء المتحيلين لم يقولوا لنا لماذا افترضوا وكيف برهنوا على أن المنشود وهو مجهول، كيف سيكون منكرا أكبر من الواقع، أي أنهم يقومون بمصادرة على المطلوب، فكلامهم منطقيا فاسد وبالتالي فلا قيمة له، ولكنهم يجدون من يردد أقوالهم.
هذه الحجة هي التي تستعمل في رفض من ينتفض ضد الواقع السياسي، وهي الحجة التي تنتج الرأي الفقهي القائل بوجوب قبول الحاكم الظالم، بل وحتى قبول الحاكم الكافر، مثلما أفتى بعض فقهاء آل سعود حينما اعتبروا "بول بريمير" حاكم بغداد إبان الاحتلال الأمريكي ولي أمر، يجب طاعته، لان الخروج عليه سيجر مفاسد اكبر من وضع القبول به.
والغنوشي كبير النهضة، برر التفافه على الثورة، بالزعم أن النهج الثوري سيدخل البلاد في المجهول وسيجر مفاسد كبيرة، وأن الاستقرار على علاته خير من منكر أكبر يأتي من خلال المنهج الثوري، وهنا أيضا لم يبين لنا الغنوشي بأي الطرق برهن على أن مجهولا لم يقع بعد سيكون اشد سوءا من الواقع، فكان كلامه مبنيا على مصادرة، فهو إذن من دون قيمة، وهو مجرد مغالطة، ولكنه يجد من يردد ويتبني مغالطاته.
بالإضافة إلى فساد هذه الآراء منطقيا، فإنها تعتمد على مغالطة فحواها أن الاستقرار على إطلاقه جيد، ولذلك يطلب الاستقرار بكل الأثمان ويفضل على كل وضع مضطرب، وبالمقابل فهم يزعمون أن التغيير ومشتقاته كالثورة والعنف هي سيئة على إطلاقها، ولذلك فكل ما يجر لهذه المعاني فيجب أن يكون محل رفض بالنتيجة.
في ما يلي، سأبرهن على فساد هذا الرأي، أي أن الاستقرار ليس كله خيرا و أن العنف ليس كله شرا.
أولا نسبة للحكم بالجيد والسيئ، بما أن الاستقرار قرين الجيد، وأن الثورة والفوضى والعنف قرين السيئ.
- من حيث زاوية النظر، فإن الحكم بالسيئ والجيد، يعكس موقف طرف ما، ولما كان موقفا إزاء الغير وإلا لما كان من داع لاتخاذ موقف، فذلك يعني أن هناك طرفا آخر يرى عكس ذلك الرأي، فثبت أن الحكم بالجيد والسيئ ليس كذلك على إطلاقه.
- من حيث الزمن، فإننا لو أخذنا أمرا ما موجودا بالواقع، ونظرنا له على محور الزمن الموازي لوجوده، فإننا سنلاحظ أن قبول الواقع له ليس خطيا أي ثابتا، ذلك أن البداية على محور الزمن (أي بداية النزول والظهور بالواقع) ستكون مقرونة بالرفض، حيث أن نسبة الرفض ستكون اكبر من نسبة القبول، فالحكم بالسيئ سيكون اكبر من الحكم بالجيد أول الوجود.
هذا يعني أن الحكم بالجيد والسيئ حكم زمني متغير، معنى ذلك أنه ليس ثابتا زمنيا، فثبت أن الحكم بالجيد والسيئ ليس حكما مطلقا في كل الأحوال والأزمان.
ثانيا، نسبة للحكم على الاستقرار والثورة والعنف مباشرة، أي أصل الموضوع
- من حيث الوجود، الاستقرار لم يأخذ اسمه إلا من نقيضه وهو الفوضى والعنف والثورة، حيث إما أن المقابل ليس موجودا، فلا معنى أن يسمى الحال استقرارا مادام استقرارا أبديا، وإما أن يوجد مقابله، فثبت وجود العنف والثورة المقابل للاستقرار.
لو أخذنا وضعا ما، ولما كان هناك عنف وفوضى مقابلا للاستقرار، فذلك العنف هو بإزاء طرف ما، فثبت وجود طرفين وحكمين، فالحكم بالاستقرار موضوع تغيير من الطرف الذي يقوم بالثورة، والحكم بالعنف ليس مقبولا من هذا الطرف ذاته، والعكس بالعكس.
إذن الشيء الثابت هو وجود الاستقرار والعنف والثورة مقابله، لكن ما هو غير ثابت، هو القبول بذلك أو رفضه، فالذي يقوم بالعنف ولا يقبل بالاستقرار لمصلحة ما، غير من يقبل بالاستقرار ويرفض العنف.
معنى ذلك أن الحكم لا يصح إلا بإثبات عملية الاستقرار أو العنف والتغيير مادام الحكم بأيهما يصح أو لايصح لايجوز لنا من الخارج، لأن إطلاق رأي بذلك حكم ذاتي غير موضوعي.
فالقول برأي ما أولا لايجوز منطقيا لأنه لايوجد مرجح يرجح كفة إحتمال دون الآخر، وثانيا إن وقع إعطاء رأي فهو تبني لموقف طرف دون آخر، إذن فالقول بان الاستقرار على إطلاقه جيد، ليس رأيا موضوعيا، وإنما هو رأي مصلحي فئوي كأن يكون موقفا حزبيا أو طائفيا أو ايديولجيا، فهو رأي غير علمي لامبرر لإعطائه قيمة.
- من حيث أصالة المعنيين الاستقرار من جهة والعنف والثورة من جهة ثانية، فوجود الاستقرار والدفاع عنه، يعطي مصداقية الوجود للتغيير والعنف والثورة، ما دامت هذه المعاني تكتسب في الحد الأدنى شرعية الوجود من تهديدها للغير، ويبقى فقط إثبات الصلاحية فذلك أمر يكفي فيه وجود أنصار التغيير المقتنعين به، فثبت أن التغيير ومشتقاته أصيل مثل أصالة الاستقرار، وأنهما على نفس مستوى الأهمية إما لاعتبار تغير زاوية النظر كما بينت من قبل، وإما من زاوية نظر واحدة وهو المعنى الذي فسرته الآن.
- من حيث العملية واقعا، فإن الاستقرار منتج بتراكم البناء والمواقف عبر الزمن، مما يعني أن الواقع يصبح معطى بذاته لتكريس موقف دعاة الاستقرار، ذلك أن هدم الواقع يتطلب مجهودا مضافا، فثبت أن الحكم بصوابية الواقع لاينبع بالضرورة من صحة منطلقاته النظرية وإنما مما هو موجود فعلا، فالفعل يحمل في ذاته دليل برهنة تعاضد أو تغالب المفهوم النظري، فالفعل المنزل واقعا مستقل من حيث البرهنة عن الأساس النظري خاصة لدى أصحاب الخلفيات العقدية التي تتخذ أصالة الواقع منطلقا عكس من يتخذ أصالة الفكرة.
فكلما تفاقم فعل الأمر الواقع، أصبح الاستقرار عامل برهنة على صوابية مزعومة للمنطقات التي دشنت الواقع.
نفس هذا المنطلق الفلسفي الذي يعتمد عليه ضمنيا دعاة الاستقرار، يصبح منطلقا لدعاة الثورة لتفعيل مواقفهم، ذلك أن تنزيل أعمال الثورة هو الصورة الأخرى المتأخرة زمنيا عن إيجاد الاستقرار، فالاستقرار هو واقع متراكم عبر الزمن بالفعل وبما انتجه من تصورات مستقلة عن الأسس النظرية، ولما صح التأسيس للواقع لطرف ما، صح للطرف الآخر التأسيس لواقع مغاير ولكنه متأخر عنه زمنيا إذ لا يوجد مرجح يفسر تغليب احتمال دون الآخر، فثبت أن أعمال التغيير والثورة لها نفس القوة المنطقية التي للإستقرار.
- من حيث الفاعلية، فأعمال الثورة والعنف أعمال بناء ببعض المعاني، ذلك أن البناء إما أن يكون انطلاقا من لاشيء وإما انطلاقا من بعد هدم موجود.
أما الحالة الأولى فهي تتعلق بالحضارات البدائية، أما الثورات التي تأتي برسالة وتنشد تغير واقع، فانه ينبغي عليها رفض ما هو موجود من ذلك الذي يغالب ويخالف منطلقاتها، لكي يمكنها البناء من جديد.
والرفض إما أن يكون لأمر يتقاطع معه ويمكن قبوله أو لا، أما الأول فأمر يمكن استيعابه خلال نفس المنظومة، أما الحالة الثانية فيلزمها عملية رفض بالهدم والإلغاء، فكان معنى ذلك أن الهدم والإعدام أمر واجب في تلك الحالة.
والهدم يستتبع عموما أعمال العنف ومشتقاته، فثبت إذن أن أعمال الثورة تستدعي العنف، وأن تلك الأفعال هي أعمال بناء ثوري وحضاري.
شاهد ذلك أن الحضارت كلها عبر التاريخ لم تخل من العنف لا محالة، وحضارة الإسلام ذاتها لم تبن إلا بالعنف مع الكفار، وهكذا كل الحضارات حتى نصل للثورات الحديثة كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية والثورة الإيرانية، فهي كلها استعملت العنف لهدم الأسس الموجودة سابقا ليمكنها التأسيس لمبادئها من جديد.
فثبت إذن أن العنف ليس سيئا على إطلاقه وأن الاستقرار ليس جيدا على طلاقه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: