فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6538
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تحدث محمد الطالبي بكلام دافع به عن الداعرات وبرر من خلاله الدعارة، وكان يمكن اعتبار ما قاله مجرد لغو يمضي من دون أهمية مثله مثل سفاهة أو لعله نقص أوتيه القائل بحكم سنه المتقدمة، لولا أنه قد عمل على إظهار قوله أنه مبرر علميا معتمدا على آية قرآنية فسرها على أنها لا تمنع الدعارة ولا تلزم النساء بالتعفف كما زعم، والجزء من الآية التي اعتمدها هي: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا" النور: 33.
ولما أن ورد مجال التبرير فيجب التصدي له بالحجة لتبيان فساد دعوته، وهو ما سأحاول فعله:
- كلام الطالبي أعتمد على مغالطات، والمغالطة لا يمكن تبيانها ودحضها إلا من خلال أداة المنطق وما شابهه كالرياضيات.
- العلوم مهما تنوعت تنبني من طبقات، تكون طبقتها الأولى وجوبا ذات أساس عقلي، مشيدة على البديهيات العقلية الأولى التي تمثل أصل القواعد المنطقية.
- ثم تنتهي تلك العلوم لطبقات علوية تكون مختصة بميدان العلم كالطب أو علوم اللغة أو علوم الشرع وغيرها، وعليه فإن أي علم يمكن محاججته والحكم عليه ابتداء، اعتمادا على قواعد المنطق، وإذا ثبت فساد قواعده فلا معنى لنقاش طبقات العلم العليا المتخصصة لأنها ستكون فاسدة إطلاقا وخاطئة نسبة لقواعده الذاتية أي قواعد ذلك العلم لزوما.
- صحة الطبقة العقلية الأولى تثبت حتى في المنهج التجريبي المادي الرافض للقبليّات العقلية، حيث لا يمكن تبرير ذلك المنهج إلا بوجود مقدمات عقلية للحكم، سابقة على التجربة وإلا لما أثبت نفسه كمنهج، وهو ذاته يعتمد القواعد العقلية للحكم على صحة تجاربه.
- معنى ما أقول انه يمكنك مثلا أن تثبت فساد كلام فقيه أو متحدث في الدين من دون أن تكون متخصصا في علوم الشرع بل يكفيك أن تكون ملما بقواعد المنطق والرياضيات، وذلك إذا اثبتّ أن كلامه فاسد منطقيا من قبل أن تتحدث في محتوى المتن الشرعي أي محتوى الحديث مثلا (بهذه القواعد يمكن أن أثبت أن العديد من الأحاديث المتداولة موضوعة لأنها لا تصح منطقيا ويستحيل أن يقولها معصوم مسدد بالوحي)، كل ذلك من دون الاعتماد على منهج علم الحديث المبني ذاته على قواعد منطقية، ولكنها قواعد يمكن أن نبرهن الآن أنها قاصرة تنقصها عوامل أخرى لتصبح أكثر مصداقية، كوجوب اعتماد محددات أخرى منها قاعدة تعارض المصالح للراوي مع موضوع الحديث، ثم النظر في مدى تواصل الصفة في الزمن أي صفات الصدق والحفظ والاستقلالية وتصنيف الحديث اعتمادا على هذا الاعتبار، وأخيرا قاعدة هامة أخرى يمكن إضافتها وهي وجوب عدم فساد الحديث منطقيا (*)، علما أن هذه القاعدة لا تستلزم بالضرورة الصحة العقلية، لأن المنطقي يمكن أن لا يكون معقولا، وكل ذلك بقطع النظر عن سند الحديث، وغيرها من القواعد المفقودة حاليا في هذا العلم.
- وبالمنطق يمكن أن نثبت فساد المنظومات الفكرية القائلة بوجوب الالتزام بمفاهيم المنظومة الكونية عوض تلك الإسلامية، ويكون ذلك بمجرد إثبات أنها مصادرة على المطلوب لا تصح منطقيا وأن ما ينتج عنها لا معنى له، من دون حاجة لنقاشها من الداخل مثلما يفعل الكثير الآن حين الرد عليهم.
الرد على الطالبي
- الآية تقول لاتكرهوا فتياتكم على البغاء، فاستنتج الطالبي أن منع البغاء يختص بمن هن موضوع إكراه، فالبغاء كما يزعم حينما لا يكون بإكراه لا حرج فيه، ورأيه كمن يستنتج من قول لا تكرهوا أبنائكم على السرقة، إباحة للسرقة مادامت من دون إكراه، هذا من البداهة واضح الفساد، ولكن لنبين ذلك عقليا.
- المسألة فيها أمران، البغاء وإتيان البغاء، أو بدقة أكبر هناك مضاف وهناك مضاف إليه، وهذا الأخير سابق في الوجود عن الإضافة، وإذا نظرنا نسبة للتأثير الكامن، نجد أن التأثير يأتي من المضاف إليه تجاه الإضافة وليس العكس، وأول التأثير هو الوجود، فلولا وجود البغاء كمفهوم لما وجد تحريم أو حديث عن إكراه، إذن هناك علاقة في اتجاه واحد من الأعلى للأسفل، وهي عموما العلاقة التي تربط الفعل بمضافه، فالأمران عبارة عن دالتين تتحركان في مجالان مختلفين لو نظرنا لهما من زاوية علم الرياضيات.
- الأمر المضاف الذي هو إمكانيات فعل البغاء يتراوح نسبة للوجود بين العدم وبين الفعل التام، ونسبة للإرادة بين الإكراه وبين الاقتناع، ولكن كل هذه الحالات ما هي إلا نسب مضافة لشيء ثابت كمفهوم محوري وهو البغاء، وإلا ما وجد أصلا ذلك التفاوت بل ما وجد أصلا مفهوم الإكراه، فأن يكون إكراه على البغاء أو بغاء من دون إكراه لاعلاقة لذلك بكون ما وقع هو بغاء من عدمه.
- من زاوية المعنى، يمكن أن نفرق بين البغاء كمفهوم مجرد وبين البغاء كفعل يأتيه الناس، أما الأول فشيء مستقل مجرد هو من يعطي لأفعال الناس معنى أنها بغاء من عدمه، ولا يمكن للأفعال أن تغير المفهوم لأنه أمر محدد من خلال خلفية عقدية وليس من أراء البشر، وكما يقول الفلاسفة الأول مفهوم بالقوة والثاني مفهوم بالفعل، وما هو بالقوة أشمل مما هو بالفعل.
- أما منطقيا، فليس هناك علاقة وجود المضاف إليه نسبة للإضافة إلا إذا كان المضاف في وجوده يقرر وجود المضاف إليه، ساعتها فقط يصح نفي المضاف إليه بعدم المضاف، ولكن هذه ليست حالتنا، كما بينا في نفي وجود تلك العلاقة.
- بمعنى، لو قلنا مثلا أن المضاف وهو طريقة ممارسة البغاء بالإكراه أو بالحرية، هو من يقرر معنى المضاف إليه أي العملية الجنسية هل هي بغاء أم لا، فساعتها حينما تنتفي الصفة عن المضاف أي الإكراه عوض الحرية، ساعتها يتأثر المضاف إليه وهي العملية الجنسية فتصبح ممارسة عادية بدل الإكراه، ولكننا لا نعرف أن مفهوم البغاء مرتبط في وجوده كمفهوم بطريقة إتيانه إكراه أو حرية، فيبقى البغاء بغاء بقطع النظر عن طريقة تجسيمه.
- على أن طريقة إتيان الفعل، لما اختلفت بين الإكراه والإرادة، فإن ذلك يلحق تأثيرا على آتي الفعل، فهو في الإسلام قد يغفر له لما كان مكرها ولكن ليس لهذا أي علاقة بالحكم المستوجب نحو البغاء ذاته.
- يواصل الطالبي في مغالطاته، ويزعم أن وجود شرط ممثلا في قوله تعالي: إن أردن تحصنا، أن النهي كله متعلق بشرط إرادة التحصن، فإذا لم ترد الفتاة التحصن فليست معنية بالنهي ولا يجب اعتبارها بغيا.
- هذه مغالطة أخرى يمكن إلحاقها من حيث علاقتها بمسألة البغاء من عدمه بالنقطة السابقة، مادامت إرادة التحصن من عدمها تتعلق بالفعل أي بالمضاف وليس لذلك أي علاقة بوجود مفهوم البغاء ذاته، فتغير درجات إرادة التحصن بين العدم والوجود التام لا اثر له على كون العملية بغاء من عدمها.
- أما من حيث تأثيم العملية، فتحريم البغاء كما قلنا سابقا تابع لمفهوم البغاء الذي هو متأت من خلفية عقدية، ولا ربط لذلك التحريم بإرادة الناس، فالتحريم تابع للمفهوم، ولما ثبت انتفاء تعلق وجود المضاف إليه بوجود المضاف أي افعال الناس، ثبت أن لا تأثير لصفة الإرادة على مفهوم البغاء ومن هناك على تحريمه.
- وثبت بالتالي فساد كلام الطالبي
-----------------------
(*)
مثلا الحديث القائل: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ، هذا الحديث لا يصح منطقيا في شطره الثاني و لا يمكن أن يقوله مسدد بالوحي، لأن نفي البدل المنطقي هو الجمع المنطقي، فالحديث في شطره الثاني لكي يكون صحيحا يجب أن يكون: خير من الذي لا يخالط الناس أو لا يصبر على أذاهم، كأن نقول يقع قبول المترشح المتحصل على شهادة الأستاذية وله خبرة سنتين، ونفي ذلك، هو أن نقول: لم يقع قبول المترشح لأنه ليس له شهادة الأستاذية أو ليس له خبرة سنتين، ولا نقول انه لم يقبل لأنه ليس له شهادة الاستاذية وليس له خبرة سنتين، لان الجمع المنطقي هو حالة أضيق من البدل، والقاعدة حينما تعطى تعطي بعمومها، إلا أن يكون الأصل هو البدل فيكون النفي هو الجمع، لكن الحديث المزعوم في شطره الأول مقدم على صيغة الجمع المنطقي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: